موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

موريس ابو ناضر
لاهوت الازدراء والتمايز

 

لا يستطيع المعاين لحالة العلاقات بين الطوائف والمذاهب عبر التاريخ، إلا أن يقرّ أن هذه الحالة ارتبطت بوضع العلاقات بين الإمبراطوريات والملكيات الساعية إلى الهيمنة على المنطقة العربية: منذ الصراع الفارسي البيزنطي، مروراً بالفتح الإسلامي، ووصولاً إلى الصراع العثماني التركي مع الدول الأوروبية للاستيلاء على المنطقة في مطلع هذا القرن. واستعملت الطوائف والمذاهب الدينية على مرّ العصور وقوداً لكسب الأنصار، أو زعزعة الاستقرار، كلما اشتدت الخلافات بين الإمبراطوريات والملكيات والأمم.
وبلغت النظرة الطائفية إلى وضع المنطقة العربية ذروتها من قبل الأمم الأوروبية عندما شجّعت بريطانيا الحركة الصهيونية الناشئة على المطالبة بأرض فلسطين لكونها أرض الميعاد لاتباع الدين اليهودي أينما وجدوا في العالم. كما بلغت النظرة أوجها في العقدين الأخيرين من هذا القرن بعد انفجار الثورة الإيرانية، وتوسع عمليات المقاومة ضد الأجنبي تحت الشعارات الدينية، في لبنان والعراق والسودان والجزائر ومصر...
على النقيض من الإنجيل الذي لا يوضح القواعد التي ينبغي أن تحكم العلاقات بين المسيحيين وغير المسيحيين، نرى القرآن يوضح ويفسّر القواعد التي ينبغي أن تحكم العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين. فمنذ الآية 256 من سورة البقرة (لا إكراه في الدين) إلى الآية 171 من سورة النساء (لا تغلوا في دينكم) إلى الآية 48 من سورة المائدة (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)، توجد قواعد. قواعد تلقّفها رجال الشريعة الإسلامية وراحوا يؤسسون عليها طريقة ضبط العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، آخذين بعين الاعتبار في أغلب الحالات مزاج الخلفاء الشخصي والوضع الاجتماعي الاقتصادي لسواد المسلمين.
يتفق أكثر الباحثين العرب على تحديد مفهوم الأقليات بالقول: أي مجموعة بشرية تختلف عن الأغلبية في واحد أو أكثر من المتغيرات التالية: الدين أو اللغة أو الثقافة أو السلالة التي تضفي على هذه المجموعة أو تلك قسمات اجتماعية اقتصادية حضارية تلوّن سلوكها الاجتماعي أو السياسي. والأقليات العربية المسلمة وغير المسلمة متعددة، يحتل المسيحيون من بينها المكان الأبرز والموقع الأكثر اهتماماً من قبل الدارسين. فمن عكّا إلى حلب ومن الأقصر إلى الإسكندرية، وجدت جماعات مسيحية عُرفت بالاستكانة والتمرّد منذ غابر الزمان على املاءات الكنائس الأم، روما ثم بيزنطية، وعلى السلطات الإسلامية، وعرفت كيف تحافظ على بقائها، من خلال الحوار الذي تمكّنت في أغلب الأحيان من إقامته مع الدولة الإسلامية، ومن خلال التوفيق بين الولاء القومي والإخلاص لدينها.
