يدّعي الفقهاء ان هذه الولاية ثابتة بالكتاب والسنة، واستدلوا على
ثبوتها بالكتاب بالآيات التالية التي تثبت مبدأ القصاص كقوله
تعالى: (ولكم في القصاص حياة)، وقوله تعالى في الآية: (مَن اعتدى
عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، وقوله: (وإن عاقبتم
فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)، (وجزاء سيئة مثلها) إلى غير ذلك من
الآيات الكثيرة التي تقر مبدأ القصاص والعقوبات بالمثل، وقد استدل
بعض الفقهاء في جملة ما استدلوا به على جواز استيفاء الحق ممن هو
عليه إذا تمكن الغريم من استيفائه بعد أن تعسر عليه تحصيله منه
بالوسائل المتعارفة بالآيات المذكورة.
ويمكن القول وهو ليس ببعيد عن ظواهر تلك الآيات انها واردة بالنسبة
إلى العقوبات الجزائية كالقتل وبقية الجرائم مما يعد الرد عليه
بالمثل عقوبة واعتداء واقتصاصاً كما هو منطوق الآيات (وإن عاقبتم
فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)، (ومَن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه)،
(وجزاء سيئة سيئة مثلها)، (ولكم في القصاص حياة)، أما استيفاء ما
للإنسان على الآخر من ديون ونحوها فلا يعد اعتداء ولا عقوبة وكما
وان القصاص في الآية، هو رد على القتل العمدي الذي جعل الشارع
جزاءه القتل، فالآيات لا تشمل بموردها وظاهرها استيفاء الحقوق
المادية ممن هي عليه ولو بالقوة، ولذا فإن أكثر الفقهاء مع قولهم
بأن لصاحب الحق المادي أن يستوفي حقه ممن هو عليه بكل الوسائل
الممكنة وبدون الرجوع إلى الحاكم مع التزامهم بذلك قد نصوا على أن
العقوبات الجزائية كالقتل ونحوه يجب الرجوع فيها إلى الحاكم، وجاء
في الخلاف للطوسي ان هذا النوع من العقوبات يعود إلى الإمام ( ع)
ومَن يأمره بتنفيذه، وادعى صاحب الغنية إجماع الفقهاء على ذلك، كما
أكد صاحب الرياض ان عليه عامة المتأخرين.
وأما الحقوق المادية كما لو استدان منه أو استعار واغتصب ونحو ذلك
فقد قال بحر العلوم في بُلغته: فإن كان الحق بعينه موجوداً له أن
يسترده بنفسه وبدون إذن الحاكم، حتى ولو تمكن من الاتصال به وإثبات
الحق عنده ما لم يؤد استرداده إلى فتنة تكون أخطارها أسوأ من بقاء
الحق وضياعه، ولو خيف من ذلك فعليه أن يرفع أمره إلى الحاكم حسما
لمادة الفساد، وإن لم يتمكن من استرداد العين أو كانت تالفة، وكان
مَن عليه الحق جاحداً أو مماطلاً وأمكنه ان يقتص بنفسه من ماله جاز
له ذلك وإن كان من غير جنسه كما تنص على ذلك بعض المرويات التي
وصفها الفقهاء بالصحة كصحيحتي داود بن رزين، وجاء في إحداهما قل
لأبي الحسن موسى (ع): إني أخالط السلطان فتكون عندي الجارية
فيأخذونها أو الدابة الفارهة يبعثون مَن يأخذها ثم يقع لهم عندي
المال، فلي أن آخذه؟ فقال (ع): خذ مثل مالك ولا تزد، وجاء في
صحيحته الثانية، قلت لأبي الحسن (ع): إني أعامل قوماً فربما أرسلوا
إلي فأخذوا الدابة أو الجارية وذهبوا بها، ثم يقع لهم عندي المال،
فآخذ بقدر ما أخذوا مني، فقال (ع): خذ منهم بقدر ما أخذوا منك ولا
تزد عليه وإن لم يكن بإذن منهم. وفي خصوص ما لو كان الحق ديناً
فالظاهر ان له أن يقتص منه بنفسه مما يقع في يده من ماله إذا كان
ممتنعاً أو جاحداً له بدون إذن الحاكم سواء تمكن من اثبات حقه عنده
أو لم يتمكن بمقتضى اطلاق النصوص المتقدمة الشاملة لمثل ذلك،
بالاضافة إلى صحيحة جميل بن دراج الواردة في خصوص الدين، وجاء فيها
انه قال: سألت أبا عبدالله الصادق (ع) عن رجل يكون له على الرجل
الدين فيجحده، ثم يظفر من ماله بقدر ما جحده أيأخذه وإن لم يعلم
الجاحد بذلك؟ قال: نعم.
كما جاء في رواية موصوفة بالصحة لابن بكير انه قال: قلت له رجل لي
عليه دراهم فجحدني وحلف عليها أيجوز لي أن وقع له عندي دراهم إن
آخذ منه بقدر حقي؟ فقال: نعم، وهي باطلاقها شاملة لكل ما يقع في
يده حتى ولو كان من نوع الوديعة أو الأمانة هذا بالاضافة إلى
روايتي عبدالملك البقباق وعلي بن سليمان، وقد ورد السؤال فيهما عمن
له عند شخص مال وله عنده وديعة فرخص الإمام (ع) بجواز الاقتصاص
منها إذا كان جاهداً أو مماطلاً كما رواهما بنصهما الحرفي الصريح
في ذلك السيد الحكيم في نهج الفقاهة وصاحب البلغة في ولاية المقاصة
وغيرهما من الفقهاء.
ولكن الطوسي في نهايته وجماعة من الفقهاء ذهبوا إلى عدم جواز
التقاص من الوديعة والأمانة والاقتصار على ما يقع بيده من غير هذين
الطريقين عملا ببعض النصوص الدالة بعمومها على وجوب رد الأمانة
والوديعة مهما كان شأن المودع، وجاء في رواية عبدالله بن اسماعيل
عن الإمام الصادق (ع): أدّ الأمانة لمن ائتمنك وأراد منك النصيحة
ولو انه قاتل الحسين (ع)، كما روى عنه عمار الساباطي انه قال: اعلم
ان ضارب علي بالسيف وقاتله لو ائتمنني على سيفه وقبلت ذلك منه
لأديت إليه الأمانة.
وفي رواية لابن أخي الفضيل بن يسار جاء فيها انه قال: كنت عند أبي
عبدالله الصادق (ع) فدخلت امرأة وكنت أقرب القوم إليها فقالت سله:
إن ابني مات وترك مالاً في يد أخي فأتلفه، ثم أفاد مالاً فأودعنيه،
فلي إن آخذ منه بقدر ما أتلف من مال ابني؟ فأخبرته بذلك، فقال (ع):
قال رسول الله: أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن مَن خانك.
والقول بجواز الاستيفاء مما يقع تحت اليد ولو كان وديعة أو أمانة
إذا كان مَن عليه الحق جاحداً أو مماطلاً تبناه أكثر الفقهاء
بشهادتي صاحب المسالك والرياض وغيرهما عملاً بالنصوص السابقة
الشاملة باطلاقها لكل من الوديعة والأمانة بالاضافة إلى روايتين
إحداهما صحيحة والأخرى مكانية وهما تنصان على أن مَن عليه الحق لو
استودع مَن له الحق مالاً وكان جاحداً له أو مماطلاً كان له أن
يقتص من الوديعة بمقدار حقه، ونظراً لذلك فقد حملوا الأخبار
الناهية على كراهة الاستيفاء من الوديعة والأمانة.
والذي أراه أنه لا منافاة ولا معارضة بين الروايات التي اعتمدها
المشهور والتي تدل باطلاق بعضها ونصوصية البعض الآخر كما في صحيحة
البقباق ومكانية علي بن سليمان على جواز الاقتصاص من كل ما يقع تحت
اليد حتى ولو كان أمانة أو وديعة وهو الذي يؤيده العقل والمنطق بعد
اتفاق جميع الأطراف على مبدأ المقاصة حرصاً على حقوق الناس وعدم
الإضرار بهم، وما دامت الغاية من التشريع لا تعدو هذه الناحية وهي
وصول الانسان لحقه، فإذا تعذر عليه أن يصل إليه إلا عن طريق
الاستيفاء من الوديعة أو الأمانة، أترى إن الشارع يأمره بأن يهدر
حقه ويلزمه بتحمل الضرر في مثل ذلك، ولا أظن أحداً يسمح لنفسه
بالالتزام بذلك، لا منافاة بين تلك الروايات التي اعتمدوها لجواز
الاقتصاص من الوديعة والأمانة ومن كل ما يقع في اليد، وبين
الروايات التي اعتمدها الفريق الآخر، ذلك لأن الروايات التي
اعتمدها الفريق الآخر واردة في مقام الحث والتأكيد على رد الأمانة
والوديعة من حيث هي أمانة ووديعة، وليست ناظرة لشيء آخر وراء ذلك
كما يبدو ذلك بما لا يقبل الريب من روايتي عبدالله بن اسماعيل
وعمار الساباطي والاحتمال بعينه قائم في الرواية الثالثة في حين
أنها لا تصلح لمعارضة تلك الروايات الصريحة في المطلوب لعدم
صراحتها فيما يدعونه.
* المصدر : الولاية والشفعة والاجارة