موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

د. مداد هوفمان
الحرب المقدسة في زعمهم

 

إن الظاهرة التي يطلق عليها المستشرقون وغيرهم خطأ مصطلح "الحرب المقدسة" ظاهرة عرفها الإسلام حقاً، وذلك بتسيير الحملات والجيوش يحدوها الحماس الديني، ضد شعوب وممالك ودول غير إسلامية0
أما بالنسبة لحل المشكلة الأخرى المرتبطة بما يسمى الحرب المقدسة، نعني إمكان كون الإسلام مشتملاً على جانب عدواني البنية مستعدٍ للعنف، فيمكنني التهرب من الإجابة بالاكتفاء بالمعنى اللغوي للفظة الجهاد ومشتقاتها، كما وردت تلك المشتقات في القرآن.
لكن ماذا عساه التهربُ أن يفيد؟! وما جدوى أن أبرهن على أن معنى "الجهاد في سبيل الله" هو جهاد للسمو الأخلاقي بالنفس لمعرفة الله كما يذهب الصوفيون، أو أنه جهاد النفس، الأكبر وأنه ليس جهاداً ضد الكفار والمشركين وأمثالهم؟!
فالواقع الذي لا مناص من الاعتراف به أن الجهاد، كما نعرف من كتب التاريخ الإسلام، كان يعني في الأغلب الأعم جهاد الكفار والمشركين، ومقاتلتهم حتى يقولوا لا إله إلاّ الله، وهو جهاد حربي يُعِدُّ فيه المسلمون لأعدائهم ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل، وأن ذلك الجهاد قائم على أساس قرآني... بل إن الجهاد الحربي بهذا المعنى عده بعد الفقهاء في القرون الوسطى الأساس السادس، أو سادس الأسس الخمسة التي بُني الإسلام عليها.
هذا المعنى أثاره وألحّ عليه قبل وقت قصير، بصراحة ودون هوادة، الأبُ الكاثوليكي هانز فُوكنج، محاولاً إيقاع المسلمين في مأزق يظنُ ألا مخرجَ منه، وذلك بقوله: "إن الجهاد لا يعني سوى مجاهدة الأعداء دفاعاً عن النفس والوطن وغير ذلك، أو أنه جهاد النفس، إنما ينكر ما نص عليه القرآن، وما أقرته السنّة فيما انتهت إليه.
بمعنى آخر، يريدُ الأب القسيس الكاثوليكي القولَ إن المسلم الذي يرفض اليوم نشر الإسلام بحد السيف أو شن الحروب على غير المسلمين ليسلموا، ليس مسلماً حقيقياً، وأقصى ما يوصف به أنه إنسان مسلم فقط، أما لو أراد أن يكون مسلماً حقاً، فإن عليه أن يعمل على تنفيذ آيات القرآن التي تستنفره لسفك دماء غير المسلمين على حد زعم الأب الكاثوليكي المذكور، مستشهداً بالآيات التالية.
الآية الخامسة من سورة التوبة ْ{فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و أحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد..} والآية الثالثة والسبعين من سورة التوبة أيضاً: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم...} والآية الرابعة من سورة محمد: {فإذا لَقلِيتمُ الذين كفروا فضرْب الرقاب حتى إذا أثخنتموهُم فشدُّوا الوثاق...} ولا تعليق هنا إلا أن نذكر أن هذه الطريقةَ الفِجَّعةَ في البرهنة على أن شن الحروب على غير المسلمين بلا هوادة فرضٌ على كل مسلم ومسلمة، طريقةٌ متجنيةٌ، فليس من البرهنة العلمية أن يقتطع أحدٌ آية أو آيتين مُجرِدا ذلك من السياق الكلي، ومن المناسبة التاريخية وأسباب النزول، ثم يبنى على ذلك حكماً ظالماً كالذي زعمه الأب الكاثوليكي، الّلهم إن أحبَّ ذلك القس أن يرى في الآية المنسوبة للمسيح، الواردةِ في إنجيل متّى الإصلاح العاشر رقم 24 وما بعدها (لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً...) دعوةً صريحةً تستند إليها المسيحية لشن الحروب التيى لا تبقي ولا تذر.... وربما رجع القسيس الأب إلى أقوال مارتين لوثر في هذا الصدد، فتبريرها للحروب المقدسة المسيحية أيسر بكثير!
إن السؤال الجاد الذي نطرحه هو: كيف يتعامل الإسلام واقعياً مع القانون الدولي للحرب على أساس الآيات القرآنية وحده؟.
إن القرآن يفرض على امداد أياته، السلم أو السلام، ولا يسمح بالقتال أو الحروب إلا دفاعاً عن النفس والأهل وغير ذلك مما لا يعدّ عدواناً، بل رداً لعدوان المعتدي، وإن أولى الآيات في هذا الصدد الآية التاسعة والثلاثون من سورة الحج: {أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلِموا، وإن اللهَ على نصرهم لقدير}، ثم تلت ذلك الآية المائة والتسعون من سورة البقرة: {وقاتِلوا في سبيل اللهِ الذين يُقاتِلونكم، ولا تَعدُوا إن اللهَ لا يحبّ المعتدين}، بل إن القرآن بعد أمره المؤمنين ألا يعتدوا، عَقَّبَ في الآية التالية رقم 191 مواصلاً الحديث عن دفع المعتدين البادئين {واقتلوهم حيث ثَقفتُموهم، وأخرِجُوهم من حيثُ أخرجُكم، والفِتنةُ أشدُّ من القتل...} كما ألحّ القرآن من جديد على تحريم الحرب العدوانية، فحرّم على المؤمنين أن يحاربوا من لم يحاربهم ولم يعتد عليهم {... ولو شاء اللهُ لسلَّطلهم عليكم، فلقاتلوكم، فإنِ اعتزلُوكم فلم يُقاتِلوكم، وألقوا إليكم السّلم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} (النساء الآية 90).
وحتى لا تبقى زيادة لمستزيد، نجد القرآن يستوصي خيراً بغير المسلمين المسالمين للمسلين، كما نصت الآية الثامنة من سورة الممتحنة: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم، وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين}.
إن من الهراء السخيف الذي لا يصمد لأي تمحيص أن يزعم زاعم أن القرآن متناقض متعارض في نصوصه عن سلوك المؤمنين ومعاملاتهم في الحروب.
ومن الهراء السخيف كذلك تصور القرآن، كما زعم الأب القسيس الكاثوليكي هانز فوكنج، يطلب إلى المسلمين أن يتعقبوا غير المسلمين من المشركين والكفرة، ليذبحوهم ذبحاً، ويقتلوهم حَيث ثقفوهم، متعطشين لسفك الدماء، أثناء السلام.
ومن الهراء غير المعقول أن يتصور بعضهم أن القرآن يأمر المسلمين بالجهاد ليجبروا الجماهير من غير المسلمين على اعتناق الإسلام، بينما القرآن يرفض أساساً استخدام العنف أو نحوه لإكراه غير المسلم على اعتناق الإسلام، أليس هو القائل في الآية السادسة والخمسين بعد المائتين من سورة البقرة: {لا إكراه في الدين، قد تبيّن الرشد من الغيّ..}، بلى!
كذلك، فما من أحد ينكر أن التاريخ الإسلامي، غير ذي الخطورة والأهمية التي كانت له قديماً، لم يعرف حتى إبان سطوته واتساعه، الحروبَ العدوانيةَ البربريةَ التي شنتها القوى والدول الإسلامية في غزوها للعالم، وأن الفتوحاتِ الإسلامية التي عرفها عصر الرسول وما تلاه مباشرة، لم تتم، كما يزعم أعداء الإسلام، بحد السيف... هذا، وإن النبي (ص)، قد حرص على التنبيه على أمراء الغزوات وجندهم ألا يغلوا ولا يغدوا ولا يمثلوا ولا يقتلوا وليداً أو امرأة، وذلك في سَوْرَةِ المعركة أو بعدها، فقد كانت هذه الغزوات والسرايا وغيرها تنطلق من الموقف الدفاعي، الذي يبرره القرآن، لا الموقف العدواني... وإنه لمن الثابت المتواتر تاريخياً أن مكة هي التي بدأت بشن الحرب على النبي، وعلى المسلمين الأوائل.
أمّا بقية المقومات التي يستند إليها حق الدفاع فنوجزها في العجالة التالية:
1) من الواجب المفروض على الأمة الإسلامية أن تكون دائماً مسلحة تسليحاً كافياً في أوقات السلام، وأن تكون دائماً على أهبة الاستعداد، وذلك لرد وصد أي عدوان طارئ، وليرتدع من يفكر في الاعتداء عليها، فيرهب بأسها وعاقبة عدوانه، وذلك عملاً بالآية الستين من سورة الأنفال: {وأعِدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رِباط الخيل، تُرهبون به عدوَّ الله وعدُوَّكم، وآخرِين من دُونهم لا تعَلمُونهم، اللهُ يعلمُهم، وما تُنفِقوا من شيءٍ في سبيلِ اللهُ يُوفَّ إليكُم وأنتُم لا تُظلَمون}.
2) في حالة تورط دولتين حليفتين في الحرب، فيجب على الدولة الإسلامية الالتزام بنص المعاهدة مع الحليف، فلا تساعد الحليف وإن كان مسلماً، إذا كان ذلك يخلّ باتفاقيتها مع حليف آخر بينه وبينها اتفاقية سلام، حتى لو كان الطرف الحليف في اتفاقية السلام غير مسلم، وهذا في حد ذاته كان تجديداً ثوريّاً أتى به القرآن في قوانين الحرب، يدل عليه قوله تعالى: {.. والذين آمنوا ولم يُهاجِروا ما لكم من ولايَتِهم من شيءٍ حتى يُهاجروا، وإن استنصَروكُم في الدين فعليكُم النصر، إلا علَة قومٍ بينكُم وبينهُم مِيثاق، واللهُ بما تعملونَ بصير} (الأنفال، الآية الثانية والسبعون).
3) المسلم ملزم بأداء الخدمة العسكرية، وملزم بالدفاع عن نفسه،
4) لا يجوز أن يتحارب المسلمون مطلقاً، كما نصت الآية الثانية والتسعون من سورة النساء: {وما كان لمؤمنٍ أن يقتلَ مؤمناً إلا تخطأ...}.
5) إعلانُ الجهاد، أي مدافعة المعتدين وحربهم حرباً شاملة للدفاع عن الإسلام وحِماه، ليس من حق أحد سوى الخليفة نفسِه أو أميِر المؤمنين.
6) لا يجوز في الحرب قتلُ الأطفالِ وغيرِ القادرين عن الاشتراك في الحرب من العجزة وأمثالِهم، ولا يجوز الإتلاف الاقتصادي أو إبادة الغلات ونحوها، مما يشكل مصدراً أساسياً للرزقز
7) يجب قبولُ السلام إن أبدى العدو رغبةً صادقةً في ذلك، كما نصت الآية الحادية والستون من سورة الأنفال على ذلك {وإن جنحوا للسِّلمِ فاجنَحْ لها، وتوكّل على اللهِ...}.
8) يجب تخيير المحاصَرين بين قبول الإسلام أو الإسلام أو الاستسلام والخضوع دون قتال، وذلك قبل شن الهجوم عليهم، واقتحام حصونهم.
الشهادة جزاؤها الجنّة، فقد نصت الآية المائة والرابعة والخمسون من سورة البقرة على ذلك: {ولا تَقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ، بل أحياء ولكن لا تشعرون} كذلك نصت آيات أخرى على أن من يقتل في سبيل الله يُؤتى أجراً عظيماً، مثلاً الآية الرابعة والسبعون من سورة النساء.
----------------------------------
المصدر: الإسلام كبديل

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة