موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

محمد سليم العوا
الانتماء الديني والوحدة الوطنية


"الصحوة الدينية" و "الوحدة الوطنية" تعبيران شائعان في الكتابة السياسية والثقافية العربية المعاصرة. والأغلب أن يراد بتعبير "الصحوة الدينية" الإشارة إلى تزايد التوجه الإسلامي الحركي بين الشباب بخاصة، وبين المنتمين إلى الإسلام بعامة. والأغلب كذلك أن يراد بتعبير "الوحدة الوطنية" الإشارة إلى الروح التي يجب أن تسود في البلاد ذات الأديان المتعددة بين أبناء هذه الأديان: من تسامح ومودة وتحمل، يتحلى بها كل أبناء دين في مواجهة عقائد أبناء الدين الآخر - أو الأديان الأخرى - وممارساتهم.
ولكن كلا من التعبيرين يمكن أن يكون ذا دلالة أشمل وأوسع من الدلالة المتعارف عليها في أغلب الكتابات المعاصرة.
فمفهوم "الصحوة الدينية" يتسع ليشمل الاتجاه المتنامي نحو التدين بوجه عام، لدى المنتمين للإسلام والمنتمين إلى غيره من الأديان على سواء. ويتسع ليشمل التوجه الحركي أو السياسي للتعبير عن الانتماء الديني، وليشمل التوجه العبادي والتوجه الثقافي والتوجه العلمي والتوجه السلوكي (المتصل بالمظهر أو بالجوهر أو بهما معاً) في الوقت نفسه.
ومفهوم "الوحدة الوطنية" يتسع ليشمل العلاقات بين أبناء الوطن الواحد من المنتمين لدين واحد، سواء أكانوا يعتنقون مذهباً واحدًا أم مذاهب شتى في إطار الدين نفسه، والعلاقات بين أبناء الوطن الواحد من المنتمين إلى أديان مختلفة.
ويتسع ليشمل ذوي المذاهب الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية المتباينة من أبناء الوطن الواحد، بصرف النظر عن اتحادهم في الدين أو اختلافهم فيه. وبالمفهوم الأوسع لكل من هذين التعبيرين تعنى هذه المقالة، وبه تستعملهما.
والجامع الذي يدعو إلى الربط بين هذين التعبيرين أو المفهومين أننا في الوطن العربي نشهد مع تنامي الصحوة الدينية بوجوهها كافة، تآكلاً في بناء الوحدة الوطنية بصورها جميعاً. وإذا كانت الصحوة الدينية عامل قوة يستحق كل التأييد والإعجاب، فإن هذه القوة لا تكتمل ولا تؤتي ثمارها على مستوى الوطن كله إلا إذا اقترنت بقوة مماثلة في جانب الوحدة الوطنية.
فإذا تبين أن عامل القوة الأول: الصحوة الدينية، يتحول - مهما كانت الأسباب وبصرف النظر عن النوايا - إلى مؤثر سلبي التوجه على نهضتنا - أو مشروع نهضتنا - المعاصرة. وإذا تبيّن أن عامل القوة الثاني: الوحدة الوطنية، يترنح تحت ضربات - صحيحة أو موهومة - حتى يكاد بنيانه أن يهدم تحت سمعنا وبصرنا، فإن أجراس الخطر يجب أن تدق بقوة، وصيحات التحذير يجب أن تنطلق بلا حوائل لتدارك الأمر قبل فوات الأوان!!
سلبيات الصحوة الدينية
فأما حديث تحوّل الصحوة الدينية من عامل قوة - كما يجب دائماً أن تكون - إلى عامل ضعف، كما هو بادٍ الآن في بقاع كثيرة من الوطن العربي والإسلامي، فإن له مظاهر عديدة نرصد منها:
* الفرقة بين أبناء الدين الواحد: وهي ظاهرة تصاحب المظاهر الأخرى للصحوة الدينية، حيث يرى المستجيبون لدعاتها أنهم تميزوا عمن لم تظهر منهم مثل تلك الاستجابة، ويتصرفون على نحو يتميز بالاستعلاء الذي يبلغ في حالات كثيرة حد "الكبر" المنهي عنه شرعاً، والمكروه طبعاً. وكثير من هؤلاء المستجيبين لدعوة دعاة التدين الشامل لجوانب الحياة كلها، تنظيماً لها أو تأثيراً فيها، يرون أنهم بفهمهم لدينهم قد أصبحوا على الجادة وأن أولئك الذين لا يفهمون فهمهم ولا يتبعون ما يرونه من رأي على ضلال وزيغ وانحراف عن الهدى.
والحق أن كثيراً من أبناء الدين نفسه يكونون على استمساك حقيقي بأوامره، واجتناب ورعٍ لنواهيه، وتقوى صادقة لله سبحانه وتعالى، ولكنهم لا يرون في هؤلاء الدعاة، وفي المستجيبين على سواء، قوة جذب كافية لينحازوا إليهم، أو لا يقتنعون بكثير من الحجج التي يقدمها أولئك لمذهبهم، أو لا يرون فيما يدعون إليه خيراً أو مغنماً في الآخرة أو في الدنيا يهبون لتحصيله أوقاتهم وطاقاتهم.
وهكذا تتحول القوة المتمثلة في التدين والاستمساك بأوامر الدين ونواهيه، إلى ضعف بالفرقة بين أبناء الدين الواحد يجعل قلوبهم شتى، وبأسهم بينهم شديداً، وهو ما يوهن قدرتهم على الإصلاح ويزهِّد في متابعتهم فيما يدعون إليه قطاعات أكبر من أبناء دينهم وأمتهم.
آفة التعصب
* التعصب الضيّق: الأصل أن الإيمان - كالعلم - رحم بين أهله، والإسلام يجعل المسلم أخاً للمسلم: لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله. وهو ينهى عن العصبية نهياً شديداً، ويمقت المتصفين بها.
ومع ذلك فإن من عوامل ضعف تأثير الصحوة الدينية المعاصرة ما ابتلي به كثير من أبنائها من التعصب الأعمى لمن دخل معهم في جماعتهم، والتعصب الأعمى على من لم يشاركهم في هذه الجماعة.
وهؤلاء لا يرون لإخوانهم في جماعتهم خطأ قط، ولا يعيبون عيوبهم ولا ينهونهم عن مناكر القول والعمل، لأن الانتماء إلى "جماعتهم" سبب كافٍ لغض البصر وإغماض العين عن كل خطأ وخطيئة.
وهم في الوقت نفسه لا يرون فيما يفعله غيرهم من خير أو بر أو تعاون على طاعة وهدى شيئاً يجب أن يحمد ويشكر ويؤازر. بل هم يتربصون بأولئك "الآخرين" ليلتقطوا أي بادرة هفوة أو كبوة ويصنعوا منها مأخذا عظيماً تلوكه ألسنتهم ويمشون بقالة السوء عنه بين الناس، غير حافظين لأخوة الإيمان حقها، ولا لصلة الإسلام ما هي جديرة به.
والموافقون في الرأي أو في الانتماء الفكري أو السياسي أكبر حقاً من غيرهم، وليس من الأخوة الصحيحة غض الطرف عن أخطائهم أو خطاياهم. والسكوت عن هذه الأخطاء أو الخطايا تعصباً للانتماء المشترك يؤدي إلى خسائر أكثر مما يحقق من منافع، حتى على مستوى الجماعة الواحدة، فضلا عما يؤدي إليه من تشويه صورتها وصورة المنتمين إليها في نظر الناس عامة.
الغلو في المظاهر
* الغلوّ في المظهرية الدينية: ليس هناك شك في أن للمتدين مظهراً وسمتًا يختلفان عن مظهر غير المتدين وسمته. وبعض المتدينين يستكمل كل المظاهر والرسوم التي تطلبتها نصوص أو مأثورات دينية، وبعضهم يكتفي ببعضها دون بعض. وليس في هذا كله شيء يؤخذ على أصحابه. وليس لأحد أن يلوم أحداً على ما يختاره لنفسه من ملبس أو مظهر.
ولكن الذي نتحدث عنه هنا أمران: أولهما الغلو في اتخاذ المظاهر المنسوبة إلى الدين، غلوا يخرج بصاحبه عن المقبول والمألوف بين المتدينين أنفسهم فضلا عن غيرهم. وثانيهما هو إلزام الناس بما يراه بعض الدعاة أو بعض المتدينين واجباً في مسائل الزي ومسائل المظهر العام للرجل أو للمرأة.
والغالون في هذه المسائل ينشغلون بها عما هو أهم منها، وأكثر جدوى على جماعة المتدينين، بل وعلى أنفسهم. وهم يحكمون على الآخرين بمدى التزامهم ما يرونه هم لازماً من هذه المظاهر، ويخطئون في أحيان كثيرة حين يجعلون أساس الموالاة أو المعاداة ما يتخذه من يوالونهم أو يعادونهم من مظاهر في الزي واللباس.
والغلو في هذه الأمور يحدث نفرة وتخوفاً عند العامة - وهم الوعاء الطبيعي للدعوة - من أولئك الغالين، فيكون أثر الغلو ضارا على الأصل الذي يتخذ المتدين بسببه مظهراً ما. وقديماً قال العز بن عبدالسلام "كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل".
وإذا كانت مخالفة المألوفات الاجتماعية غير لائقة، فإن مخالفة الواجبات أو المحرمات الشرعية غير جائزة. ولكن المسلم الفاقه لدينه يجب أن يضع كل تصرف وكل قول وكل فعل في مكانه الصحيح، فلا يغالي في أهمية شيء على حساب الأشياء الأخرى، ولا يضيع الأهم بسبب حرصه على المهم.
ونحن نفقد الكثير من الجهد والطاقة والوقت في أمور لو لم تناقش أصلاً ما قدمت ولا أخّرت، ولو أنفق بعض هذا الجهد في النافع المفيد لكان عائده أكبر كثيراً وأنفع للدعوة الدينية وللأمة المدعوة.
إهمال البعد الحضاري للدين
* من المظاهر المنذرة بخطر كبير في تيار الصحوة الدينية أن قطاعات كبيرة ممن ينتمون إلى التيار الديني لا يرون في الدين ما يجب أن يكون واضحاً للمنتمين إليه من كونه المميز الحضاري لأبنائه، والصانع الأول في مشروع النهضة للمؤمنين به.
إن الذي تواجهه الأمة الإسلامية في عصرها الحاضر هو تحدٍ حضاري في المقام الأول، والجديد الذي وقع بانهيار النظم الشيوعية في العالم كله لم يزد هذه الحقيقة إلا تأكيداً ووضوحاً.
فبعد أن كان ينظر إلى الإسلام على أنه دين ينتمي إلى العالم الثالث، ولا يشغل بال "صناع الحضارة" إلا بقدر ما يحتمل له من تأثير على الموارد المتاحة والمأمونة للمواد الخام، أصبح ينظر إليه الآن على أنه التحدي الحقيقي الوحيد أمام الحضارة الغربية التي اكتسحت منافستها في النظم الشيوعية الشمولية بين عشية وضحاها، في أسرع عملية انهيار سياسي واجتماعي لم يحلم بها حتى ألد أعداء الشيوعية، ولم تخطر لأكثر المتفائلين على بال. ولم يعد صامداً في تميزه - في مقابلة الحضارة الغربية - إلا الإسلام الذي يزداد انتشاراً حتى بين الغربيين أنفسهم، برغم سوء المثل الذي يضربه كثير من أبنائه.
وهذه الحقيقة يجب أن تقودنا إلى الانشغال التام بقضية بناء مشروع إسلامي للنهضة العصرية. وهو مشروع لا يرمي إلى تقويض ما يبنيه الآخرون لأنفسهم، ولكنه يقصد إلى المحافظة على هويتنا الإسلامية، وذاتيتنا الحضارية في مواجهة محاولات التغريب والتذويب الدائبة، والمؤثرة قطعاً، في بناء الأمة وكيانها.
وإذا كان البعد الفردي التعبدي فرض عين على كل مسلم، فإن البعد الجماعي الحضاري فرض كفاية على الأمة كلها: تأثم بتركه، ويشتد إثم القادرين من أبنائها على المساهمة فيه، إذا قعدوا.
ولو أن بعض المال الذي ينفق على بناء المساجد وتزيينها، أو الذي ينفق في تكرار فريضة الحج عشرات المرات لآلاف من المسلمين أو الذي ينفق في احتفالات تسمى دينية: رسمية وشعبية، لو أن بعض هذا المال خصص لدراسة تصورات المشروع الحضاري الإسلامي، وكيف يمكن صياغته، وما هو السبيل الأمثل للتحدي به، محليًا وعالميًا، وما هو الخطاب الذي يجب أن نوجهه إلى أنفسنا ثم إلى غيرنا... لو فعل ذلك لاختفت مظاهر مرضية كثيرة من تيار الصحوة الدينية، ولحقق المال فوائد أشمل وأبقى مما يحققه إنفاقه في الذي وصفنا من أمور.
الدين مبررًا للعنف!
* استباحة العنف ضد المخالفين: يقع فريق من المنتمين إلى تيار التدين في خطأ فادح حين يستبيحون لأنفسهم استخدام العنف ضد مخالفيهم في الرأي أو خصومهم في الفكر.
وقضية العنف قضية بالغة التعقيد: أسباباً ومظاهر، وأفعالا وردود أفعال، وتداعيات محلية وعالمية، وبواعث حقيقية أو مصطنعة... إلخ ما يتصل بها وتتصل به من شجون وشئون.
ولكن الذي يعنينا هنا أن العنف في العمل الديني مظهر ضعف لا مظهر قوة، ودليل عجز لا دليل قدرة، ومجلبة ضرر أكبر منه مصدر نفع.
ومهما يكن مقصد هؤلاء الذين يستبيحون العنف مع الآخرين سليما، ومهما تكن نياتهم الحسنة صادقة، فإن سوء التصرف يذهب بكل أثر لسلامة القصد ولحسن النية.
وإذا كان كثير من التصرفات المتسمة بالعنف يأتي - في الأصل - رد فعل لمثيرات تستثير في بعض الشباب "الحمية الدينية" والغيرة الإسلامية، فإن رد الفعل يجب أن يكون محسوباً ومشروعاً، وكلما كانت الاستثارة أكبر كان الحذر أوجب.
وإذا كان الدين في المجتمع هو عامل بناء النهضة الوطنية والاجتماعية، وهو كذلك يقيناً، فإن دور دعاته داخل الوطن ومع أبنائه كافة لا يجوز بحال أن يخرج على الإطار الذي رسمه الله تبارك وتعالى من دعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، وجدال - عند الضرورة - بالتي هي أحسن.
سلبيات الوحدة الوطنية
والوحدة الوطنية بمفهومها الأعم الذي نقصد إليه، ليست أحسن حظا من الصحوة الدينية. ذلك أنها هي الأخرى تعتريها علل قديمة وحديثة تضعف من أثرها المرجوّ : عاملاً من عاملي قوة الأمة وتماسكها. ونستطيع أن نرصد هنا عددًا من مظاهر هذه العلل:
* العداء بين المتحدين في الدين لاختلافهم في المذهب:
وإذا كانت الوحدة الوطنية تعني - بين ما تعنيه - إهمال الفروق الدينية في التعامل الاجتماعي والسياسي إعلاء لشأن التوافق الوطني، فإنها يجب - من باب أولى - أن تتوجه إلى إهمال الفروق "الفنية أو التفصيلية" التي تتصف أو توصف بأنها "عقدية" أو "أساسية" بين أبناء مختلف المذاهب والتوجهات الفكرية المنتمية أو المبنية أو المستمدة من دين واحد.
* العداء بين ذوي الأديان المختلفة في الوطن الواحد، وقد كان من قوانين المستعمرين الغربيين قديماً : فرّق تسد. وكانت الأجيال السابقة من بني الأوطان العربية والإسلامية أكثر تفهما لمخاطر الفرقة والتمزق، فكانت وحدة بني الأديان المتخالفة هي السلاح الأمضى في مواجهة القوة الاستعمارية الغاشمة.
ثم عرتنا- مع توالي الاستقلال وحكام الاستقلال - أمراض اجتماعية خطيرة كان بينها انهيار سدّ الوحدة الوطنية، أو اهتزازه.
وكما أن التعصب بين أهل الدين الواحد - حين يختلفون فكراً أو منهجاً - يعد أمراً شديد الخطر، فإن التعصب بين أهل الأديان المختلفة يذهب بأس الأمة وشوكتها، ويضيع في مواجهة عدوها الداخلي والخارجي احترامها ومهابتها.
ومن عجائب ما أصاب الوحدة الوطنية في العقود الثلاثة الأخيرة تلك الاعتداءات التي لم تسلم منها دور العبادة أو الأملاك الخاصة بها. ورسخ في الأذهان أن بين أهل الأديان المختلفة عداءً دائماً ، حتى أن بعض الكتابات الإسلامية - في مصر - المدافعة عن حقوق المسيحيين الاجتماعية قد قرئت قراءة خاطئة وفسرت تفسيرات مبنية على هذه القراءة غير الصحيحة، واستنتج منها ما لا علاقة له بمضمونها ولا أصل له في ألفاظها ... ولم يكن لذلك من سبب إلا ما رسخ في الأذهان عن عداوة أهل كل دين لأبناء الدين الآخر: المسيحية والإسلام.
وهذه العداوة الحادثة تخالف الأصل الإسلامي في العلاقات الإنسانية، وهو الأصل الذي نطق به القرآن الكريم:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم. (الحجرات: 13
العداء بسبب اختلاف الفكر
الواقع في حالنا العصري أن المفكرين والمبدعين وأصحاب الثقافة وأرباب الأقلام قد أصابهم من الأعراض المرضية ما أصاب سواهم، فأصبحوا فرقاً متنابذة، وشيعاً متنافسة. تغلب عليهم الأنانية وتسوقهم الأثرة، وتفتنهم عن رسالتهم السامية في تنوير الأمة وتثقيفها مغانم قريبة ومطامع تافهة من شهرة أو جاه أو حظوة، ويحول ذلك كله بينهم وبين دورهم الأساسي، ويمنعهم من التفرغ لما ينفع الناس ويمكث في الأرض، وتراهم يلهثون - وهم لا يشعرون - وراء ما يذهب جفاء!!
بين مفكرينا وأدبائنا وأهل الرأي منا جماعات آمنت بأن التقدم والتطور والرقي في متابعة ما سبق الغرب إليه من أفكار وتجارب ومذاهب، وفينا من هؤلاء جماعات آمنت أنه لا يصلح حالنا الفكري والثقافي إلا بما صلح به حال أوائلنا، فعكفوا على تراثهم الصالح يستنطقونه، ويستنبئونه، ويعيدون تعريف الناس به وتقريبهم إليه.
ونحن بحاجة لا تنقضي إلى عمل الفريقين جميعاً: فلا نحن يمكن أن نكون نُسَخًا مقلدة من نظرائنا الغربيين، ولا نحن نستطيع أن نبني نهضتنا الفكرية العصرية مهملين ما سبقت الأمم الحاضرة إليه من عمل فكري ومن نماء ثقافي.
فكما يتبادل جهلة المتعصبين التهم والشتائم - أحيانا - يتبادل المنسوبون إلى الرأي والفكر والثقافة التهم والشتائم.
وكما تمنع العصبية البغيضة جماهير عريضة من الإفادة من دعوة بعض الدعاة بتدّين بعض المتدينين، تمنع العصبية نفسها تلاميذ المدارس الأدبية من الإفادة من غير مدارس أساتذتهم وإلا حاق بهم الغضب، وحلت عليهم اللعنة، وعدوا مارقين وخارجين.
وكما يقع ذلك بين أهل الأدب والفكر والثقافة، يقع بين أهل العلوم العصرية والتقنية سواء بسواء.
فكيف يرجى لأمة هذا حال علمائها وأدبائها ومفكريها نهضة بعد كبوة، أو تقدم بعد تخلف، أو رقي بعد انحطاط؟؟؟
انحراف الصحوة وانهيار الوحدة
وليس أمر انحراف الصحوة الدينية، وانهيار الوحدة الوطنية مما يجوز التهاون فيه، أو السكوت على مظاهره المدمرة. ويكفي أن يتأمل المتأمل آثار هذا الانحراف وذلك الانهيار ليضم قواه كلها وطاقاته البناءة جميعًا - أيا كان موقعه - إلى قوى الرشد في تيار التدين، وإلى عوامل الدعم والبناء للحفاظ على الوحدة الوطنية.
فأول ما يصيبنا من جراء انحراف الصحوة الدينية وانهيار الوحدة الوطنية، وأخطره، هو أن يفقد الناشئة ثقتهم بأديانهم وأوطانهم معاً. فالفتى أو الفتاة إذا رأى ما وصفت- أو بعض ما وصفت - من أعراض المرض في تيار التدين، وفي وحدة أبناء الوطن لا يؤمن أن يكون أثر ذلك في نفسه - مع انعدام القدوة الصالحة، والكلمة المصوِّبة - أن يكفر بتدين المتدينين وينكر وطنية الوطنيين في وقت واحد.
وإذا وقع هذا فإن معناه أن يصبح الوطن كشجرة بلا أغصان، تذبل أوراقها وتتساقط، ويضعف جذعها ويشيخ، حتى تموت في مكانها.
وثاني ما يصيبنا من جراء انهيار الوحدة الوطنية وانحراف الصحوة الدينية، أن يتمكن منا المغربّون والغزاة الثقافيون!! فإنه إذا لم يكن في الإناء ما يملؤه، استطاع كل حامل ماء - أو سقّاء - أن يصب فيه بعض مائه.
وإذا أدرك شبابنا أن الذي ندعوهم إليه لا نمارسه، وأن الخير الذي في أصولنا هو سطور كتب صماء لا تجد في الحياة متبعًا صادقًا ولا ترجماناً أميناً، وأن حديث وحدة الأمة هو حديث خرافة تكذبه الوقائع صباح مساء في كل بقعة من بقاع الوطن، إذا أدرك الشباب ذلك كله، فلم لا ينقادون طائعين مختارين إلى تقليد الغزاة الثقافيين وإلى قبول قول المستغربين والمغرّبين؟!
كيف الخروج من الأزمة؟
والمخرج من هذا الخوف - البادية بوادره - أن تتجه القوى الوطنية العربية الصادقة إلى طريق واحد ذي شعبتين: ترشيد الصحوة الدينية، لا حربها، وتقويمها لا مواجهتها، وتقويتها، لا الهجوم عليها.
وترسيخ الوحدة الوطنية بين بني الأديان المختلفة وبين أبناء الدين الواحد، وترسيخ الوحدة الوطنية بين بني الوطن جميعًا أياً كانت دياناتهم، وترسيخ الوحدة الوطنية بين ذوي المذاهب الفكرية والثقافية والعلمية مهما تكن أصولهم التي يبنون عملهم عليها متباعدة، وحتى لو بدت متناقضة، فالكل بالكل يبقى. والواحد المنفرد يشقى أو يفنى!
----------------------------------------
المصدر : مجلة العربي 398 / 1 ـ 1 ـ 1992

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة