موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة القانون

أحكام المفلس والتحجير عليه
هاشم معروف الحسني



لقد حدّدَ الذمة بعض الشرعيين والمؤلفين في الفقه الوضعي بأنها عبارة عن أهلية الإنسان لأن يكون موضوعاً للحقوق التي له وعليه كما نص على ذلك السنهوري في مصادر الحق والوسيط والدكتور محمد يوسف في كتابه المدخل لدراسة نظام المعاملات، والأنسب في تعريفها هي كونه أهلاً للحقوق التي عليه، وأما التي له فلا تدخل في معنى الذمة.
ومهما كان المراد منها فهي تلازم وجود الإنسان وتبقى له ما دام حياً، ولذلك فهو كما يملك منذ وجوده يغرم لغيره ما يجنيه على الأموال والأنفس، وكل ما يعرض على الإنسان من العوارض سواء كان طبيعياً كالنوم والغفلة والجنون، أم كان طارئاً كالسفه والفلس والمرض ونحو ذلك مما لا يوجب نقصاً في الإنسان، هذه الحالات الطارئة لا تمنع من أهلية الإنسان لأن يكون موضوعاً للحقوق التي له وعليه ولا تفسد ذمته وإنما تمنع من أهليته للتصرف وتحد من صلاحيته للالتزامات، ولكنها تختلف من حيث تأثيرها على تصرفاته المالية وغيرها، فالصغر والجنون والنوم والسكر هذه الحالات تجعل الانسان غير قابل لأداء أي عمل من الأعمال التي اعتبرها الشرع والقانون موضوعاً للآثار، أما السفه والفلس فإن تأثيرهما على أهلية الإنسان محدود لأنه لا يفقد معهما ارادته وقصده اللذين لابد منهما في انشاء البيع والإجارة وغيرهما من الالتزامات ولا يفقد الإنسان في مثل هذه الحالات أكثر من سلطنته المطلقة الثابتة لكل بالغ رشيد حرصاً على مصلحته ومصلحة غيره بنحو يصبح تحت الرقابة فيما يعود لتصرفاته المالية لا غير، وتبقى له أهليته المطلقة فيما يعود إلى حقوق الله سبحانه وحقوق غيره من أفراد المجتمع.
والمديون الذي لا تزيد أمواله على ديونه قد وضعه الشارع تحت الرقابة وألغى سلطنته المطلقة عليها لمصلحة أصحاب الأموال التي بذمته، ومن مجموع ذلك تبين أن الانسان إما أن يكون فاقداً لأهلية التصرف في أمواله بمعنى أنه لا يصلح لمباشرة أي عمل من الأعمال شرعاً وقانوناً كالصغر والجنون ونحوهما وإما أن يكون صالحاً بذاته ولكن الشارع لسبب من الأسباب قد جرده من صلاحياته المطلقة لمصلحة تعود عليه وعلى غيره كالمفلس والسفيه والمريض ونحو ذلك، وإما أن يكون كامل الأهلية ولم تصطدم أهليته بما يوجب تحديد تصرفاته وهو البالغ الرشيد الذي له أن يتصرف بجميع أنحاء التصرفات في أمواله وجميع شؤونه.
ومهما كان الحال فالمفلس بعد هذا التمهيد هو الذي لا يحق له أن يتصرف بالبيع والشراء والإجارة والهبة بسبب تراكم الديون عليه ولكن بعد التحجير عليه من قبل الحاكم وليس للحاكم أن يحول بينه وبين التصرف في أمواله إلا بعد أن تثبت الديون عليه وأن لا تفي أمواله بقضائها وأن تكون مستحقة عليه، فلو كانت الديون بمقدار أمواله ولكنها كانت مؤجلة عليه إلى أمد معين ليس للحاكم أن يحجر عليه ولابد مع ذلك من رفع الأمر إلى الحاكم ليمنعه من التصرف فإذا اجتمعت هذه الشروط الأربعة وأصدر الحاكم قراراً يمنعه من التصرف في أمواله تتوقف جميع معاملاته المالية على إذن الغرماء واجازتهم لأن قرار الحاكم بالتحجير عليه كان لمصلحتهم وحرصاً على حقوقهم.
ولو افترضنا انه بعد التحجير عليه اشترى بمال في ذمته أو اقترض من شخص مالاً صح شراؤه واقتراضه ولكن البائع والمقرض لا يشتركان مع الغرماء في أمواله لأن قرار الحجر عليه كان بناء لطلب الغرماء وحرصاً على أموالهم، أما لو أتلف مال غيره بعد التحجير عليه أو أقر بدين سابق على التحجير أو بأن أحد الأعيان التي بيده لشخص آخر وصدّقه المقر له، فقد ذهب جماعة من فقهاء الشيعة إلى مشاركة المقرّ له وصاحب المال التالف للغرماء في الأموال التي بيده، وذهب آخرون منهم العلامة في التذكرة والشيخ النجفي في جواهره وغيرهما إلى عدم اشتراك المقر له وصاحب المال التالف مع الغرماء في تلك الأموال لأن حق الغرماء قد تعلق بها بمجرد صدور القرار بالتحجير عليه والإقرار المتأخر على التحجير لا يزاحم حقهم فيها كما لا يزاحمهم صاحب المال التالف لأن أموال المتلف محجوزة لغرماء قبل أن تشتغل ذمته بما أتلفه لغيره.
وذهب الأحناف إلى أنه ليس من حق أحد أن يتسلط على أحد ويحجر عليه مهما بلغت ديونه لأن التحجير على الإنسان يتنافى مع حريته التي هي أقوى من كل ما يعرض عليه ولم يخالف في ذلك أحد من الأحناف سوى محمد بن الحسن وأبي يوسف فأقرا مبدأ التحجير عليه، كما أقره المالكية أيضاً وقالوا إن للغرماء الحق بمنعه من التصرف في أمواله إذا كان عليه من الديون بمقدار أمواله أو أكثر ولو لم يحكم عليه الحاكم بذلك.
أما الحنابلة فهم بين مَن ذهب إلى أن الإفلاس وحده يكفي لمنعه من التصرف في أمواله، وبين مَن ذهب إلى أنه ليس عليه أن يمتنع عنها إلا بعد التحجير عليه من قبل الحاكم.
وجاء في بداية المجتهد لابن رشد أن الدَّين إذا استغرق أمواله وظهر ذلك للحاكم فإن كان ملياً فقد رجح الجمهور إن الحاكم يتولى بيع أمواله لمصلحة غريمه، وإن لم يكن ملياً حكم عليه بالإفلاس وحجر عليه أن يتصرف بشيء مما يملكه من الأموال ونسب ذلك لمالك والشافعي، كما نسب لأبي حنيفة وغيره من فقهاء العراق إن الحاكم ليس له ذلك ولا أن يتصرف في أمواله بأي نوع من أنواع التصرفات حتى التي يعود منها لمصلحة الغرماء، وله أن يضيق عليه بالحبس ونحوه حتى يدفع الحق لأصحابه.
* المصدر : الولاية والشفعة والاجارة


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة القانون