على أن الطوائف التي تشكلت من هذه الجماعات اجتازت مفازات التاريخ منعزلة بعضها عن بعض على ضفاف النيل، كما على ضفاف الفرات والعاصي وكان وجودها التاريخي في المنطقة العربية التي سيطر عليها الإسلام منذ القرن السابع الميلادي يحكمه وحي الإسلام القرآني (لا إكراه في الدين) وينصّ عليه الإسلام الفقهي باستعمال عبارة "أهل الذمة". يكتب فرسخ: "ليس في النص القرآني أثر لتعبير "أهل الذمة" ولا لصفة الذميين. وعلى ذلك يعتبر نظام "أهل الذمة" تشريعاً اجتهده الفقهاء لتلبية احتياجات الواقع بعد الفتح. وذلك من خلال الصيغة الوصفية التي أطلقت على الآخرين على لسان رسول الله وفي عهوده". ووفّر اعتبار غير المسلمين "أهل الذمة" الإطار الشرعي لحقهم في المواطنة وكفالة حقوقهم الدينية والاجتماعية، وواجب حمايتهم ورعايتهم. ويجمع الفقهاء على أن نظام "أهل الذمة" يكفل لغير المسلمين حماية النفس والمال والسكن والعمل وحسن السمعة بحيث لا يؤذون ولا يظلمون. مما يعني أن خط الفصل بين المسلم وغير المسلم كان محدوداً، مما يسرّ التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ووسع من أطرها.
ظل العمل بنظام الذمة قائماً، وظل النظر إلى المسيحيين قائماً باعتبارهم جماعة اجتماعية مميزة دينياً، ولكن تشترك في النسيج الاجتماعي العربي الذي كان يتشكل حول الجماعة العربية المسلمة متخذاً من اللغة والثقافة العربية، والإسلام والشريعة الإسلامية محاور للتجانس والاندماج. ظل النظام والنظر إذاً قائمين بين مدّ وجزر من حيث التأثير في خاصية الاحتفاظ بالتنوع في إطار الوحدة طيلة القرنين الأول والثاني للهجرة، بفعل تأثير النخب ذات الأصول العربية، والفقهاء المتنوّرين الذين كانوا يلتزمون بالعقل وحرية الاختيار. إلا أن النظام والنظر تغيّرا منذ العصر العباسي الثاني وحتى حكم العثمانيين ببزوغ فجر نظام "الملل" الذي حول الجماعات التي كانت تسعى إلى الاندماج في ظل ثقافة عربية إسلامية إلى جماعات توسع نظامها في الاستقلال الطائفي إلى أقصى مداه.
مع الاختراق الأوروبي للمنطقة العربية وما رافقه من إرساليات وتبشير وعسكر أخذت الأقليات العربية المسلمة وغير المسلمة، تبحث عن تمايزاتها، وتفتش عن حدود لملّتها، وثقافة مميزة لأبناء شعبها، فتحرّك الأرمن والأكراد والدروز والأشوريون والعلويون والموارنة والبربر والزنج واليهود. تحرّكوا جميعاً لنبش الحفر التي انحفرت بينهم وبين الأكثرية المسلمة أيام التسلّط الذي مارسه بعض الأمراء والولاة والسلاطين.
في المحصلة الأخيرة تكشف العلاقة بين الأكثرية السنية المسلمة والأقليات المسلمة وغير المسلمة، في المنطقة العربية وخارجها، عن نموذجين يؤسسان ويشرعان للعلاقات ما بين الطوائف: نموذج المجتمع التوحيدي مسيحياً كان أم مسلماً، نموذج سعى إلى تأمين الاندماج الاجتماعي السياسي للعناصر الطائفية تحت راية حكم سياسي واحد باسم الإمبراطور أو الخليفة تارة، وباسم الملك أو الرئيس تارة أخرى. والنموذج العلماني الذي طوّره الغرب، وفيه تقف الدولة موقفاً محايداً وغير متميز البتة على الصعيد الديني، ويكون القانون المدني على أساسه واحداً للجميع.
على هذا النحو يترجّح في كتابات أكثر من مفكر من مفكري العالم العربي صدى رفضهم للاهوت "الازدراء والتمايز"، فمتى يتحوّل هذا الصدى إلى فعل؟ ويحلّ التنوّع في إطار الوحدة محل التعدّد في واقع التجزئة؟
--------------------------------------
المصدر: أفكار جديدة لعالم جديد

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة