موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

الشيخ محمد مهدي شمس الدين
اشكالية المفاوضات تسوية ام شرعنة واقع

إن العصر الحالي ليس عصر التسوية وأن ما يجري الآن ليس تسوية بل هو شرعنة للوضع القائم الذي هو عبارة عن الهزيمة.
فالتسوية عادة يحتفظ فيها أهل الحق ببعض حقهم وتكون بين أصحاب الحقوق قد
يجوز أحدهم على الآخر فتكون التسوية بينهم ويجوز بعض أهل الحق على بعضهم، فيأخذ أكثر مما له، أما أن يكون هناك تسوية بين اللَّص وصاحب الحق ويقال عنها أنها تسوية ولم يحصل صاحب الحق على شيء على الإطلاق!.
إن ما جرى ويجري منذ ما قبل مؤتمر مدريد وتحديداً في كامب ديفيد وبعدها إلى الآن في واشنطن، من الناحية الموضوعية، ليس تسوية، وإذا أردنا أن نسمي الأشياء بأسمائها فان الذي يجري هو شرعنة للوضع اللاشرعي، الذي فرض والذي يراد له أن يأخذ صفة قانونية، وهذا اصطلحنا عليه بأنه ما تقضي به ضرورات الأنظمة ويراد ما هو أكثر من ذلك أن يعطى صفة شرعية وأخلاقية عن طريق التطبيع.
فالعرب لم يحصلوا على شيء إن كانت القضية الفلسطينية قضيتهم، فالمصريون استردوا سيناء ولكنهم خسروا بعض سيادتهم وجانباً كبيراً من كرامتهم وهكذا الشأن عند اللبنانيين والسوريين والأردنيين.
أما عند الفلسطينيون فأمرهم أجلى من أن يحتاج إلى شرح. ومهزلة غزة _ أريحا التي تجري أمامنا والنزاع على عدد الكيلومترات بالنسبة لمساحة أريحا. فعلمكم به يغني عن الشرح.
إن جوهر القضية هو فلسطين وفلسطين ذهبت ولم يبق منها شيء وما يسمى أراضي عربية محتلة لن تنسحب إسرائيل منها من دون شروط أو قيود على كل دولة صاحبة أراضي وعلى مجمل الأمة العربية كلها.
إن ما يجري هو إعطاء شرعية للجريمة، والسؤال هنا هل تعطى شرعية للجريمة؟.
إن ما حصل أصبح واقعاً في عرف القانون بالنسبة إلى ما وقّع عليه الحكام المصريون وما سيوقّع عليه الحكام العرب ولكن هذا الوضع القانوني هل سيكون شرعياً عند العرب، وهل سيكتسب حرمة أخلاقية وهل حقاً ستكون الناصرة يهودية عبرية تلمودية؟. وهل حقاً ستنشأ بيننا وبين الإسرائيليين علاقات طبيعية؟. هل سيأمننا الإسرائيليون ونأمنهم وننشئ معهم نسيج حياة واحدة متلاحمة متلابسة في منطقتنا وبصورة أخرى هل سيستبدل النظام العربي بنظام شرق أوسطي؟.
فمن الناحية الفقهية، لا أستطيع أن أرى شرعية في كل ما جرى وما يجري ولا أستطيع أن أرى أية سلطة لأي شخص أو هيئة حاكمة أو برلمان أو نظام عربي تخول إعطاء شرعية للوضع المراد إنشاؤه. أما مقولة ضرورات والضرورات دائما موقوتة وليست مطلقة ولا أبدية والضرورات دائما محكومة بقدرها وهذه الضرورات لن تلغي أبدا خيارات الأمة بمشخصاتها, أفرادها وأجيالها القادمة وجيلها الحاضر.
إن ما يجري لا نستطيع أن نعترف بشرعيته على الإطلاق هو ضرورة التجأت أليها أنظمتنا ونحن نقدر هذه الضرورة بقدرها هل مسؤولية المثقف والمفكر والفقيه والقانوني والشاعر والكاتب والقاضي والمحلل الصحفي والمؤلف الموسيقي والمخرج السينمائي، هل مسؤوليتهم الآن أن ينتجوا مفاهيم وأفكار تبرر ما يجري؟ بما يصطلح عليه تكوين قناعات لأخلاقية ما يجري وما يراد إنشاؤه أو أن واجب هؤلاء أن يتكلوا من موقع خيارات الأمة وأن لا يكونوا شركاء في تكريس نتائج الضرورات، وأن يتحركوا في مشروع المستقبل وله جانبين:
الأول: تحصين الأمة من آثار الوضع القائم ومصب ذلك هو رفض التطبيع بجميع وجوهه من الأنشودة والقطعة الموسيقية والكتاب إلى الوفد السياحي والسلعة التجارية وغير ذلك.
والثاني: إعداد الأمة لما سيأتي.
وهنا وطرح السؤال الكبير عن المستقبل وماذا نصنع له.
نحن نعلم أنه في التاريخ لا توجد أشياء نهائية، إذ إن القليلين كانوا يفكرون أن الإتحاد السوفيتي سينهار في الشكل الذي انهار به، ولكن الأقل منهم كان يتوهم أنه (الإتحاد السوفياتي) سينهار بهذه السرعة وفي هذه الصورة العجائبية، وغير ذلك حدث في التاريخ القريب والبعيد، إذ انه لا يوجد شيء نهائي لا الولايات المتحدة الأميركية هي إله ثابت وخالد وأبدي، ولا النظام العلمي العالمي الجديد هو إله ثابت وغير قابل للتغيير، والذين يُغلبون هم الذين يستسلمون فقط، أما الذين لا يستسلمون فقط، أما الذين لا يستسلمون فهم لا يُغلبون أبداً، قد يموتون ولكنهم يموتون غير مغلوبين.
وأعتقد أن مسؤولية شرعية وأخلاقية تواجهنا جميعاً وهنا أتكلم بعقلية وروحية المسؤول والخائف، وعلينا رفض ما يجري لا بمعنى أن نعود إلى سياسة الإنتحار الذاتي على طريقة أن يحارب بعضنا بعضا أو أن نحارب أنظمتنا على رغم كل الإستنكار والإستغراب الذي ووجت به مقولتي من الهدنة مع الأنظمة فما زلت أصر عليها وأطلب من أي من يعترض أن يذكر لي بديلاً عنها في ما أعيه، وأعتقد في ما تعونه أو يعيه كثير منكم وفي ما أرى أن أحد أهم أسلحة عدونا كان هو أسلوبنا في التعامل مع بعضنا، في تعامل قوى الأمة العربية بعضها مع بعض، وفي تعامل الشعوب مع الأنظمة، وفي تعامل الأنظمة مع الشعوب، وفي تعامل الأنظمة بعضها مع بعض.
إن أية ملاحظة بسيطة لسجل التسليح منذ 15 عاما إلى الآن وقراءة الأرقام "الفلكية" من نفقات التسليح، ورؤية كيف استخدم هذا السلاح من الناحية السياسية كقوة سياسية وميدانية، لَيكشف أن أحد الأسلحة التي استخدمتها إسرائيل ضدنا هو استخدامنا لأنفسنا ولأسلحتنا ولعلاقات بعضنا مع بعض.
إن الإسلام لا يصالح إسرائيل والعروبة كذلك والمسلمون ومن ثم العرب لا يصالحون إسرائيل. يمكن لأنظمتهم أن تفعل، أما الأمة فلا.
من هنا فإن النخبة العربية، وأنا أسأل فيما أتكلم إلى نماذج منهم رجالا ونساء، أيها الفقيه أو القانوني أو الشاعر أو القاص أو الرسام أو الموسيقي أو المخرج السينمائي، كيف ستكتب؟ وماذا ستكتب؟ بماذا ستبشر؟ ما هي قضيتك؟ هل القضية هي أن تدجن أمتك على هذا الذي يجري؟ أو القضية هي أن تحصن أمتك من آثار ما يجري؟.
في إيماننا أن الله سبحانه وتعالى يصطفي الناس أشخاصاً وجماعات وأجيالاً وأن شخصاً أو جماعة أو جيلاً إذا فشلوا في مسيرة وقضية الإصطفاء يستبدل الله بهم غيرهم من المصطفين. وإذا أراد هذا البديل أن يكون مصطفى فينبغي أن يقوم بواجبه في تحصين هذه الأمة. نحن لا نزال بخير إذ أننا أكثر عدداً وأقوى مدداً وأكثر ثروة ولكننا نحتاج فقط إلى أن نستعيد ثقتنا بأنفسنا.
والمنازلة بيننا وبين عدونا في معادلة الفانتوم والميراج والمدفع 155 والدبابة أقول إننا فشلنا فيها والآن إسرائيل دولة نووية ونحن لا نملك شيئاً من هذا السلاح الجديد، نحن نملك ونستطيع أن نحصن أنفسنا. والشعار الذي تحمله أنظمتنا هو أننا نسعى إلى السلام في حين أن الإسرائيليين لا يسعون إلى السلام وإنما يسعون إلى التطبيع وإلى أن يدخلوا في نسيج حياتنا ويشاركوننا كل شيء، من هنا فإن الإنتصار قائم على تفريغ الصيغ التي يزمع إنشاؤها من مضمون التطبيع. وكنت أعتقد وأمدح الشعب المصري لناحية فشل سياسية التطبيع بالنسبة إليه إذ إنه كان يقال لي إن حجم التبادل مع مصر لا يتجاوز ال 6 مليون دولار في السنة وقد فوجئت بعدما تبين لي أن حجم التبادل يصل إلى مئات الملايين من الدولارات على رغم أن هذا المجتمع له تقاليده.
ولذلك لا آمن أن تترك المسائل على سجيتها ومن غير تصدٍ لأنه حينئذاك يكون الإنتصار الصهيوني شاملاً وكاملاً.
--------------------------
الصدر:التطبيع بين ضرورات الأنظمة وخيارات الأمة

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة