موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

ابو يعرب المرزوقي
الوجه العرضي من العولمة

 

ليست العولمة مشكلاً كونياً بل هي مرض أوروبي عربي لم يَرْقَ إلى إدراك الإشكالية الميتافيزيقية التي تتعلق بضروب الكونية. لكن العلل التي جعلتهم يتصورون هذه العولمة ظاهرة مطلقة فلا يثيرون إشكالية شرط تجاوزها ولا يبحثون في الأساس الميتافيزيقي لهذا الضياع الإنساني، تعود إلى كون النخب في هذه البلاد لم تتكيف في الإبان مع هذه العولمة ولم تبحث في جوهر المشكل. إنه أمر خاص بنخب فاشلة وليس بحثاً في طبيعة الإشكالية في ذاتها. والنخب العربية قد غاب عنها مميزات العولمة الأساسية التالية:
أ_ فالنسبة بين إطلاق العولمة الإمكاني وحصولها الفعلي كالنسبة بين العلم الحقيقي والعلم الخيالي. فبحكم العولمة الوهمية أصبح البشر يعيشون في ما يمكن أن يسمى بحقيقة الإمكان التوهمي.
ب_ ذلك أن العولمة الحاصلة فعلاً لا تشمل كل الأمم بالصورة نفسها أولاً (أكثر من أربعة أخماس البشرية لا يرون منها إلا السلوب) وهي لا تشمل فئات الأمة نفسها بالصورة نفسها ثانياً (جل فئات المجتمع المتقدم متخلفة) بل هي لا تشمل الشخص الواحد بالصورة نفسها أخيراً، إذ إن وسائل العولمة تناسب إدراكه العقلي للكلي الذي كان دائماً موجوداً دون حاجة إلى هذه الوسائل وتنافي إدراكه الحسي للجزئي الذي يبقى دائماً محدوداً بمقاس الإنسان. فلا يمكن أن يتسع حس الشخص الواحد فيشمل ما تُمَكّن منه وسائل الاتصال عن بعد مثلاً إلا بالتناوب فيكون في كل مرة منحصراً في ما كان فيه منحصراً دائماً ولا يكون التوسع إلا وهمياً لكونه مقصوراً على ما يمكنه منه من أصبح يختار بدلاً منه ما تراه الكاميرا لتنقله إليه مع ما يصاحب ذلك من تزييف وتلاعب بالحقائق لا حد لهما.
ج_ وإذن فلا بد من التمييز بين العولمة الفاعلة والعولمة المنفعلة. ذلك أن العولمة تكون بهذا المعنى أمراً لم يخل منه التاريخ الإنساني قط: فكل لحظات التاريخ الإنساني كانت كونية أي أنها تشمل عولمة عصرها الفاعلة إيجاباً وفعلاً، وتعود إلى من بيدهم الأدوات التي تمكنهم من فرض خاصهم على الآخرين ليكون عاماً وهي تشمل عولمة عصرها المنفعلة سلباً وانفعالاً، وتعود إلى كل من يستسلم لهذا الفرض تسليم اندماج أو تسليم هروب إلى الخصوصية، إذ الصراع الوحيد الممكن في التاريخ الكوني كان ولا يزال الصراع بين ضروب العولمة أو إن شئتم بين الصور النموذجية للإنسان في الحضارات المختلفة: أي النماذج التي تسعى الحضارات إلى تحقيقها في التاريخ وتلك هي طبيعة الحضارة. والمعركة اليوم هي بين النموذج الاستخلافي الذي نمثل بذرته التي لم تكتمل بعد والتقاء النموذجين الأدنى منه والأسمى المزعومين، أعني التقاء الشرق الأقصى والغربي الأقصى.
د_ لكن نُخبنا أصبحت تدعي أن العولمة أمر من طبيعة واحدة وأن هذه العولمة هي التي تنتج عن الحتمية الاقتصادية وإنها أمر لا انفكاك عنه. ولأن هذه النخب لم تحدد طبيعة العولمة تحديداً دقيقاً، فقد ظنت أنها ليست ظاهرة ملازمة للتاريخ الإنساني بل ظاهرة جديدة لا علاقة لها بطبيعة صراع النماذج الحضارية فانقسمت بحكم هذا الموقف اللامحلل والناتج عن الانهزام الروحي إلى خيار وحيد بين: الاندماج في عولمة تدعي أنها ممثلة للمستقبل الإنساني وهي في الحقيقة عولمة تسد كل آفاق الإنسان (عولمة المافيات المحلية في خدمة المافيا العالمية: فالعالم تحكمه أوليغاركيات مافياوية تستعبد بقية البشر) والانكماش في الخصوصية حصراً للمثال في بعض اللحظات الوهمية من الماضي ظناً أنها قد أتمت تحقيق العالمية الإسلامية لكأن هذه العالمية يمكن أن تحقق في تعين واحد. وبذلك بات ممتنعاً التفكير في العولمة البديل أعني الثورة على هذه المافيات، باسم نموذج حضاري يلغي منبع الأسباب التي يؤول إليها وجود هذه المافيات.
ه‍_ وبيّن أن أصحاب الاندماج وأصحاب الخصوصية من طبيعة واحدة: فكلاهما يجعل الواقع الحاصل مثالاً أعلى يستنفذ الممكن فيكبل العلاقة الحية بين المثال والفعل: الأولون جعلوا الاندماج في العولمة بصورتها الحالية مثالاً أعلى والآخرون جعلوا الإدبار عنها إلى العولمة بصورتها الماضية مثالاً أعلى. وكلاهما ينسى أن العولمة فعل تاريخي متواصل لا يتوقف، وأن شكله الحالي لم يتحدد بعد وأنه سيكون حصيلة المعركة الجارية بين العالميات المختلفة أو النماذج الحضارية المختلفة التي يؤمن أصحابها بأن لهم رسالة تحدد مثال الإنسان الأعلى، وأن أكبر علامات الانهزام الروحي هي التسليم بوحدانية النموذج. لا شيء تم وانتهى كما يتصور المنهزمون روحياً.
--------------------------------
المصدر: آفاق النهضة العربية ومستقبل الانسان في مهّب العولمة

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة