انشغل العلماء في العصر الحديث بالدفاع عن الاسلام ضد منقديه من
المستشرقين. فقد رد الأفغاني على رينان في اتهامه الاسلام بأنه ضد العلم والتقدم.
كما رد محمد عبده على هانوتو في حكمه على الاسلام بأنه ضد العلم والمدنية على عكس
النصرانية في «الاسلام والنصرانية بين العلم والمدنية». ورد مصطفى عبد الرزاق على
كارادي فو وغيره من المستشرقين بأن الفلسفة الاسلامية مجرد شرح للفلسفة اليونانية
في «التمهيد لتاريخ الفلسفة في الاسلام» مبيّنا الإبداع الفكري الاسلامي في علم
الأصول، أصول الدين وأصول الفقه.
ومنذ الحركات الاسلامية المعاصرة التي فرضت نفسها على الساحة الفكرية والسياسية
انبرى المثقفون لبيان أن الاسلام مضمون وليس شكلا، جوهر وليس عرضا، مقاصد وليس
حدودا، تحقيق لمصالح الناس وليس ردعا وعقابا. ودافع الاسلام المستنير عن جوهر
الاسلام وروحه وأنه دين العقل والحرية والمساواة والعدال الإجتماعية والديموقراطية
والتقدم. استطاع أن ينشىء حضارة امتدت عبر أربعة عشر قرنا، وأن يرث حضارات الأمم
السابقة، اليونان والرومان غربا، وفارس والهند شرقا، وأن يكمل الديانات السابقة
ويتمها، اليهودية والنصرانية، وأن يجعل العرب معلمين للانسانية، مبدعين العلم
والثقافة، وأن تكون الحضارة الاسلامية وراء النهضة الأوروبية الحديثة وأحد أسباب
نشأتها.
والشيء الذي لايمكن الدفاع عنه هو فهم الاسلام باعتباره مجرد مظاهر خارجية، إطالة
اللحي، ولبس العمائم أو تطبيق الحدود وكأن الاسلام أتى للردع والعقاب، وكأن الرسول
قد أرسل جابيا لاهاديا. بل كثيرا ما يُستعمل هذان الجانبين في الاسلام كوسيلة
لأضفاء الشرعية على الحكم الظالم تمسحا بالاسلام وطلبا لشرعيته.
إن الصحوة الاسلامية المعاصرة إن كانت أيضا موضع تساؤل حول بعض المظاهر إلا انها
تقاوم في جنوب لبنان وفي فلسطين. فالمقاومة تشفع لها المظهرية ووحدتها وعدم
الاقتتال بينها، ورفع الأخ السلاح في وجه أخيه تجعلها قادرة على الدفاع عن نفسها ضد
المظهرية والأشكال الخارجية. وتناضل ضد عدو جعل من هذه الظواهر أحد معالم هويته.
فالإيجاب في هذه الحالة أكثر من السلب، والمنفعة أكثر من الضرر.
ويظل السؤال قائماً: لماذا ينجح المسلمون في مقاومة العدو في الخارج والانتصار
عليه ويكونون أقل نجاحا في الداخل عندما يتحولون من الثورة الى الدولة، وعندما
ينتقلون من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر طبقا للحديث المشهور؟ هل هذا هو قانون
الثورات كلها أو معظمها؟ نجح نابليون في نشر أفكار الثورة الفرنسية في الخارج
وتوسيع نطاقها ولكنه كان أقل نجاحا في الداخل فقد حول الثورة الى امبراطورية، وحركة
الجماهير الى مصالح شخصية. كما نجح عبد الناصر في تحرير العالم العربي ضد الاحتلال
الأجنبي وفي مقاومة الصهيونية، وبلورة القومية العربية وإرساء قواعد عدم الانحياز
ولكنه كان أقل نجاحا في الداخل بالنسبة لقضايا الحريات العامة وديموقراطية الحكم
والحوار مع القوى الوطنية السابقة على الثورة.
وقد تكون هناك أسباب أعمق بالنسبة للشيشان وأفغانستان الآن وقبل ذلك بالنسبة
لباكستان والسودان وربما ايران. هناك المحافظة التاريخية المستمرة في الوعي الثقافي
منذ أكثر من الف عام، منذ قضى الغزالي على العلوم العقلية، وكفر التعددية، وجعل
الأشعرية العقيدة الرسمية والشافعية المذهب الرسمي، وقوى الدولة وسلطانها على حساب
الشعب وحقه في المراجعة والنقد. أعطى السلطان القوة وطالب الشعب بالطاعة. واستمرت
هذه المحافظة الدينية وتحولت الى أشكال ورسوم إبان الحكم العثماني. وبالتالي أصبحت
هي الرافد المكون لثقافة العلماء والجماهير. ولم تستطع الحركة الاصلاحية منذ القرن
الماضي ايجاد ميزان التعادل في الوعي الثقافي بين محافظة القدماء وتحرر المحدثين
بعد تعثرها وكبوتها من الأفغاني الى محمد عبده بسبب فشل الثورة العرابية، ومن محمد
عبده الى رشيد رضا الى حسن البنا بسبب اغتياله، ومن حسن البنا الى سيد قطب بعد
اندلاع ثورة 1952 والصراع بين الاخوان والثورة في 1954.
وقد توظف هذه المظاهر الخارجية كنوع من الاعلام السياسي بعد أن تم تهميش الحركات
الاسلامية واستبعادها من الحياة السياسية. فأصبحت المظاهر نوعا من إثبات الوجود.
كما أنها الطريق السهل المرئي للإعلان عن الهوية الاسلامية والتمايز مع الآخرين.
فالبرنامج الاجتماعي السياسي ربما مازال غير واضح، ويتطلب الجهد الوقت والتخصص
والقراءة والتعليم وهو ما لايتجه النضال السياسي. وربما هو الاحساس بالفرقة الناجية
التي لا تقبل الحوار مع الخصوم، مع الفرق الهالكة.
إن مخاطر المظاهر والحدود على الأمد الطويل وجعلها هي كل الاسلام بل والاسلام كله
هو نشأة تيار علماني مناهض يغلّب المضمون على الشكل، والمصالح العامة على العقوبات
سواء من العلمانيين أو الاسلاميين المستنيرين. اذ تتعطل مصالح الناس لحساب الشكل،
ولا تشبع الحاجات الأساسية لهم لحساب الردع والعقوبات. فيتغير المجتمع، ويتجه نحو
المضمون ضد الشكل، ويعادي الناس الاسلام بسبب فرق المسلمين.
-------------------------------
المصدر : الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي