موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

عزيز السيد جاسم
سلطة الحق في رفض السلطة


"وأما والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء في أن لا يُقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيتُ حبلها على غاربها..". علي بن أبي طالب
يُعدّ موضوع السلطة من الموضوعات البالغة الأهمية، وفيما إذا وُضِعت (السلطة) موضوع التحليل من الجانب الفردي (أي من جانب الحاكم لا من جانب الطبيعة الموضوعية لها)، فإن مُداخلات عديدة تجعل من الصعب الوصول إلى تحديدات دقيقة في صوابها، بدون الأمانة التاريخية، والأخلاقية. فكل حاكم يدّعي أنه زاهد بالسلطة، وأنه يستخدمها لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، ولتقديم الخدمات السياسية والاقتصادية والأمنية للمجتمع. ويشترك في الإدعاء المذكور الحكام من مختلف الأصناف: الملكية والجمهورية، القديمة والحديثة، الدينية واللادينية.
ولا يكون الحاكم فرداً بالمعنى المعروف للفردية، ذلك لأنه يمثّل مصالح فئة معينة داخل الدولة وخارجها، وسواء أكانت هذه الفئة قديمة أو جديدة، فإن التلابس بين مصالح الفرد الحاكم، والجماعة التي تتصل مصالحها بمصالحه، يحمل قدراً كبيراً من الامتزاج، مع ما يعتور ذلك من تناقضات.
غير أن ما يقرّرُ _بالنتيجة _ معنى سلطة الحاكم، وقيمتها، النتائج الواقعية التي يسطّرها سجل التأريخ.
ولا يهمّ البشرية، أن يُقال هذا حاكم قوي وذاك حاكم ضعيف. فقد حفل التأريخ الإسلامي _ مثلاً _ بآلاف الأمثلة في ذلك، دونما فائدة تُذكر.
إن البشرية بحاجة الى حاكم النبراس الذي يُقدّم للمجتمعات ثماراً أبديّة في العدل، وفي الفكر، وفي الممارسة.
أي أن المقياس، في تقويمات كهذه، هو مقياس موضوعي يخص الفوائد الوطيدة للبشر، وليس مقياساً فردياً، كما يجنح عادة _بعض الكتّاب والمؤرخين إلى تفصيل الخصائص الشخصية، والعائلية للحاكم.
وتلعب الأهواء دوراً كبيراً، في المبالغة، والتفخيم، وإبراز الأقوال الصغيرة كمآثر حكمية نادرة، وإبراز الأعمال الصغيرة كمنائر مجيدة في الإنجاز.
لكن الحقائق التأريخية الكبرى تفرض نفسها، لأنها تدخل الوعي التأريخي بقوة حضورها الفعلي، الواسع والشامل، والذي لا يمكن تقطيعه، وبعثرته، والتمويه عليه. وسلطة علي بن أبي طالب، تأتي في إطار التقويم التأريخي أنموذجاً من السلطة، مختلفاً كثيراً عن نماذج السلطة البيزنطية، والفارسية، والعربية المقلّدة لهما.
هو أنموذج الاحتذاء والاهتداء بطرائق الرسول العظيم _بلا شك _ لكن في ظروف الصراع الشديد، التي كان فيها اقتتال الاخوة في الذروة.
ومن المعلومات التأريخية الواصلة، تبدو السلطة في زمن علي بن أبي طالب، وكأنها من طراز السلطة اللاسلطة؛ السلطة كما تبدو من وجه، واللاسلطة كما تبدو من وجه آخر.
وقد دفع هذا الوضع البالغ الخصوصية العديد من المؤرخين الغربيين النقّاد إلى تصوير علي بن أبي طالب بمظهر المتردّد أحياناً على ما هو عليه من شجاعة وحدّية. إن مبعث ذلك أنهم آثروا التسجيل الخارجي لبعض الممارسات التي كان علي بن أبي طالب يصيخ فيها لنداء الحق مع نفسه، مصغياً في الوقت نفسه لنداء أصحابه.
وفي الواقع، كان هناك نوع من الجدل الغريب في سلطة علي بن أبي طالب، فقد كان لا يقرّ المركزية المتعجرفة، ويستهين بالأرستقراطية، وهما _أي المركزية والأرستقراطية _ قوام السلطة تأريخياً.
كان يبني سلطة عادلة، قوامها الإدارة الذاتية للجماهير المؤمنة، وبكلمة أخرى، كان يصنع سلطة متحررة من أدواتها التراتبية، والقمعية، المستعلية على المجتمع، في الوقت الذي كانت فيه المجتمعات العربية وغير العربية، قد بدأت تستقبل أشكالاً متطورة من السلطة المهيمنة تتّسع باتساع الموارد الاقتصادية لتلك المجتمعات، وتتعاظم بتعاظم المسؤوليات السياسية والأمنية لها.
إن ضخامة الدولة الإسلامية المتحققة في الفتوحات، كانت تُظهر تجربة علي بن أبي طالب، وكأنها حكم إسلامي لأمصار محدودة، أي كأنها حكم الكوفة، أو البصرة، أو المدينة، وغير ذلك، وليست حكم دولة إسلامية واسعة لما فيها من البساطة العادلة، والطراز السياسي غير المعقّد.
إن تجربة السلطة في زمن علي بن أبي طالب كانت تجربة إسلامية شفّافة، وكان بمواجهتها كيان رأسمالي (عسكري _ اقتصادي)، لم يكن قائماً بصورته الوضعية خارج هيئات الدولة، بل كان ينشىء معه تأسيسات جديدة للسلطة، بدلالة رأسمالية مماثلة، ومطابقة لمستويات متعددة (بصورة أولية كما قلنا) وكان ينشىء معه تصورات جديدة عن محتوى السلطة وشكلها، فالنجاحات الاقتصادية المتراكمة، في حالة توقّف الفتوحات، كانت ترتدّ إلى الداخل كمراكمات رأسمالية واقتصادية (متميّزة)، مفروزة عن واقع الفقراء والموالي والأرقاء، وأهل الذمة، وبسطاء الناس من الأعراب والبدو والقبائل البعيدة عن المدن.
وكانت النجاحات العسكرية، في حالة توقّف الفتوحات، تتحوّل في الداخل إلى سلطة للقوة العسكرية، والقمع، في إطار الصراعات الداخلية في المجتمعات الإسلامية، أو في إطار تعزيز هيبة الدولة.
إن الفرز الطبقي _ السياسي _ العسكري، كان ينعكس على بنية السلطة، ويستضيف لها تصورات جديدة لا تخلّ بالإطار الديني الرسمي، ولكنها لا تمنع التأويلات التي تستجيب للمتغيّرات الجديدة.
في هذه الوضعية، كان علي بن أبي طالب يقيم سلطة مثالية، هي أقرب إلى (اليوتوبيا) التي حلم بها _فيما بعد _ اشتراكيّو أوروبا، الذين كانت فكرة إنقاذ الإنسانية عن طريق (الجمهورية الفاضلة) الفكرة التي نذروا أنفسهم لها، ومن ثم اشتهروا بها.
ولم تكن سلطة علي تكويناً سياسياً قائماً من وحي الساعة، بعد اختياره خليفة للمسلمين، بل هي محصّلة مؤكدة لأفكاره عن السلطة، ودورها في تجسيد مصالح المسلمين ومجتمعات الدولة الإسلامية، بالحق والعدل والإنصاف.
إن تكامل رؤية علي بن أبي طالب ليس مجرّد تكامل نظريّ، مُسطّر في مبادىء إسلامية كان مشتهراً بها، بل هو تكامل نظري مصحوب بطرائق سياسية، وبممارسات لا تنفصل عن تصوراته في طبيعة السلطة، ونوع مهماتها.
ويمكن إحالة موقف علي من سلطته إلى الأصول الأساسية في ذلك، أي إلى الجذور.
وتلخّص الجذور، واستمرارية الموقف إلى نتيجته الأخيرة، مقولة واحدة هي: زهد علي بالسلطة مع إصراره على حقّه فيها.
والحق أن زهده بالسلطة هو واحد من التعبيرات الرئيسية عن طبيعته الزاهدة، إلا أنه _مع ذلك _ لا يمكن التقليل من فاعلية إدراكه لدور السلطة في بناء المجتمع الإسلامي.
إن ثنائية الزهد بالسلطة، والإقرار بالأهمية الكبرى لدورها، هي الثنائية التي كانت تجابه تصلّبات حادة معبّرة عن مصالح رأسمالية السلطة وبيروقراطيتها. ولم تكن تلك التصلّبات المناوئة لتصوراته وطرائقه في بناء السلطة وحدها التي تجابهه، فقد كان أنصاره يتمنّون أن يستبدل الحمار الذي يركبه في أسواق الكوفة، بجواد مطهّم.
كانت تستهويهم الأبهة المنتشرة، وتجرف أحاسيس العديد منهم، سيما أن أنموذج معاوية بن أبي سفيان في طرازه الكسروي أو الهرقلي كان يثير دهشة البدو وإعجابهم، وخاصة في المناطق التي تحادّ الشام.
-----------------------------------------
المصدر : علي بن أبي طالب سلطة الحق

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة