موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة القانون

مبدأ فصل السلطات عند الطهطاوي
سمير أبو حمدان



إن أحد المبادىء الأساسية التي تدخل في صلب الفكر السياسي لرفاعة الطهطاوي هو مبدأ فصل السلطات.وكتابه "مناهج الألباب" يتضمن شرحاً وافياً لهذه المسألة.ورفاعة الذي تعرف الى كتابه مونتسكيو "روح الشرائع",وقرأه أكثر من مرة استوحى الكثير من مضمونه وخاصة ما يتعلق منه بجعل السلطات الثلاث,التنفيذية والقضائية والتشريعية,منفصلة,وبحيث لايكون ثمة تشابك بين الواحدة والأخرى.ولنكن أكثر دقة فنقول أن رفاعة,إضافة الى أنه استلهم الكثير من "روح الشرائع",كان على صلة حميمة بالأفكار الأوروبية السائدة في القرن التاسع عشر.وإذا لم يكن,لا في مصر ولا في العالم العربي والاسلامي,مفكر واحد قد طرح هذه المسألة على بساط البحث,واظب رفاعة على شرحها وتفسيرها مطالباً,في الوقت عينه,بأن تكون أساساً لنظام الحكم في مصر.وثمة من يعتبر أن "الجمعية التشريعية" التي نشأت في مصر عام 1913 – وهي أول جمعية لها مضمون برلماني حقيقي – كانت تجسيداً لأفكار الطهطاوي.
إن المسألة الأولى التي ركز عليها رفاعة الطهطاوي وهو يتكلم على مبدأ فصل السلطات تتعلق بصلاحيات رئيس الدولة.فرئيس الدولة,عنده,ليس رمزاً للسيادة وحسب وإنما يتمتع باختصاصات كبيرة.وانطلاقاً من هذا الفهم لمسؤولية رئيس الدولة يترجم لنا رفاعة المادة الرابعة عشر من الدستور الفرنسي,وهي التي توضح المكانة السامية لرئيس الدولة.تقول هذه المادة:"الملك (أو رئيس الدولة) هو أعظم أهل الدولة,فهو الذي يأمر وينهى في عساكر البر والبحر وهو الذي يعقد الحروب والصلح والمعاهدة والتجارة بين أمته وغيرها,وهو الذي يولي المناصب الأصلية,ويحدد بعض قوانين وسياسات الدولة ويامر بما يلزم ويمضيه إذا كان فيه منفعة للدولة".وقد شرح رفاعة هذه المكانة التي يتبوأها رئيس الدولة في الأنظمة الدستورية,فقال :"وهو رئيس المملكة وأمير الجيوش البرية والبحرية وقائدهم الأعلى وعليه مدار الأمور الملكية والعسكرية الداخلية والخارجية.وهو الذي يقلد المناصب العمومية لمن يستحق بإصدار اوامره فيها,ويرتب الوظائف وينظم اللوائح المبينة لطرق إجراء الأصول والقوانين ويأمر بتنفيذ الأحكام الصادرة من ديوانه ومحاكمه ومجالسه...وإذا امر المجالس بتنظيم لوائح فانها لايجري مفعولها ولايعتد بها إلا إذا صدق على نفس اللوائح وعلى ترتيب الجزاء على من خالفه".
وانطلاقاً من نص الطهطاوي يتضح لنا ان رئيس الدولة يتمتع بصلاحيات واسعة.فهو,إذ يقف على رأس الهرم في الدولة,يصدق في الوقت نفسه على التشريعات والقوانين ويجعلها نافذة.وفي تحديده لصلاحيات رئيس الدولة ينطلق رفاعة من الدستور الفرنسي الذي يجعل رئيس الدولة في منأى عن أي مسؤولية مباشرة,"فذات الملك محترمة" كما يقول الطهطاوي,وعلى هذا فان المسؤولية التنفيذية تقع على الوزراء الذين هم "كفلاء",أي أنهم مكلفون بتسيير امور الدولة على أكمل وجه.فهؤلاء وحدهم يعاقبون أو يثابون وفقاً لما هم عليه من ممارسة صحيحة أو خاطئة للسلطة: أما الملك / الرئيس فحسابه "على ربه,فليس عليه في فعله مسؤولية لأحد من رعاياه".وحده فقط الرأي العام (أو الرأي العمومي,حسب تعبير الطهطاوي) له صلاحية أن يراقب (لا أن يحاسب!) رئيس الدولة,"فالرأي العمومي سلطان قاهر على قلوب الملوك والأكابر لايتساهل في حكمه ولايهزل في قضائه,فويل لمن نفرت منه القلوب واشتهر بين العموم بما يفضحه من العيوب".(وهنا نجد اختلافاً واضحاً بين موقف رفاعة,المرتبط بهذه المسألة تحديداً,في كتابه "تلخيص الابريز" (وكان في الثالثة والثلاثين من عمره عندما نشر هذا الكتاب لأول مرة) حيث يؤيد الثورة على رئيس الدولة في حال أخل ببنود الدستور ولم يراع مصالح الأمة,وبين موقفه في "مناهج الألباب" (وقد أصبح في السبعين من عمره) حيث أن رئيس الدولة (حسابه على ربه)!.
لكن هذا كله يجب ألا يذهب بنا الى اعتبار رئيس الدولة,وفق مايراه الطهطاوي,شخصاً مطلق الصلاحية.فهو المؤتمن الأول على الدستور,وعليه ان يراعي مبادئه بل وأن يعمل وفق ماتنص عليه.وعلى أساس من هذا فان صلاحية رئيس الدولة مطلقة وإنما مقيدة بالقوانين المنصوص عليها في الدستور.وفي هذا الاطار يركز رفاعة على وظيفة الدولة.فهي,أي الدولة,وجدت لتحافظ على حقوق المواطنين وحرياتهم.ورئيس الدولة عليه أن يعمل بمقتضى هذا المبدأ.فالمطلوب من رئيس الدولة المحافظة على الدستور وتحقيق الطموحات والغايات التي ينهد إليها المواطنون.فهؤلاء لم يرتضوا الانخراط في إطار الدولة إلا بعد أن التزم رئيسها,أمام الله أولاً وأمام الدستور ثانياً,بتحقيق مطامحهم والدفاع عن حرياتهم وحقوقهم.وعلى هذا فان الطهطاوي ركز في أغلب كتاباته التي تنخرط في إطار فكره السياسي على مايمكن أن نسميه (ضرورة الدولة),وضرورة وجود رئيس "يحسن سياستها".فبدون ذلك,أي بدون وجود الدولة وبغير وجود شخص جدير بالثقة على رأسها,لايستطيع الأمة أن تحفظ "مالها ولاعرضها" ولا أن تتمتع "بحقوقها المدنية ومزاياها البلدية (= الوطنية)".وفي هذا يقول رفاعة :"لا جائز أن تستغني الأمة عن رئيس يحسن سياستها وتدبير مصالحها.فبدونه لا تأمن على التمتع بحقوقها المدنية ومزاياها البلدية,ولاتحفظ نفسها ولا مالها ولاعرضها.فالرئيس المعنون له بأي عنوان كان من ألقاب رياسة الدولة (يعني سواء أكان ملكاً أو رئيساً) هو المحافظ على إجراء الأحكام والقوانين,وعلى حفظ الشريعة والدين".
إن مفهوم الدولة الحديثة,وهو المفهوم الذي روج له رفاعة الطهطاوي في البقعة العربية – الاسلامية عامة وفي مصر بوجه خاص يقوم على سيادة القانون.فالقانون هو الذي يقيد بل يحدد الحقوق والواجبات لكل من أفراد الأمة,بمن فيهم الملك / الرئيس نفسه.الأنظمة الدستورية,مثلما لاحظ رفاعة,تمجد سيادة القانون.وعلى هذا فهي تمحض السلطة القضائية مكانة مرموقة في الدستور.فالأحكام التي تصدرها السلطة القضائية حتى الملك / الرئيس لايستطيع التدخل فيها إلا بشروط محددة,والأحرى بشروط قانونية.ولعل هذه الشروط القانونية,إذا ساغ التعبير,تتعلق تحديداً بحق الملك/الرئيس في العفو إزاء بعض الأحكام الصادرة عن السلطة القضائية.
إن هذا الحق في العفو المعطى لرئيس يحدده القانون.فرئيس الدولة ليست له يد طليقة في هذا المجال,ويشمل عفوه,وحسب,الجرائم التي تنطوي على خلفية سياسية,وايضاً الأشخاص الصادرة بحقهم أحكام مختلفة بسبب من نشاطهم السياسي.أما ما تبقى من أحكام فليس لرئيس الدولة الحق في التدخل بها أو العفو عنها.ففي الممالك المدققة في الأحكام العدلية – يقول الطهطاوي – "لايصفح الملك عن الجاني في الغالب إلا في ذنب الخوض في الناموس الملكي أو في الصغائر الخاصة بالسياسة الملوكية.ولايتجاوز الملك عن المعتدي في شيء بالنسبة لحقوق العباد المبنية على المشاحة فلا يمنع حدود الله ولا يصفح عن القاتل".وانطلاقاً من ذلك فإن القانون أصبح الشيء الذي "ينظم أمور الدولة ويحدد بطبيعة الأمر حقوق رئيس الدولة وواجباته وعلاقاته بالسلطات العامة في الدولة".
وننتقل مع رفاعة رافع الطهطاوي الى الحديث عن السلطة التشريعية وهي المسألة التي أولاها اهتماماً بالغاً.لقد روج الطهطاوي للفكرة البرلمانية في وقت لم تكن الساحة العربية – الاسلامية قد شهدت اي نشاط برلماني على اساس الانتخاب.ولا نعدو الحقيقة إذا اعتبرنا أن كل الهيئات والدواوين والمجالس العثمانية لو يكن لها اي مضمون شعبي,أي أنها لم تكن تحظى بالتمثيل الشعبي الذي يعتبر شرطاً رئيساً في الحياة البرلمانية.ليس هذا وحسب بل إن الهيئات والدواوين والمجالس التي أنشئت في مصر إيان القرنين الثامن والتاسع عشر كانت خاضعة لسلطة الوالي التركي يشكلها ساعة يشاء ويطلب انعقادها أو حلها ساعة يشاء.
ومن هنا فان الفضل يعود للطهطاوي في غرس فكرة الحياة البرلمانية,الممثلة بالسلطة التشريعية,في تربة البلاد العربية والاسلامية.وقد أنبت هذا الغرس النبت الطيب بعد سنوات من وفاة الطهطاوي,وذلك عندما قامت في مصر اول جمعية تشريعية على أساس انتخابي.والجدير ذكره هنا أن الطهطاوي مهد لفكرته هذه بترجمته لبنود الدستور الفرنسي وشرحها بحيث اصبحت في متناول الجميع من ساسة ورجال فكر واناس عاديين.وكان رفاعة يرمي من وراء التفسيرات والشروح المسهبة لبنود الدستور الفرنسي الى خلق وعي برلماني في مصر التي لم تكن قد عرفت حتى ذلك الوقت سوى المجالس الادارية المعينة من قبل العثمانيين.
وفي شرحه لبنود الدستور الفرنسي تحدث رفاعة عن جوانب مختلفة في الممارسة البرلمانية الديمقراطية,ومنها الجانب المتعلق بفكرة "العملات" أي الدوائر الانتخابية وعددها,وعن شروط الترشيح والتصويت ومدة العضوية فيما يسمى حسب تعبيره,"مجلس رسل العمالات".والى ذلك تحدث عن الحصانة البرلمانية التي يتمتع بها عضو المجلس فور الاعلان عن فوزه,وعن الجلسات العلنية والسرية,واللجان البرلمانية,وسن القوانين المتعلقة بالضرائب,والقانون الذي يجيز حل المجلس (البرلمان),والدعوة الى انتخابات جديدة,كما تحدث عن العلاقة التي يجب أن تنشأ,وبناء على الدستور,بين أعضاء الحكومة (الوزراء) وبين المجلس,وصلاحية هذا الأخير في مراقبة الوزراء ومحاسبتهم في حالات التقصير.وهذه الأشياء كلها لم تكن قد طرقت,بعد,مسامع الانسان المصري أو العربي.


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة القانون