موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

خلدون حسن النقيب
العقلية التآمرية عند العرب


ونقصد بالعقلية التآمرية طريقة في التفكير الانفعالي، تدعو إلى الاعتقاد بأن: 1) العرب أمة متميزة "مختارة" ذات رسالة تاريخية حضارية، ولذلك فهم مستهدفون بمؤامرة تحاك ضدهم بشكل واع مقصود. 2) ويساهم في هذه المؤامرة جهة معينة "مجهولة" أو غير محددة المعالم. 3) وأن هذه المؤامرة تحاك في الخفاء، ولكن يستدل عليها من كون الفعاليات التآمرية، تتخذ شكل الرموز والشواهد والمعميات. ولذلك، فلا بد من الكشف عنها وفضح أساليبها. 4) وأن هذه المؤامرة والنشاطات التآمرية، تهدف في النهاية إلى القضاء على العرب كأمة وكحضارة، أي على رسالتهم التاريخية الخالدة.
إن أحد أهم شروط العقلية التآمرية هي المقولة الثالثة، أن المؤامرة لا بد أن تكون سرية. ولذلك، فلا سبيل إلى إثبات وجودها أو الوصول إلى حقيقتها بشكل علني ونهائي، لأننا هنا نتعامل مع رموز وشواهد ومعميات. ولذلك، فهي تحمل في أحشائها سبب استمرارها ودوامها لمن أراد الاعتقاد بوجودها.
ولو كان هذا النوع من التفكير قاصراً على العرب في العصر الحديث والمعاصر، لكان هذا الأمر مفهوماً ومعقولاً. فقد خلقت الأمبراطوريات الإمبريالية والاستعمارية الحديثة مصالح عامة، تشمل العالم كله، وطورت أساليب البطش وفرض السيطرة الماكرة السياسية والثقافية والنفسية، في سعيها إلى استبعاد العالم الثالث. فالعقلية التآمرية تناسب هذه الأوضاع مناسبة كاملة، لأن ظهور الدول الكبرى، التي تهيمن على العالم الحديث والمعاصر، اقتضى تعطيل تقدم دول العالم الثالث، واستباحة مواردها والتآمر عليها في السر والعلن. وكان نصيب العرب من هذا وافراً، وخاصة من سلاح فرّق تسد، الذي كان له نتائج مدمرة كثيرة ومعروفة.
ولكن بعض العرب، ممن يدينون بالعقلية التآمرية، يوسعون الأفق التاريخي لهذه الفاعليات التآمرية، لتشمل جميع العصور والمراحل التي رافقت نشأة الدولة (والحضارة) العربية الإسلامية، أي أكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمن. وهم بذلك يخلطون بين الصراع والتنافس الثقافي والاقتصادي (الذي يتخذ أشكالاً سياسية وعسكرية) بين الحضارات والأمم، وهو أمر "طبيعي" أو اعتيادي في التاريخ البشري (له أسباب متباينة واضحة)، وبين الصراع التآمري الذي يهدف إلى غاية محددة مبطنة، تسعى إليها جهة محددة بشكل واعٍ مقصود وهي القضاء على العرب.
وليس المقصود هنا القضاء على العرب كقومية أي كأمة فقط، فربما تعتقد بأن مفهوم الأمة هو مفهوم حديث، لم يكن له وجود في العصور القديمة، أو لم يكن له قوة التوجيه للسلوك التي هي له الآن، وإنما القضاء على العرب كدعاة دين سماوي أيضاً. فالإسلام كان أساس رفعة العرب ورقيهم الحضاري، فإذا ضعف هذا، ضعف العرب وانحطوا. وهكذا فقد استهدفت المؤامرة، بحسب هذه العقلية، العرب كجماعة دينية وكأمة، واتسع نطاقها لتشمل جميع العصور والمراحل التاريخية.
ما هي، إذاً، ملامح هذه العقلية التآمرية عند العرب؟ وما هي أطوارها التاريخية؟
_2_
لقد بدأ التآمر على العرب، بحسب منطق هذه العقلية، "بمؤتمر نهاوند" ! سنة 641 ميلادية، أي بعد مرور إحدى وعشرين سنة للهجرة فقط. ويتوصل كاتب من أمثال عبد الرزاق الحصان إلى تاريخ وكيفية انعقاد هذا المؤتمر، من إعادة تفسير رواية الطبرى لأحداث فتح إيران. إذ يذكر الطبري أن جيوش المسلمين، كانت تجدّ في طلب يزدجرد، أمبراطور فارس، فكان أن دعا هذا "الجبال وغيرهم" أن يوافوه في نهاوند، للتشاور في أمر تقدم جند المسلمين. وتعاهد هؤلاء على إخراج من في بلادهم من جند عمر، واقتلاع هذين المصرين (البصرة والكوفة)، وتعاهدوا كذلك "على أن يشغلوه (عمر) في بلاده وقراره".
_3_
أما الحلقة الثانية، فتبدأ بالحملات الصليبية (1095 _ 1291م) والغزو المغولي (1235 _ 1260م)، أي أن العرب قد تعرضوا للغزو من الغرب والشرق في أوقات متقاربة.
أما المغول، فقد استوعبهم العرب والمسلمون (كما استوعبوا التركمان من قبلهم) بدخولهم في الدين الإسلامي، وامتزاجهم بالحضارة العربية _ الإسلامية، وإن كانت فترة حكمهم، قبل دخولهم الإسلام، قد اقترنت بظهور حركة أو موجة من حركات المقاومة الجديدة، هذه المرة بقيادة ابن تيميه (1263 _ 1328م). وقد تميزت حركة المقاومة الجديدة بآراء، أقل ما يمكن وصفها بها، أنها رجعية، منها: مبدأ تفضيل الخضوع للإمام المسلم الجائر على عدم وجود السلطان، ومنها الرأي القائل بضرورة طاعة الحاكم، ولو كان جائراً، تجنباً للفتنة واتقاء لتفرق كلمة المسلمين.
أما الصليبيون فلهم قصة أخرى مع العرب. لقد استهدفت حملاتهم، في الظاهر تحرير الأراضي المسيحية المقدسة من "الكفار" العرب. وقد انطوت على استهداف العرب كجماعة دينية بشكل خاص: أي كمسلمين وكحضارة. ويرى من يحمل العقلية التآمرية أن الصليبية هي نزعة عقلية وسياسية ثابتة، تحكم الفكر الغربي المسيحي، لم تنته باحتلال عكا والقضاء على الإمارات الصليبية في الشرق سنة 1291م، بل امتدت إلى المغرب العربي بعد ذلك، وساهمت في طرد العرب من الأندلس (1492م). وقد بقيت هذه النزعة ثابتة مستترة، توجه سياسة الغرب التآمرية في تعامله الثقافي والعسكري والاقتصادي مع الشرق العربي _ الإسلامي طيلة هذه الفترة، وتجد مصداقاً لهذا الاعتقاد في كلمة الجنرال الفرنسي المشهورة عندما دخل الفرنسيون دمشق محتلين غزاة، سنة 1920: لقد عدنا يا صلاح الدين.
ومن هذا المنظور، يمكن اعتبار صراع الغرب الاستعماري الرأسمالي مع الدولة العثمانية، طيلة فترة حكمها، صراعاً بين الصليبية والإسلام، أي صراعاً بين حضارات وبين أساليب في الحياة وفي النظر إلى العالم يتخذ من الدين ستاراً، ولكنه صراع من أجل البقاء، وحتى النهاية. وكما ساهمت الدولة العثمانية، في البداية، في تشجيع البروتستانت ضد الكاثوليك، في وسط آسيا وشرقها (وأدى في النهاية إلى انشقاق أوروبا) مما دعا البابا إلى توحيد أوروبا الكاثوليكية في حرب مقدسة جديدة ضد المسلمين العثمانيين، كذلك ساهمت أوروبا في إذكاء الخلافات المذهبية والنزعات الانفصالية بين شعوب الدولة العثمانية فيما بعد، وخاصة في تحريض الصفويين على جناح العثمانيين الأيمن _الشرقي.
وهناك من يغلو في الاعتقاد بهذه العقلية التآمرية، ويصور جميع علاقات الصراع والتنافس الحضاري والاقتصادي والعسكري، بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، على أنها حرب صليبية متصلة، يدخل ضمنها العديد من النشاطات، من الاستشراق إلى إدخال الإفكار القومية "الانفصالية"، التي أدت إلى انهيار مؤسسة الخلافة إلى نشر المفاهيم الديموقراطية _ الدستورية الغربية عن التراث الإسلامي، إلى تسليط الصهيونية والماسونية وغيرها من الأفكار "المريضة" على العرب. وهكذا فقد وضعت في هذه المرحلة الأسس لحلقة أو حلقات جديدة من التآمر على العرب.
_4_
ونجد في الحلقة الثالثة من النشاط التآمري ضد العرب، عناصر الحقيقة والوهم قد اختلطت وامتزجت، حتى ليصعب الفصل بينها وإدراك معمياتها. ونقصد بذلك مجموعة النشاطات، التي ترمز إليها سلسلة الأحداث المتصلة بتحول الخزر من الوثنية إلى الدين اليهودي، وظهورهم كالقبيلة الثالثة عشرة لبني إسرائيل (بين منتصف القرن 10 م ومنتصف القرن 13 م)، وتحول إيران، بالقوة والإكراه، إلى تبني المذهب الشيعي (بين سنتي 1511م _ 1524م). ومن أن هذين الحدثين لا صلة منطقية بينهما، اللهم إلا اتفاقهما في النتائج التي تريد العقلية التآمرية التوصل إليها، للتدليل على وجود مؤامرة تاريخية ضد العرب.
وبعد انهيار مملكتهم على أيدي المغول، واستمرار الضغط عليهم من القبائل التركية الأخرى، يبدأ هؤلاء، حوالي سنة 1247م، بالهجرة إلى بولندا وأواسط أوروبا. حتى يعودوا، في القرن العشرين، إلى احتلال فلسطين، وقد شكلوا النسبة الغالبة من سكان إسرائيل وحكامها الأشكناز. فالصهاينة الأوروبيون لا علاقة لهم بيهود إسرائيل القدماء وأسباطها الاثني عشر، وإنما هم في الغالب من أصول تركية، اعتنقوا الديانة اليهودية، في غفلة من الزمن وفي ظروف غامضة، ولا يربطهم بالشرق رابط.
أما الجانب الآخر من هذا النشاط التآمري، فيما يتصل بتحول إيران إلى المذهب الشيعي، فعنصر الحقيقة فيه واضح، إلا أن افتراض وجود نية مبيتة وإدراك تام للنتائج، هو أقرب إلى الوهم. فقد فرض إسماعيل شاه الصفوي المذهب الشيعي، وكان مذهب الأقلية، على إيران بأسرها. وقد ترتب على ذلك انشقاق العالم الإسلامي، وإحداث الصدع المذهبي، الذي لم يلتئم منذ ذلك الحين. ومع أن الفاطميين قد تسببوا بالانشقاق الأول في العالم الإسلامي، إلا أنه كان انشقاقاً دينيّاً، بينما في حالة إسماعيل شاه، فقد دخل فيه العنصر الإثني _ القومي، فكان صدعاً رهيباً كاملاً.
_5_
وقد استهدفت الدول الأوروبية الكبرى فرض هيمنتها على الدول العثمانية، عن طريق البحث عن عناصر الفرقة والتجزئة في التركيبة الاجتماعية _ الاقتصادية (التعددية)، سواء كانت عناصر الفرقة هذه دينية (مسلمون _ مسيحيون) أو مذهبية (سنية _ شيعية / أرثوذكس _ كاثوليك) أو إثنية (أتراك _ عرب/ عرب _ أكراد)... إلخ. وهكذا خلقت، منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، مشكلة الأقليات في قلب العالم العربي، والتي ستبقى، منذ ذلك الحين إلى الوقت الحاضر، الشغل الشاغل للعرب _ أو بلغة الحصان، الأسلوب الأمثل لمشاغلتهم في بلادهم وقرارهم.
والآن، لاحظ كيف أن العنصر الذي كان عنصر قوة في الدولة العثمانية، وهو الصيغة "التعددية"، المبنية على التسامح الإسلامي بين الأديان والمذاهب والإثنيات، الذي تبلور في شكل نظام الملل، قد حولته الدول الأوروبية الكبرى إلى أداة تجزئة وإضعاف للدولة العثمانية. إذاً، فقضية الأقليات هي مشكلة حقيقية، قامت الدول الكبرى بتسييسها وتحويلها إلى سلاح تفرقة. ولذلك، فهي لم تكن في يوم من الأيام مؤامرة سرية. وقد تنبهت لها الحركات القومية، منذ البداية، وسارعت إلى تبني الحل العلماني، كحل منطقي ومعقول لها.
ولكن حملة العقلية التآمرية، لا يرضيهم هذا التفسير، ويربطون بين محاولات الدول الكبرى تجزئة البلاد العربية، بقضية الأقليات، وبين الحملات التبشيرية، كامتداد للصليبية المسيحية، لإثارة النعرات الطائفية. وبين الحركات القومية الداعية للانفصال عن الدولة العثمانية وإنشاء دولة (أو مملكة) عربية مستقلة. وهكذا تكون الدول الكبرى، والحملات التبشيرية، والقومية، والعلمانية، وفيما بعد، الصهيونية والماسونية جميعاً شركاء في سلسلة من النشاطات التآمرية الغربية الغامضة ضد العرب.
_6_
ومن المفارقات الغربية أن الدعوة القومية، من منظور التيار اليميني، وكأنها دعوة إلى التجزئة في دول _قومية، بعد أن كان العرب موحدين في مؤسسة الخلافة الإسلامية (العثمانية). ولكن الحقيقة أن التجزئة بشكل الدول _ القومية، قد فرض فرضاً على الحكومات الوطنية، من خلال السياسات الاستعمارية الغربية.
_7_
ومع نهاية القرن التاسع عشر، يبدأ التآمر الحقيقي الفعلي على العرب، من قبل الدول الاستعمارية الكبرى. وقد انتظمت هذه الجهود في سلسلة متصلة من الفاعليات والأحداث: الاتفاق الثلاثي (1907) ، اتفاقية سايكس _ بيكو لتقسيم البلاد العربية (1916)، وعد بلفور (1917)، مشروع الانتداب _ الاستقلال للولايات العربية (اعتباراً من 1919)، الاستيطان اليهودي (1917 _ 1948)، خلق إسرائيل (1948)، هزيمة العرب في حرب 1948، العدوان الثلاثي (1956)، هزيمة العرب في حرب حزيران / يونيو (1967)، وأخيراً بدء مرحلة الأمن العبراني (1967 _ 1984).
وعلى الرغم من استعمال إدارات الانتداب لسلاح فرّق تسد، وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعشائرية، إلا أن ذلك لم يمنع الحركات القومية _ التحررية والإصلاحية من النمو والازدهار، في العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن، بل أصبح خطرها واضحاً، في نهاية هذه الفترة، في إمكانية تحقيقها لوحدة العالم العربي. وللغرب، كما ترى، مصلحة واضحة في منع ذلك.
_8_
فقد برزت الولايات المتحدة بعد الحرب كدولة عظمى، ورثت مصالح الغرب الإمبريالي في المنطقة ووحدتها، ودفعت بالقوى السياسية المحلية المتصارعة إلى حالة الاستقطاب الأيديولوجي، الذي فرضته على العالم من خلال الحرب الباردة، التي أعقبت الحرب العالمية الساخنة بقليل. هنا، وللمرة الأولى، يتخذ التآمر على العرب (وغيرهم من شعوب العالم الثالث) كل أبعاده الحقيقية ومواصفاته الفعلية. فهناك جهة واحدة تقوم بالتآمر بشكل واع مقصود، ويتخذ هذا التآمر أشكالاً مختلفة ماكرة، مبطنة خادعة أحياناً، وعلنية سافرة، تباع وتشرى فيها الذمم أحياناً أخرى. وعندما يكون النشاط التآمري سريّاً، فمن الصعب إثباته بشكل نهائي وقاطع، لافتقاد من يريد ذلك إلى الدليل القطعي.
ولكن واحداً من أشكال المكر في هذه السياسة الخبيثة، هو ليس التشكيك في إخلاص القادة السياسيين فقط، إنما تسريب المعلومات بشكل واع، مدروس، عن ضخامة هذه الفاعليات التآمرية وشموليتها، وفداحة محاولة مقاومتها، والويل والثبور اللذين سيصيبان العرب إن هم فكروا في ذلك. وهكذا يصور العرب أن خلف كل زاوية جاسوساً لأميركا، وبين أصلب المناضلين وأخلص القادة من يعمل لحسابها، وأن هناك دائماً "طبخة" تعد في المطبخ الأميركي، وأن خيوط مسرح العرائس تحركها الدمى، حسبما تشتهي السياسة الأميركية. بل إن هذه الدولة العظمى، تعلم كل شيء، وتعد العدة لكل طارىء قبل وقوعه. وهي قادرة على إنزال العقاب بمن لا ترضى عنه، وعلى تغيير أو تصفية من تشاء من الحكام، ولا تحد قدرتها حدود.
ومن منّا لم تهزه قراءة كتاب مايلز كويلاند: لعبة الأمم (1969)؟ وهل هناك أروع من تصوير أمم الأرض، ما بين ضعيفها وسمينها، على أنها بيادق يجري تحريكها في وزارة الخارجية الأميركية، بحسب سيناريوهات لعبة الأمم؟ ثم يأتي فيليب أكي ليفضح وكالة الاستخبارات الأميركية، ويكشف قوائم بأسماء وعناوين عملائها.
ثم تنشر، في وقت متقارب، قوائم بأسماء الأشخاص الذين تلقوا مساعدات من وكالات التجسس الأميركية، وكل هذا مقصود ومدروس، خاصة أن هذه القوائم لم تتضمن أسماء القادة السياسيين فحسب، بل تضمنت كذلك أسماء طلاب جامعيين ونقابيين بارزين وصحفيين وأدباء وكتّاب، لم يكن يرقى إلى إخلاصهم ونزاهتهم شك. والعبرة في كل هذا واضحة، طبعاً، وهي أن وكالات التجسس الأميركية، تستطيع الوصول إلى كل مكان، وإلى من تشاء.
ولكن لابد لنا أن نعترف أيضاً بأن هناك كثيراً من المبالغة في قدرة أميركا، وقدراً غير يسير من التهويل بإمكانية أميركا على التحكم في مسار الأمور على نطاق عالمي. ففي كثير من الأحيان، تعكس السياسات الأميركية قصر النظر والتخبط (بل الغباء في بعض الحالات). وهناك أيضاً العديد من الهفوات، وثم الأخطاء الفادحة في التقدير أو في تنفيذ هذه السياسات. فمنفذوها بشر، تنقصهم بشكل واضح الخبرة في رسم السياسات الإمبريالية على نطاق عالمي.
ولكن هناك أمثلة ناصعة على كيفية دحر هذه السياسات وهزيمتها، من كوبا إلى فيتنام، إلى لبنان. ولذلك، فليس هناك أي مبرر لليأس والقنوط المصاحبين للعقلية التآمرية، التي تسود بين العرب هذه الأيام، والتي تصور الوضع وكأنه "طبخة" تطبخها الولايات المتحدة، من دون أن يكون فيه للعرب حول ولا قوة. فالولايات المتحدة _بحسب التعبير الشائع هذه الأيام _ تمتلك كل أوراق اللعبة، وهو هراء المستسلم العاجز.
وترفض العقلية التآمرية التفسيرات المنطقية البسيطة، حتى إن كانت أقرب إلى الحقيقة، وتفضل عليها التفسيرات الغامضة المعقدة، التي يستدل عليها بالرموز والشواهد والمعميات، وإن كانت تستند إلى متناقضات لا تجتمع. وتصور العقلية التآمرية استهداف العرب، كأمة وجماعة دينية، على أنه صراع حياة وموت، أي صراع من أجل البقاء. وبذلك تخلط هذه الطريقة في التفكير بين التنافس "الطبيعي" والصراع الاعتيادي بين الحضارات والجماعات الإثنية، وبين الصراع الذي يكون مجموعه صفراً. فليس كل أنواع الصراع صراعات إبادة، حيث إن ما يكسبه خصم، هو بالضبط ما خسره الخصم الآخر.
ولذلك، وحتى لا نصاب بهذه العقدة التآمرية المولدة للشلل، لابد من تمحيص القضايا والمعلومات، وتوخي الموضوعية والواقعية في التحليل والتعليل، وتجنب المبالغة في تصوير تفردنا، وفي تعالي رسالتنا الخالدة. فما نحن، في النهاية، إلا أمة كبقية الأمم، تسعى إلى الحرية والرقي. وإذا أردنا التميز والتفرد، فما ذلك إلا لأننا لا بد نريد المساهمة أكثر من غيرنا أو أفضل من غيرنا، في إغناء الحضارة الإنسانية لخير البشر جميعاً.
--------------------------------
المصدر : في البدء كان الصراع

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة