موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

ابراهيم العبادي
نحو اعادة موضعة الغرب في العقل الاسلامي

من الثمار العملية لحركة الصحوة الاسلامية، نجاحها في إعادة الثقة في شخصية الفرد المسلم، وتوليدها طاقة الحركة لأعادة تحرير عقله ووعيه من اسر المقولات والمفاهيم التي جعلته يعيش عقدة نقص مركبة ناشئة بدورها من اضطراد صعود المركزية الاوربية، وتزايد قوة الغرب القهرية، وتسارع خطى تطوره وتقدمه وقدرته الفائقة على فرض نفسه على الآخرين وتحويلهم الى تابع يدور في هامشه، ويلغى في الاثناء خصوصياته الثقافية والحضارية.
لقد كان الغرب وما يزال عقدة العقد الرئيسة لشعوبنا الاسلامية وربما لشعوب العالم الثالث بأسره، لانه رسخ في الذاكرة الاسلامية، وفي الواقع المعاش للمسلمين، كقوة ماكرة مدمرة، انتهبت العالم الاسلامي ومزقته وأعاقت تقدمه واستلبت قدراته على النهوض.
وقد القى هذا التحدي بثقله على الواقع الاسلامي، وزاد منه دخول الغرب، الذي قدم نفسه كمصدر للتحديث ومنبع للمعارف والعلوم والتكنولوجيا، ونموذج للفضائل والحسنات والرقي المدني، وصار وسيلة لادخال المدنية الحديثة، وكسر اغلال التخلف الاقتصادي والاجتماعي، وادى ذلك الى ظهور وعي ملتبس لشكل العلاقة المفترضة مع الآخر الغربي.
ولم يترك الغرب فرصة الاختيار هذه لأنه سعى منذ البداية الى صياغة العلاقة على قاعدة التابع والمتبوع، فرسّخ عقدة الدونية والحقارة بسبب التخلف الشامل في البيئة الاسلامية، يقابله تطور مذهل في الغرب، واصبح وعي العالم الاسلامي لذاته مرتبطاً الى حد كبير بما يمثله الآخر (الغرب) بالنسبة له، فهل الغرب شرٌّ كله ام خير كله؟ وماذا نأخذ وماذا ندع؟
وعندما تصبح رؤية الذات امراً غير ممكن إلاّ عبر مرآة الاخر ومفاهيمه ومناهجه، ويصبح الوعي والفكر اسير هذه الرؤية المقاربة، وتتحول معارك الهوية والذاتية الى معضلة اجتماعية بسبب الاختلاف المنهجي في تعريف الهوية، فمعنى ذلك ان الغرب او التغريب الثقافي والمنهجي والسلوكي هيمن على رؤية قطاع اجتماعي فاعل برغم الشعور بالمرارة من الهزائم والانكسارات التي كان الغرب سببها ومصدرها، وأصبح الغرب متغلغلاً في كل زاوية من زوايا المجتمع.. في الاقتصاد والسياسة والثقافة والادب والفن والسلوك، واضحى التقليد سمة المجتمعات الاسلامية في ظل عجز واضح عن الابداع والتوليد الذاتي، بل أصبح الاتجاه الداعي الى الهوية المحلية أو الى استلهام التراث مغرقاً في السلفية ومظهراً من مظاهر التأخر والهروب من العصر الى الماضي، فالثقافة في المجتمع اصبحت منقسمة على نفسها وذات مصدرين، فهي اما نقل عن الغرب بالكامل، وأما اقتصار على التراث بالكامل، وغياب عن مشاكل الواقع وتعقيداته وتحدياته، وكلما اوغل تيار التغريب في دعوة المعاصرة والحداثة، ونتج عن ذلك تحلُّل في القيم وضياع ملامح الشخصية المحلية؛ ازداد التيار المناوىء تمسكاً بسلفيته كمحاولة لإعادة التوازن الى الشخصية الفردية والاجتماعية.
وقد نشأ عن ذلك ازمة تعيد انتاج نفسها بشكل دائم احبطت مشروع النهضة، ودمرت قدرات المجتمع، واعاقته عن بناء نفسه وتجاوز عقدة التخلف.
ومع صعود نجم القوى الاسلامية الرافضة لهيمنة الغرب ومركزيته، والمبشرة بصياغة جديدة لنمط التعامل معه، ومع تزايد الاحباطات المتكررة لدى فئات المثقفين، واكتشافهم مقدار الزيف الذي يختفي وراءه الخطاب الثقافي والسياسي الغربي المغرق في عنصريته وعدم نزاهته وميله الشديد الى تعظيم ذاته وتهميش الآخر، بدأنا نشهد نمطاً من الفكر يدعو الى رد الغرب الى حجمه الطبيعي، واكتشاف آليات الهيمنة في خطابه المعرفي وليس السياسي والاقتصادي والثقافي فحسب.
ان نقد الغرب وإعادة تصوره في العقل العربي والاسلامي، للخلاص من حالة الانبهار والتبعية للمركزية الغربية؛ من الشروط الاساسية للاستقلال الثقافي والسياسي والمنهجي والنفسي والاساس الضروري للابداع والانتهاء من الاستنساخ، وربما كان الموقف التعبوي الصارم للثورة الاسلامية في ايران والكثير من القوى الاسلامية من الغرب هو المقدمة الضرورية لايجاد مساحة زمنية تسمح للانسان المسلم بالتقاط انفاسه واعادة التوازن الى شخصيته وتوكيد الثقة في نفسه كي يتمكن من قراءة الغرب من جديد بعد ان يكون قد تجاوز عقدة النقص، وليستطيع بناء تصوراته عن ذاته وعن الآخر من خلال رؤية ذاتية متوازنة لئلا (تتكون صورته عن ذاته عبر صورته عن الغرب ومن خلالها، فيرى نفسه صغيراً وهامشياً ولا عقلانياً ولا معنى لوجوده)، او يتجه الى إنكار الحضارة الغربية، والتعلُّق بامجاد سابقة ويتترَّس بالتراث وحده ويعتبره المصدر المعرفي الوحيد، فتنشأ حالة نرجسية واغتراب عن عيش الواقع وتحدياته، كما هي حال بعض القوى السلفية والجامدة المتحجرة.
وبصراحة فإننا بحاجة الى الغرب مثلما هو بحاجة الينا. فتطوير المعارف والعلوم، ونقل التكنولوجيا واستيراد الخدمات؛ منوطة بالتعامل مع الغرب، وحتى تطوير الفكر الاسلامي وتحديثه مرتبط هو الاخر بالتعرف على حجم التحدي المعرفي الغربي، فآليات الدفاع والتطوير لا تتحرك إلاّ من خلال الاحتكاك والصراع والجدل الحضاري.
غير اننا نبحث عن علاقة متكافئة ونظرة متوازنة بعد ان نتمكن من تصحيح علاقة التابع والمتبوع.. المعطي والمتلقي ... السيد والعبد؛ التي ورثناها منذ قرنين من الزمان.
ولهذا تبدو ضرورات بناء علم الاستغراب موازٍ لعلم الاستشراق، ملحة في الوقت الحاضر، برغم كل ما يوجّه لذلك من انتقادات وملاحظات، وتبدو المحاولة الرائدة للدكتور حسن حنفي، الحلقة الاكثر تقدماً بعد ان سبقتها حلقات قليلة ظهرت في كتابات ادوارد سعيد وانور عبد الملك ولاحقاً الدكتور عبد الوهاب المسيري صاحب الدراسات المعروفة عن الفرق والمذاهب والايديولوجية الصهيونية.
إلا أنّ محاولة الدكتور حسن حنفي كانت اكثر شمولية واكثر وعياً لموضوعها، وقد مهّد لها في اكثر من دراسة له، لاسيما في اليسار الاسلامي الذي صدر في بداية الثمانينات.
--------------------------
المصدر : جداليات الفكر الاسلامي المعاصر

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة