موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

د. حسن حنفي
التوحيد والعدل

 

لا يوجد لفظان محببان في الوجدان العربي قدر لفظي التوحيد والعدل. ولا يختلف على ذلك السلفيون والعلمانيون، وإن اختلفت الدلالات. فالتوحيد عند السلفى عقيدته الأولى وعند القومي كذلك. والعدل يجمع بين الجميع. وترن في أذن الجميع الآية المدونة على مداخل المحاكم الوطنية (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) (4: 58). كما يستعملها المواطنون في الدفاع عن حقوقهم ورد المظالم كمعيار للسلوك الاجتماعي. وهنا لا يوجد فرق بين التراث الديني والتراث الشعبي، بين الوحي والفطرة، بين ما يأتي من الله وما ينبع من الناس. وقد انتبه إلى ذلك محمد عبده تلميذ الأفغاني، رائد الحركة الإصلاحية عندما خرج عن نطاق الأشعرية التقليدية التي جعلها الغزالي منذ القرن الخامس العقيدة الرسمية للدولة، وأصبح أشعرياً في التوحيد، معتزلياً في العدل، يقول بأن الصفات زائدة على الذات في التوحيد، وبالحس والقبح العقليين وبخلق الأفعال في العدل. وارتبط هذا التحول بتأسيس الحزب الوطني الذي كتب محمد عبده برنامجه والذي قاد نضاله مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول حتى اندلاع ثورة 1919تحقيقاً ربما لجانبي العدل: العقل والحرية، والتحول من حرية الفعل الفردي إلى حرية الوطن واستقلاله.
وسار على أثره ما يسمون الآن عند البعض بالمعتزلة الجدد، الجيل الثالث أو الرابع من الإصلاحيين وأحياناً بالسلفيين الجدد، وهم أصحاب الإسلام المستنير الذين يودون إعادة بناء التراث بحيث يكون حاملاً لمتطلبات الواقع وآمال العصر من حرية وتقدم ووحدة وعدالة اجتماعية وتنمية ودفاع عن الهوية. وهم الذين يحكمّون العقل، ويرفضون أية وصايا عليه، ويمارسون النقد والتحليل، ويساهمون في صنع التقدم مع غيرهم من فرقاء الوطن مع إيمان بالتعددية الفكرية وإمكانية العمل الوطني المشترك.
ونظراً لارتباط التوحيد بالعدل، والعدل بالتوحيد عند قدماء المعتزلة سموا "أهل التوحيد والعدل"، توحيد الذات والصفات الذي ينعكس في توحيد الشخصية الإنسانية بين القول والعمل والفكر والوجدان أي بين الداخل والخارج، والعدل الذي يتجلى في حرية الإنسان واستقلال أرادته وأيضاً في حرية الفكر واستقلال العقل وقدرته على الوصول إلى الحقيقة بالبرهان.
ارتبط التوحيد بالعدل منذ بداية الفكر الإسلامي بصرف النظر عن أولوية النشأة لأحدهما على الآخر، التوحيد أولاً ثم العدل ثانياً كما يقتضى بذلك المنطق وأولوية النظر على العمل أو العدل أولاً ثم التوحيد ثانياً كما يبدو من مسار الأحداث. فقد بدأ النقاش أولاً حول الإيمان والعمل والإمامة أي في الموضوعات العملية المتصلة بالعدل قبل أن يتحول إلى نقاش الأسس النظرية لها في التوحيد.
وكان من أكبر النتائج لهذا الارتْباط بين التوحيد والعدل هو ظهور مفهوم القانون سواء قانون العدل الإلهي أو قانون الاستحقاق الإنساني أو قانون العلم الطبيعي. فالله عادل لا يظلم الناس شيئاً. (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا تبديل لكلماته) (6: 15). يعدل في وعده ووعيده. ذاته صفاته، وعلمه إرادته، وحكمته أمره (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى) (16: 90). وكذلك الرسول أمر بأن يعدل بين الناس (وأمرت أن أعدل بينكم) (42: 15).
والإيمان بالله يتطلب الإيمان بعدله في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء. وهو الذي يحفظ الإنسان من الميل إلى الهوى فيظلم الناس (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا). وينطبق ذلك على الفرد والجماعة. والأمة التي تؤمن بالله يتجلى إيمانها في العدل (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) (7: 159). والعدل هو الدليل الأول على التقوى، (اعدلوا هو أقرب للتقوى) (5: 8).
وأصبح العدل عنواناً للحكم على الناس في الآخرة طبقاً لقانون الاستحقاق، ثواب المحسن وعقاب المسئ طبقاً للآية الكريمة (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) (99: 7-8). وهو قانون عام وشامل لا يعرف الاستثناء. والعالم كله يتوق إلى عدل في الأرض فإن لم يتحقق فعدل في السماء.
وكما يوجد العدل بين الإنسان والله في الاستحقاق، يوجد بين الناس في العلاقات الاجتماعية، في الزواج بواحدة حتى يتحقق العدل. وكتابة المواثيق والعهود والعقود ضرورية حتى يتحقق العدل ولا يظلم طرف طرفاً. والقصاص عدل، إراقة دماء في مقابل إراقة دماء. والشهادة شهادة عدول. والصلح بين الناس بالعدل حتى لا يطغى طرف على آخر.
ويتجلى العدل أيضاً في القانون الطبيعي، وهو تجلى حكمة الله في الكون. كان شئ فيه يسير وفقاً لقانون دون تفاوت أو فتور. والإنسان موكول لكشف هذه القوانين والسيطرة عليها وتسخيرها لإعمار الأرض وإقامة العمران.
كما يتجلى هذا الارتباط بين التوحيد والعدل في حرية الأفعال وأن الإنسان صاحب أفعال ومسؤول عنها ومحاسب عليها دون أن يتحجج بالقدر أو يتكل عليه، فكل إنسان ميسر لما خلق له. بل إن الإنسان يثبت بعد الله بحريته، فالحرية هي مناط تفرده، فإذا كان ديكارت في الفكر الغربي قد أثبت وجود الإنسان من خلال الفكر "أنا أفكر فأنا إذن موجود" فإن التراث الإسلامي أثبت وجود الإنسان من خلال الحرية "أنا حر فأنا إذن موجود". فحرية الإنسان دليل على وجود. ومن يفقد حريته يعدم وجوده.
ويتجلى أيضاً في استقلال العقل وقدرته على الوصول إلى الحق بالبرهان. فالعقل لا وصى عليه. فكما أكتمل الدين أكتمل العقل. وكما اكتملت النبوة كمل الإنسان. لذلك جعل القدماء النظر شرط التكليف وأول الواجبات، وما لا دليل عليه يجب نفيه. ويكرر القرآن باستمرار (أفلا تعقلون؟) ويستطيع العقل أن يصل إلى ما وصل إليه الوحي، بالفطرة والطبيعة.
ثم حدث فك الارتباط بين التوحيد والعدل في العقائد المتأخرة وحياتنا المعاصرة في العصر التركي العثماني. ظهر التوحيد واختفى العدل. وأصبح التوحيد مكتفيا بذاته دون عدل. فالله هو المستغنى عمن سواه وما يفتقر كل شئ إليه. وهو تعريف يقوم على الاستغناء والحاجة، استغناء طرف عن طرف وحاجة طرف إلى طرف مما قد ينتهي إلى بعض أشكال التبعية كما هو الحال الآن في المجتمعات الإسلامية في السياسات الداخلية والخارجية.
وقد أدى هذا الفصل بين التوحيد والعدل إلى انزواء التوحيد في قلوب الصوفية، وجعله "أفراد الحدوث من القدم"، مجرد إحساس داخلي لا ينعكس في عالم يسوده العدل أو القانون. فنشأ إسلام الزوايا والطرق الصوفية وفي صرخات "أحد، أحد" دون ربطها بالظلم الاجتماعي والسياسي والثورة عليه كما فعلت من قبل صرخات بلال بن رباح.
وخشى الفقهاء واختبأوا وراء الفتاوى الشكلية في الأحوال الشخصية وأمور العبادات. وتركوا التصدى للحياة العامة وقيادة الأمة مكتفين بإمامة المصلين داخل المساجد.
وهرع آخرون إلى البلاط يبررون سياسات السلاطين حتى ولو كانت ظلما على الناس، وعبئا على الفقراء، وإجحافاً بأصحاب الحاجات، وعقاباً للآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، المحتسبين لوجه الله، والمدافعين عن مصالح الناس.
وهل يمكن إعادة صياغة العدل من جديد بحيث يضم بالإضافة إلى حرية الأفعال واستقلال العقل العدل الاجتماعي والعدل القانوني، المساواة في توزيع الدخول، والمساواة أمام القانون؟
الاتجاهات الإسلامية المعاصرة. يثور التوحيد لتحقيق الحاكمية، حاكمية الله، دون أن يكون لها مدلول واضح على العدل في حياة الأفراد والمجتمعات.
فإذا ما ثار العدل دون التوحيد فإن التوحيد يثور دون العدل. وتنقسم الأمة إلى فريقين: علمانيين وسلفيين، تقدميين ورجعيين، حدثيين وتراثيين، ويصبح أهل العدل في جانب وأهل التوحيد في جانب بالرغم من ربط القدماء بين التوحيد والعدل كما فعل المعتزلة في أصلى التوحيد والعدل، أول أصلين من أصولهم الخمسة.
--------------------------------------------
المصدر : الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة