موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

منير شفيق
في ضرورة البدء بالسؤال: على أية أرض نقف


أنه لمن الصحيح القول إن تحديد الأرض التي نقف عليها لا يعني جاهزية الحلول للمشاكل الراهنة فما من أحد يقول إن ذلك يكفي المؤمنين شر القتال، أو يكفيهم مشقة البحث والتعلم والاجتهاد حتى يجاب عن الاسئلة التي تستدعيها الظروف المعاصرة مثل كيفية تعبئة الأمة وتوحيدها وخوض الجهاد ضد الأعداء أو كيفية معالجة المفاسد الاجتماعية والمعضلات الاقتصادية، أو كيفية إصلاح ما أفسده الغرب وحكم الغرب وأفكار الغرب في صفوف المثقفين وقطاعات الحداثة. ولكن اذا كنت الأجوبة غير جاهزة، فهل يحق التقليل من أهمية تحديد الموقف الأساسي وهو على أية أرض نقف؟ وهل يمكن القول إن الاجابات عن المعضلات القائمة تتم قبل تحديد الأرض التي عليها نقف ومنها ننطلق، وعلى هديها نسير؟ وإذا كان الأمر كذلك فلا مفر من القول بأسبقية ذلك التحديد أي أسبقية الخطوة الأولى عليى الخطوة الثانية. ومن ثم لايصبح الالحاح على طلب الاجابات والحلول مشروعا إلا بعد تحقيق ذلك الشرط لاقبله. أما إذا كان هذا الأمر مشكوكا فيه فلتكن البداية منه، أي فليبدأ الحوار حول: هل يمكن أن تفهم المشاكل الراهنة في بلادنا بمعزل عن فهم تاريخنا والسنن التي تتحكم بمساره، أو بمعزل عن المعتقد الذي نؤمن به، والأفكار التي نحملها، والمفاهيم الأساسية التي نأخذ بها، والمنهجية في البحث والمعالجة التي نطبقها، والاهداف التي نراها غاية أعمالنا أو غاية مسار الانسان؟ هل يمكن أن نناقش الراهن اذا لم نناقش الفلسفة (المفاهيم والمنهج) واذا لم نناقش القوانين التي نراها تحكم مسار المجتمع والتاريخ؟ ثم إذا كان من المشروع خوض الصراع الشديد حول محتويات هذه المسائل فانه من غير المشروع في المقابل عدم الاتفاق على ان ما سنخرج به من كل ذلك سيحكم الى حد بعيد، ان لم يكن مائة بالمائة، عملية البحث في المشاكل الكبرى، ناهيك عن الحلول والاهداف.
لايصح أن يعتبر الاخذ بالاسلام هروبا من معالجة الراهن أو لجوءا الى الماضي والذاكرة خلاصا من مواجهة أزمة حادة طاحنة، كما لاتعني العودة الى الاسلام عيشا في الماضي التليد - وإنه لعمري لماض تليد - ولا يعني ذلك استغناء عن صنع مستقبل مجيد. بل بالعكس انه الوقوف على الأرض التي تسمح برؤية الأشياء كما هي وبرؤية الحق حقا، والباطل باطل.
هذه هي الاشكالية الأولى، أما الاشكالية الثانية فتفرض الدخول في صلب الموضوع، وهي إقامة الحجة على صحة الخيار بين هذه الارض وتلك، أو بعبارة أخرى لابد لكل من يقف على هذه الأرض او تلك أن يقول لماذا هو هنا لاهنالك. أي لابد للقوانين على هذه القطعة أو تلك من أرض الغرب والرافضين الوقوف على أرض الاسلام ان يقولوا لماذا فعلوا ذلك وما هو برهانهم الذي هو لمصحلة ما أخذوا به وما هي حجتهم على ما لم يأخذوا به. وكذلك فليفعل الواقفون على أرض الاسلام. وهذا يضع المقولات جميعا في دائرة الضوء. وعندئذ يبين ما هو حق وما هو الباطل، وما هو صحيح وما هو خطأ. وما ينفع الناس، وما هو زبد. أما تغييب الاسلام بالتجاهل ودفعه الى خارج مسرح الحوار. وفي المقابل ابقاء الخيار بين هذه المدرسة او تلك من مدارس الغرب، فهذا يشكل قمعا، وإرهابا، وظلما ما بعده ظلم.
كيف يمكن أن تفهم بلاد العرب والمسلمين اذا لم يقف الباحث على أرض الاسلام، أو إذا لم يبحث في تلك الأرض بحثا جادا حتى يريد الخروج عليها ويرفضها. فهذه البلاد بشعوبها جميعا تشكلت روحيا ونفسا وأخلاقيا، كما تشكلت أنماطها المعيشية ومختلف مناحي حياتها على أساس الاسلام وثورة الاسلام. وذلك عبر أربعة عشر قرنا متواصلة. ويمكن القول من زاوية أخرى أن التاريخ الفعلي لهذه البلاد، بما في ذلك القوانين التي تحكمت بالصراعات المختلفة، ابتداء من الصراعات المتعلقة بقيام الدول وانهيارها وانتهاء بالصراعات الدائرة في الميادين الفكرية والسياسية والثقافية والحضارية والاقتصادية والعسكرية... لقد دارت كل تلك الصراعات حول المحور المركزي الذي شكل لحمة بلادنا وسداها وهو الاسلام. وذلك سواء أكان اتجاه الصراع دفعا الى الأخذ بالشمولية الاسلامية أم دفعا الى الطريق المعارض. ولهذا كانت المشاكل تثار. وكذلك ما كان يقدم لها من حلول كانت محكومة بالموقف من الاسلام أو بعبارة أخرى محكومة بمدى الاقتراب منه او الابتعاد عنه، فقد كان نموذجه الكلي العالمي الشمولي محور العملية كلها.
مضى الاستعماريون ومعهم، بصورة مباشرة، او غير مباشرة، جامعاتهم ومثقفوا بلادهم يخربون ويفسدون. وبهذا تشكلت المشاكل الكبرى التي تتطلب الان حلا. أي أنها مشاكل من نمط يختلف عن المشاكل التي كان يفرزها نمط المجتمع الاسلامي عبر تجربتنا التاريخية. ولكنها مشاكل تكونت على أساس ضرب ذلك النمط، ومحاولة الحلول محله، ومن ثم لايمكن فهمها الا من خلال هذه العملية كما أن من غير الممكن أن تحل تلك المشاكل الكبرى الا اذا عدنا الى نمطنا وسياقنا التاريخي. وهذا يشبه حالة عربات القطار التي انحرفت عن السكة، او التي حولت الى سكة اخرى لا توصل الى الهدف. وكان التحول هنا الى سكة العبودية والضلالة والانحراف عن الجوهر.
أما بعد أن نحدد الارض التي نقف عليها، وقوفا راسخا مكينا حقيقيا، فمن المشروع الالحاح على طرح الحلول المناسبة للمعضلات القائمة. أو قل لمختلف الاسئلة التي يطرحها العصر. الأمر الذي سيحتم بذل أقصى الجهود في فهم الواقع ومشاكله وفي الارتفاع الى أعلى مستويات الدقة في طرح الحلول وتحديد السير على الطريق القويم نحو الغايات المنشودة. فهنالك حاجة الى إجابات سليمة حول كيفية تحرير فلسطين وإدارة الصراع وخوضه، كيفية إنجازعملية التحرير والاستقلال، كيفية معالجة مشاكل التجزئة والانقسامات المختلفة، كيفية جعل الجهاد والتوحيد وقيادة الأمة أمرا معاشا وممارسا على نطاق واسع، كيفية حل مشاكل العدالة الاجتماعية سياسيا واقتصاديا، كيفية مواجهة عشرات ومئات المشاكل التي تحتاج الى إجابات مناسبة.
هذا هو التحدي الكبير، ولكن مواجهته غير ممكنة ما لم نحدد الأرض التي نقف عليها.
--------------------------------------
المصدر : الاسلام في معركة الحضارة
 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة