1ـ المسألة الاولى: هل هناك نظام دولي؟ ما خصائصه؟
واضح انّه ولئن كانت سيطرة الإنسان على اخيه الإنسان والتحكم في
موارده ومصائره كانت تتخذ لها دائماً مسوغات فكرية وقيمية بحكم ان
الإنسان كائن مفكر فان القوى الغربية التي تداولت السيطرة على
العالم في هذا العصر قد اجتهدت في اكساء ما تمارسه من سيطرة
واستغلال على الشعوب الاخرى اثواباً كثيقة من المبادىء والقوانين
والمؤسسات.. يسمونها احياناً القانون أو المجتمع الدولي.. أو
الشرعية الدولية ومبادىء حقوق الإنسان وتعد منظمة الامم المتحدة
التي خلفت عصبة الامم بعد الحربين رمز النظام الدولي وآلة عمله..
وورقة التوت التي تستر ارادة السيطرة والقوة التي تتحكم في
عالمنا.. ولقد كان هذا الميزان مختلاً منذ نشأته اذ لم يكن في
الحقيقة سوى صور تجسد موازين القوة التي أثمرتها الحرب العالمية
الثانية..
وصاغت الحكومة العالمية وقوانينها على صورتها. فكان هناك برلمان
اممي تتساوى في العضوية والمكانة فيه كل الدول «الجمعية
العمومية».. ولم يكن في الغالب سوى منبر دولي للخطابة كانت قراراته
غير ملزمة في النهاية وليس لها سوى قيمة معنوية.. اما السلطة ذات
القرارات الملزمة فتتمثل في مجلس الامن ذي الاعضاء الخمسة عشر..
غير ان منهم خمسة اعضاء متنفذين دائمين يملكون امتيازاً من دون
الجميع هو حق الاعتراض على كل قرار لا يعجبهم لسبب أو آخر هم ممثلو
الدول المنتصرة في الحرب الاخيرة واضيفت لهم الصين في وقت لاحق.
ولقد شل هذا الوضع ـ لا سيما في ظل الحرب الباردة التي استمرت منذ
نشأة المؤسسة الاممية في اعقاب الحرب العالمية حتى سقوط الاتحاد
السوفياتي ـ هذه الحكومة العالمية عن التدخل في الكثير من الخصومات
المندلعة في العالم.. ووقع تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ بين الدول
الكبرى.. فكان لكل منها مجالها الحيوي.. ومع ذلك امكن للدول الصغرى
ان تجد في ظل اوضاع الحرب الباردة متنفساً مستفيدة من التناقضات
القائمة.. فنشطت حركات التحرر وظفرت بالدعم من هذا الطرف أو ذاك
مكايدة للطرف الآخر.. ومع ذلك كانت انعكاسات هذه المرحلة ـ التي
انتهت بسقوط الاتحاد السوفياتي وشبه انفراد الاميركان وحلفائهم
بالسيطرة العالمية ـ كارثية على العالم الاسلامي.. فلقد كان من
ثمار هذه المرحلة اعطاء الشرعية لاغتصاب فلسطين من طرف اليهود
بمباركة من تلك الحكومة العالمية.. ولئن استفادت حركة التحرير
الفلسطينية من تناقضات الحرب الباردة فوجدت الدعم في الاتحاد
السوفياتي وحلفائه إلاّ ان افول تلك المرحلة اوهن الكيان الفلسطيني
الرسمي ودفعه إلى البحث لاهثاً عن الظفر بشيء مهما كان تافهاً.
وكانت التسوية. ومن ثمار تلك المرحلة ان تمزق العالم العربي
الاسلامي بين الولاءات لهذا الطرف أو لذلك بين رجعي موال للغرب
وتقدمي موال للسوفيات. وتحت لاتة دعم حركات التحرر امكن لمد الفكر
الشيوعي الملحد ان يتغلغل في النخبة المثقفة. وبدافع الخوف من
الشيوعية ارتمت كثير من الانظمة والنخب في احضان الطرف المقابل
والحصيلة: مزيد من التمزق والدمار والتبعية للمركز الغربي في وجهه
الرأسمالي أو الاشتراكي.. وتغول الكيان الصيهوني وبرزت نزوعات
التشقق والطائفية والتشدد والتذيل للغرب. ومع سقوط الاتحاد
السوفياتي مالت الكفة بالكامل لصالح الاميركان وحلفائهم ومنهم
الكيان الصهيوني المتغلغل. في احشاء الفكر ومواقع القرار الغربي..
مقابل تفاقم الاحساس لدى العرب وحركات التحرر باليتم وفقدان النصير
الاحساس الذي ساق اصحابه إلى استشعار الخطر والسعي الوجل اللاهث
وراء تسوية اوضاعه والبحث له عن مكان في هذا العالم.. ولان اليهود
قد بدوا في اعقاب الحرب الباردة اقرب الجهات إلى قلب السيد المتغلب
«اميركا» وأشدهم نفوذاً لديه وفي العالم.. فقد بدأ التسابق على
الصلح معهم والتقرب اليهم والسعي حتى للتحالف معهم والدخول إلى
العالم من بابهم ومقابل هذا الانهيار في الجانب العربي الذي جسدته
حرب الخليج أو العدوان الدولي على الخليج والذي لم ينج من وباله
احد من اطراف النزاع العربي.
اذ انهكت هذه الحرب اللعينة الجميع وفتحت على مصراعيها ابواب
السيطرة الاميركية اليهودية على المنطقة وكأنها ثمرة يانعة القت
بها رجة الخليج في افواه الطامعين.. مقابل هذا الانهيار للكيان
العربي بنظامه الاقليمي الذي افرزته اتفاقات سايس بيكو وبنظامه
الجامع المتمثل في الجامعة العربية، مقابل هذا الانهيار العربي
كياناً وافكاراً وثروات.. برز الإسلام كما هي عادته يرفع الآذان
بالرفض والصمود والمقاومة والجهاد حاقناً النفوس بالايمان ويعيد
ترتيب الصفوف ويتسلم راية المقاومة من التيارات والايادي التي وهنت
أو خارت أو حتى خانت.. وكانت من الطبيعي ان تتجه إلى مجتمعه سهام
الاعداء.. وتتحالف ضده جملة القوى الخائرة في النظام العربي مع قوى
الهيمنة الصهيونية الاميركية الغربية.
وان كلامنا هنا ليس سوى مشهد من مشاهد الرفض والمقاومة لذلك
التحالف الآثم ويمكن اجمال المشهد الحالي فيما يلي:
1ـ نعم هناك نظام ينعت نفسه انّه دولي.. ولا تعني دوليته انّه
لصالح كل الدول والامم وانما تعني فقط ان مخططه للسيطرة يشمل
الجميع.. افكاراً وعقائد وثروات وانظمة.
2ـ ان مبادىء سيادة الدول وحق الشعوب في تقرير مصيرها وعدم التدخل
في شؤونها الداخلية بعد ان كانت مبادىء مرعية على الصعيد النظري
على الاقل في النظام الدولي السابق قد غدت في النظام الجديد غير
ذات اعتبار لاسيما بالنسبة للدول الضعيفة فأصبح التدخل في شؤونها
الداخلية مشروعاً بمختلف الذرائع، مثل حماية الاقليات وحقوق
الإنسان.. ولكن ليس دائماً وفي كل الاحيان وانما فقط عندما يتعلق
الامر بأنظمة غير مرضي عنها أو غير صديقة.. اما الاصدقاء فعين
النظام الدولي عنهم كليلة .
3ـ ان احتلال العراق للكويت قدم لهذا النظام الدولي في الوقت
المناسب الذي كان يبحث فيه عن اي ذريعة لوضع يده على المنطقة
وثرواتها وتجريدها من اسباب القوة والنهضة وتبرير وجود جيوشه
الكثيقة في المنطقة لردع كل تمرد وحماية الكيان الصهيوني.. قدم ذلك
الغزو المشؤوم تلك الذريعة ولاشك انّه كان يمكن ان يجد غيرها. ولقد
كانت تلك ألحرب المشؤومة تجسيداص لميزان قوّة جديد في المنطقة
لصالح النفوذ الغربي وحلفائه في المنطقة وعلى رأسهم اسرائيل
وعملائها في نظام الاقليات الحاكمة في العالم العربي والنخب
المنبتة في صراعها مع الشعوب الطامحة إلى الوحدة والتحرر والعدل
والعزة والكرامة. ولقد كان الكيان الصهيوني اهم المستفيدين مع
الاميركان وحلفائهم الغربيين من نكبة حرب الخليج الاولى والثانية.
4ـ ان ما يسمى بالتسوية بين العرب واليهود ليست إلاّ تعبير عن
ميزان القوة الجديد الذي اثمره سقوط الاتحاد السوفياتي من جهة
ونتائج حرب الخليج من جهة اخرى، وهو ميزان مال بشكل سافر إلى جهة
الغرب واميركا بالذات.. وبسبب التحالف الصميم بين المصالح الغربية
واليهودية منذ قرن على الاقل ضد العرب والمسلمين فان التسوية التي
يراد فرضها على المنطقة هي جزء من السيطرة الدولية على المنطقة
يتولى فيها اليهود في الظاهر دور الحارس على المصالح الاميركية
والغربية في المنطقة استمراراً لدورهم السابق ولكن هذه المرة ليس
ضد الخطر الشيوعي وانما ضد الخطر الاسلامي المزعوم ذلك ظاهر الامر،
اما حقيقة الامر فاليهود يطمحون ـ وطموحهم جنوني بلا حدود ـ إلى
تجاوز دور الحارس للمصالح الغربية في المنطقة وحتى دور الشريك إلى
وراثة الغرب في المنطقة واتخاذها قاعدة لسيطرتهم الدولية وتزعمهم
لنظام دولي تتحول فيه السيطرة من الغرب المسيحي إلى الغرب الصهيوني
فتولد المرحلة اليهودية كما تحول النظام الدولي سابقاً من الإسلام
إلى الغرب.
5ـ ان الإسلام في هذه المرحلة الانتقالية من السيطرة الغربية
اليهودية المشتركة على العالم إلى السيطرة اليهودية المنفردة يبدو
العقبة الاساسية امام هذه المصالح والمطامع وذلك بسب ما يبديه من
مقاومة متزايدة لهذه الطموحات وبسبب ما يختزنه مما هو معروف عنه من
قوّة اصلاح وتقويم ومعافاة.. وتأليف وتوحيد وتعبئة واغراء بالمثل
العليا والجهاد والاستشهاد من اجل تحقيقها لاسيما في زمن استسلم
فيه للنفوذ الغربي اليهودي الجميع تقريباً.. وظهرت علامات الشيخوخة
بارزة والعجز والوهن على الايديولوجيات العلمانية الوطنية والقومية
والشيوعية وما قام عليها من انظمة واحزاب ونخب.. مقابل ذلك ظهر
الإسلام فتياً في تمام حيويته وقدراته الهائلة على التفاعل مع
الواقع في مختلف تعقداته، فهو في بلاد يكتفي بالعمل الاجتماعي
الخيري الدعوي بلا ضجيج وهو في بلاد اخرى يهتبل هامش الحريات
المتوفرة فينخرط في العمل السياسي الديمقراطي ويعلن عن نفسه في
منابر البرلمانات وهو في مواطن اخرى تضيق عليه السبل وتشتد وطأة
الظلم والجور على شعوبه فيأنس منها قدرة وهو في بلاد اخرى يواجه
ظلم الحكام ظلام السجون والمقت الكبير صابراً محتسباً صامداً
رافضاً للاستلام يضمد جراحاته ويتحفز لطور جديد من المقاومة.. وهو
في كل الاحوال على اتم ما يكون من الحيوية غير مفرط في جبهة من
جبهات الدعوة والمقاومة بحسب ما يناسبه من الاستراتيجيات داخل دار
الإسلام أو خارجها مقابل انكماش المذاهب والايديولوجيات.. كل ذلك
اغرى به الطامحين إلى السيطرة على العالم مثل اليهود أو ممارسيها
والساعين للمحافظة عليها.. فأحاطته السهام من كل مكان وكان اشدهم
وطأة ابناءه المرتدين أو المغرر بهم من النخب والحكام الذين
استجابوا بسهولة لاغراءات الصهاينة بالتحالف ضد الإسلام بل كانوا
اسرع استجابة لنداء الصهاينة للحرب ضد الإسلام وتأليبهم السافر ضده
كما فعلوا معه اول مرة في المدينة المنورة.
قلت كانت النخب المرتدة والحكام المغرر بهم اسرع استجابة للحرب ضد
الإسلام حتى من الغرب نفسه وهو الشريك الثالث في هذه الحرب رغم
انّه لا يزال متردداً غير مستيقن بما يروج من ان الإسلام هو فعلاً
يمثل خطراً على الحضارة وانّه عدو للغرب عدو للتقدم وحتى لو صح ذلك
أو بعضه فهل الحرب ضد الإسلام والحركة الإسلامية هي العلاج الوحيد
الذي لا مهرب منه وهل الحرب مجدية ضد امة عريقة عريضة متحفزة
للنهضة مثل امة الإسلام؟ وهل جربت معها السبل الاخرى كالحوار
والدعوة إلى التعايش وتبادل المصالح؟
6_ان الكيان الصهيوني المعبأ بطموحات السيطرة هو رأس القوى الثلاث
يتولى امر التحريض والاستعداء ضد الإسلام والحركات الإسلامية.. وفي
اطار الحرب ضد الإسلام تتنزل عملية التسوية كخطة دولية لاتمام
السيطرة اليهودية الغربية على المنطقة وتجريدها من كل اسلحتها
المادية والمعنوية، يقول شمعون بيرز ي كتابه الاخير الذي تتولى
الشرق الاوسط نشره حلقات قبل صدوره إلى الاسواق «ذات يوم قال لي
صديقي الكاتب اموس اوز وسألني «شمعون هل سبق لك ان فكرت بما سيحصل
لو ان منظمة التحرير انهارت كلياً؟ الحق اني شعرت ان منظمة التحرير
تنحسر فتساءلت هل ان انهيارها مفيد لاسرائيل؟ فلو ان العدو الكبير
الذي دأبنا على محاربته كل هذه السنين اختفى بغتة من سيحل محله؟ هل
تؤلف «حماس» بديلاً افضل؟ أينبغي ان نتفاوض مع هؤلاء المتشددين؟ ان
حماس تقف تحت جناح ايران وايران تقف إلى نقطة الجنون: ينبغي تدمير
اسرائيل وعملية السلام.. فكيف لنا ان نتوصل إلى اتفاق بالاعتراف
الثنائي وحماس تنكر علينا وجودنا وهكذا فان الظروف قد قادتنا إلى
الاستنتاج انّه من مصلحة اسرائيل ان تلعب منظمة التحرير دوراً في
هذه المرحلة» ـ الشرق الاوسط 22/11/93 ـ وقد بلغ من حرص الصهاينة
على هذه التسوية ان انطلقوا يجمعون الاموال ويحرضون الدول الغربية
وحتى دول النفط على تمويل الحكم الذاتي، اما رابين فانه لا يفتأ مع
كل المسؤولين الاسرائيليين يحذر من خطر تنامي المد الاصولي
المدعي.. ذكر رابين في خطاب له اخير في اميركا ان الخطر الاصولي
يمثل تهديداً للانظمة العربية المعتدلة التي يمكن لاسرائيل ان تعقد
معها السلام ـ الحياة 22/11/93 ـ وهكذا تتحول النظرة لصحوة الإسلام
في هذا النظام الدولي الجديد إلى خطر لا مناص من مواجهته وتتولى
اسرائيل مهمة نفخ نار الحرب ضده من خلال اخطبوطها الاعلامي
والسياسي المنبث في شرايين العالم.
7ـ انّه بحكم ان الإنسان كائن مفكر يتعلق بالقيم كان لا مناص لكل
عدوان على الإنسان فرداً أو جماعة من كساء خلقي فكري ـ كما اسلفنا
ـ وإذا كان نقل الحضارة إلى الشعوب المتوحشة ومن قبلها تحرير قبر
المسيح شعارات الحروب السابقة التي شنها الغرب على العالم والعالم
الاسلامي.. فان مصابيح الدبابات الغربية اليوم وطلاؤها هو شعارات
مبادىء حقوق الإنسان والديمقراطية وفرض احترام الشرعية الدولية..
وهي شعارات محببة إلى النفوس وتمتلىء سجون البلاد العربية
والإسلامية بالاحرار المناضلين من اجل تحقيقها، ولكن التجربة قد
كشفت بما لا بمزيد عليه من الوضوح خواء هذه الشعارات من المضمون
غالباً، وانما هي ذرائع يحلونها يوماً ويحرمونها يوماً مثلما كان
يفعل اهل الجاهلية مع الربا، فالانقلاب على الديمقراطية في الجزائر
مقبول بل يستحق الدعم بينما هو مرفوض في هايتي ويفرض من اجل خنق
الانقلابيين الحصار وتتحرك الاساطيل والسبب معروف.
8ـ ومن أركان النظام الدولي التجارة الحرة وفتح الاسواق في وجه
الشركات الدولية وازالة الحواجز من طريقها واقصاء اي حاجز من مصلحة
وطنية أو قيمة خلقية أو دينية من وجه اي سلعة. وفي هذا الاطار
تتنزل الضغوط الهائلة التي مورست على الانظمة العربية حتى ترفع
المقاطعة عن الشركات الاسرائيلية أو المتعاملة معها. والغريب في
الامر ان هذا المجال لا يخلو نفسه من المقاييس المزدوجة فالدول
الغربية هي ذاتها تمارس حماية صارمة ضد كثير من السلع في العالم
الثالث والخلافات في هذا الصدد بين البلاد العربية ذاتها مستفحلة
فلماذا يراد فقط للبلاد العربية ان ترفع ما تبقى من حواجز في وجه
عدو صهيوني يريد التهام ما تبقى من خيراتها والسيطرة عليها وافساد
وتدمير ما تبقى من عناصر الاستقلال والمقاومة والاخلاق.
9ـ ان التطبيع وليس مجرد التسوية والصلح مع اسرائيل قد غدا هدفاً
اساسياً للنظام الدولي في منطقتنا ومعناه الحقيقي رفع كل الحواجز
في وجه اليهود واتاحة الفرصة امامهم لاقتلاع كل ما اسس التاريخ
والدين من عناصر المقاومة في وجه قوى الافساد والتفسيخ. ان التطبيع
معناه دمج المنطقة في مشروع الهيمنة الاسرائيلية على المنطقة
كمرحلة ضرورية لهيمنة اسرائيلية على العالم بدأت ملامحها تلوح ونقل
الكيان الصهيوني من مجرد عملاق عسكري مسلح بترسانة نووية إلى عملاق
اقتصادي على طريق الامبراطورية اليهودية العالمية وذلك يعني تحويل
شعوب المنطقة إلى يد عاملة رخيصة لدى الرأسمالية اليهودية وتحويل
النخب والحكام إلى عملاء تحت لافتة الشراكة والمصلحة المشتركة
للتفرغ لاستئصال عناصر المقاومة ويمثل الإسلام وصحوته بؤرة تجمعها.
والملاحظ هنا ان الفرق بين ما سمي بالمتطرفين والمعتدلين في
اسرائيل هو فقط في منهاج تفسير نصوص التلمود والتوراة المحرف
المبشرة بالسيطرة اليهودية على المنطقة، فالمتشددون نصوصيون لا
يرون سبيلاً للسيطرة إلاّ بتفريغ المنطقة من سكانها عن طريق حملات
الابادة والمعتدلون عقلانيون يعتمدون التفسير المقاصدي بالسيطرة
على الموارد والافكار وتصفية المقاومة واحتواء ما تبقى وتسخيره
ادوات في تحقيق المشروع.
10ـ من مستلزمات النظام الدولي في تنصيب اسرائيل قوّة متحكمة في
المنطقة وحرمان العرب والمسلمين من كل عناصر القوة: سلبهم ثرواتهم
والدفع إلى استمرار ازمة الحكم والشرعية حتى يستحكم الصراع بين
الشعوب والحكام مما ينهك طاقات المنطقة ويسهل على الغرب التعامل مع
انظمة اقليات مبغوضة مكروهة من شعوبها.
وأهم من ذلك منع العرب والمسلمين من امتلاك السلاح المتطور مقابل
تشجيع اسرائيل على امتلاك وتخزين وتطوير احدث الاسلحة وافتكها وذلك
ما يفسر الضغوط التي تمارس على باكستان رغم انّه نظام حليف وايران
وما تعرض ويتعرض له العراق من تدمير شنيع وما يفرض على ليبيا من
حصار ولم يكتف النظام الدولي الاميركي الغربي اليهودي بذلك بل مارس
ولا يزال اشد الضغوط على الصين وكوريا وتشيكوسلوفاكيا لمنعها حتى
من تصدير السلاح التقليدي للبلاد العربية والإسلامية مقابل تمكين
الجيش الصهيوني من اسلحة لم يزود بها الحلف الاطلسي بعد. ومن
مستلزمات اضعاف العرب والمسلمين أيضاً اثارة كل اسباب التمزق
والفرقة داخل شعوبهم حتى يتجهوا عكس الاتجاه المطلوب. فبدلاً عما
يحضهم عليه الدين والعصر من تكتل يتجه العرب والمسلمون بتشجيع من
النظام الدولي إلى التمزق ويحال بينهم وبين كل اتجاه نحو التوحدحتى
يواجههم عدوهم في الحرب والسلم اشتاتاً ممزقة كما حدث في محادثات
التسوية.
عقبات في وجه المشروع الدولي للسيطرة على امتنا والعالم
1ـ سنن الله وهي قائمة على اصالة الحق والعدل في الكون وفي فطرة
الإنسان كما انها قائمة على التضاد والصراع المحقق للحركية والتطور
والمانع من الجمود والموت سنن الله هذه تأبى ان يستتب امر السيطرة
اليهودية الاميركية الغربية أو الاميركية فحسب أو اليهود فحسب على
العالم وامتنا، قال تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت
الارض).
2ـ السيطرة الاميركية الغربية التي تبدو انها قد انفردت بالسلطة في
الكون ومن تحت جناحها تسرب اليهود وانتعشوا ويتعملقون يوماً بعد
يوم في اتجاه دفع الكيان الغربي المسيحي إلى الانهيار والحلول
محله، لئن بدا هذا الكيان الغربي منفرداً بالزعامة بعد انهيار
السوفيات فان اسباب الانهيار والتفسخ في كيانه لا تخفى على عين
باصرة وان ما حصل في لوس انجليس وفي ضواحي لندن وباريس وبرلين من
انفجارات اجتماعية وعنصرية ليس إلاّ مؤشرات لما يعتمل في الكيان
الغربي من اسباب الخلل والضعف السائق إلى الانفجار والانهيار
والتفسخ. صحيح ان الكيان الغربي لا يزال متماسكاً بسبب ما يتوفر
عليه من احترام لعدد من سنن الله في المجتمعات مثل الحرية وسلطة
القانون والتنظيم الاداري العقلاني واعتماد مناهج البحث العلمي
إلاّ ان مفعولها لا يتعدى الحد من سرعة الانهيار مما لم يكن
متوفراً في بنية الغرب الشيوعي ولكن اتجاه الانهيار بسبب حجم
المظالم واشد من ذلك بسبب الفكرة الفلسفية الخاطئة التي قامت عليها
النهضة الغربية ونشرت سمومها في العالم ألا وهي الاعتقاد بامكان
تنظيم شؤون الافراد والجماعات باستقلال كامل عن الله ـ سبحانه
وتعالى ـ بل حتى بالتمرد على سلطانه وهو ما انهك ولا يزال حضارة
الغربي وليس البناء اليهودي الذي يطمح ان يرث الحضارة الغربية سوى
نسخة غربية مكثفة، وعبادة العجل الذهبي ليس إلاّ صورة مجسدة عن
المادية اليهودية في ابشع صورها.
3ـ ان التناقضات القائمة في النظام الدولي ليست من شأنها ان تدفعه
إلى الاستقرار والانسجام وانما من شأنها ان تدفع نحو تراكم المظالم
والتناقضات المؤدية حتماً إلى تنامي ضروب التمرد على هذا النظام
الدولي الظالم والانسلاخ عنه. هل من اليسير في غياب الخطر الشيوعي
ان يستمر الحلف الاطلسي؟ هل ستستمر الصين طويلاً صامتة تكتفي بموقف
التحفظ على السياسات الدولية؟ ما مصير العلاقة بين الكوريتين؟ هل
يمكن للعالم الاسلامي والعربي بالذات ان يقبل طويلاً ام ان ذلك
سيكون اقرب سبيل لتحريك اسباب المقاومة في الاُمّة والهاب فتيل
الثورة الإسلامية؟ ان القاعدة في كل ذلك والتي نستريح اليها انّه
لا استقرار مع الهيمنة والظلم والاستبداد وان الظمل مؤذن بخراب
العمران و(انّه لا يفلح الظالمون) (ولا تحسبن الله غافلاً عما يفعل
الظالمون).
المسألة الثانية: موقف الإسلام من النظام الدولي
اولاً: انّه ولئن كان الصهاينة محقين في اعتبار الإسلام وصحوته
الخطر الاعظم على مطامحهم التوسعية الهيمنية فان الصحيح أيضاً انّه
باعتبار ان مشروعهم الهيمني لا يمثل تهديداً فقط للاسلام وامته
وانما لاصحاب كل العقائد الدينية والوطنية والقومية في المنطقة
وللمصالح الغربية ذاتها ولكل حر كريم وللتراث الحضاري لكل الشعوب،
للدين والاسرة والاخلاق وللسلم العالمي فانه منتظر ان تتسع جبهة
المقاومة ضد المشروع الهيمني الذي هو اليوم اميركي غربي صهيوني وفي
طريقه إلى ان يتبدى على حقيقته مشروعاً صهيونياً هيمنياً مدمراً
للعالم والحضارة والدين وربما يكون امتياز الإسلام انّه سيشكل
البؤرة التي تتجمع حولها كل عناصر المقاومة الوطنية والقومية في
اليمين واليسار، في الشرق والغرب، مسلمين ومسيحيين وحتى يهود، لان
المشروع الصهيوني هو في جوهره مشروع علماني الحادي اباحي حاقد على
كل صاحب دين ومبدأ واخلاق مقابل المشروع الاسلامي الإنساني المفتوح
لكل قيم الحق العدل والديمقراطية، انّه خطر على اليهودية ذاتها.
ثانياً: ان الإسلام ولئن كان مما ينسجم ومبادئه تطور الحياة نحو
نظام دولي موحد يضع حداً لحالات الظلم والفوضى والعدوان ويكون
نصيراً لكل مظلوم يستوي في ذلك القوي والضعيف، الغني والفقير،
الرجل والمرأة، المسلم والكافر، الكل بشر يشترك في التكريم الالهي
ويملك حقوقاً ثابتة لا سلطان لأحد عليها (ولقد كرمنا بني آدم). غير
ان الإسلام يأبى إلباس الباطل لبوس الحق ورفع الشعارات الإنسانيّة
البراقة لحجب ما يقترب من مظالم باسم القانون الدولي ومجلس الامن
وحقوق الإنسان والديمقراطية.
ان الاُمّة التي اصطفاها الله لاستقبال آخر رسله وجعل لها رسالة
القوامة بالحق على الخلق امراً بالمعروف ونهياً عن المنكر لئن
اسعدتها فكرة نظام دولي يحكم البشرية جمعيعاً فانه يأبى عليها ان
تقبل:
حالة اللامساواة والتكافؤ في النظام الدولي القائم بين الشعوب
والملل. ان امة المليار مسلم ترفض بكل اباء ان تحكم بسلطة من
خارجها ـ كمجلس الامن ـ لا مشاركة لها في قراراتها، ان تتحكم في
مصيرها وسياساتها. من هنا فنحن الاسلاميين ندعو إلى اصلاح جذري في
نظام هذه الحكومة على اساس العدالة والمساواة بين الشعوب.
كما ان الإسلام ولئن عرف اهله لقرون طويلة مبدأ حرية الاسواق
والتجارة وجولان البضائع والاشخاص والافكار في حرية، فانه يرفض ما
في النظام الاقتصادي الدولي ونظام التبادل من حيف، كما انّه يرفض
ان تنهب ثرواته وتستباح اسواقه من طرف نظام الاقلية الصهيونية
الساعي لفرض هيمنته على المنطقة.
ثالثاً: كما ان الإسلام المحرض لاهله على السلم كلما جنح اليها
الآخرون، السلم التي تستعيد الحقوق، يأبى عليهم ان يستغلوا فيقبلوا
وفيهم عين تطرف وعرق ينبض بالتوحيد ان يدأب اعداؤهم بالليل والنهار
على تطوير اسلحة الدمار واجدين العون من قادة النظام الدولي بينما
هم راضون بهديل الحمائم وزقزقة العصافير تنشد انشودة السلام بينما
الصياد على مقربة منها يبري سهامه ويحكم تصويبها، لماذا تتسلح
الهند واسرائيل بالقوة النووية فضلاً عن الصين وروسيا واميركا
وفرنسا وبريطانيا ويمنع ذلك عن باكستان وايران ومصر والعراق؟ هل
ذلك من تفسير غير ان الإسلام وحده يراد له ان يعيش في غابة من
السباع بلا مخالب على حين ان المسيحية والكنفوشيوسية والهندوسية
والبوذية واليهودية تكدس وتطور اسلحة الدمار الشامل وتصوبها إلى
عواصم المسلمين؟
رابعاً: ان قضية فلسطين هي قضية مركزية بالنسبة للامة الإسلامية
وهي في جوهرها لا تختلف عن قضايا الاستعمار الاستيطاني كالذي حصل
في جنوب افريقيا والجزائر وهونغ كونغ، قضية شعب يشرد من ارضه ويباد
تراثه من طرف شراذم قدمت من اطراف الارض بدعاوى اسطورية وبدعم من
النظام الدولي.
والسؤال: لماذا كان لكل الشعوب الحق في تحرير اوطانها من الغزاة
عدا شعب فلسطين؟ وهل يمكن لاية تسوية لا تعيد الملايين إلى ديارهم
وتعيد فلسطين جزء لا يتجزأ من ارض الإسلام ان تنهي القضية مهما طال
الاحتلال؟ ألم تحكم فلسطين قرناً يزيد من طرف الصليبيين ثم استيقظت
الاُمّة وطردتهم إلاّ من رضى البقاء مواطناً مسالماً؟ولماذا يقر
الناس كفاح السود في جنوب افريقيا لالغاء نظام التمييز العنصري من
اجل دولة ديمقراطية موحدة يعيش في ظلها الجميع، أليست اسرائيل دولة
اشد عنصرية من دولة الاقلية البيضاء في محيط عربى اسلامي، لماذا
وقع رفض هذه الاستراتيجية التي نادى بها الفلسطينيون خلال مرحلة
كفاحهم؟ لماذا تتحول مقاومتهم وانتفاضتهم المباركة إلى ارهاب في
نظر القائمين على النظام الدولي؟
خامساً: انّه إذا تعب جيل وعجز عن استرداد الحق فله ان يهادن
ويصالح ولكن ليس له ان يتنازل عن الحق ويصادر ارادة وحقوق الاجيال
القادمة. وحتى لو قبلنا المصالحة التي تضع حداً للحرب وان كان هذا
الظرف هو الاسوأ لامتنا لان ضعفنا بلغ الغاية، فان الذي تم تجاوز
المصالحة إلى التطبيع، إلى الاندماج في الكيان المعادي والتحول من
حالة العداء والحرب ضده إلى حالة المشاركة والتحالف معه وضد من؟ ضد
عناصر المقاومة المتبقية في الاُمّة اشخاصاً وهيئات وعقائد
وافكاراً؟
اذاكانت لحظتنا هذه ليست لحظة تحد ومواجهة للعدو لتحرير ارضنا
وديارنا فلتكن لحظة صمود وثبات في وجه الهجمة الدولية التي تبهتل
فرصة ضعفنا واضطرابنا لتلغيم كياننا وتقويض اركاننا وفرض الاستسلام
علينا.
اما الحكم الذاتي الذي يلوح به لشعبنا فنحن نقبله ونرحب به ولكن
ليس لنا بل للصهاينة في ارض فلسطين.
سادساً: لماذا يربط الغرب القائم على النظام الدولي واميركا بالذات
ملف علاقته بالعرب والمسلمين وهو ملف ضخيم يشمل ما يزيد على خمس
البشرية فضلاً عن حجم المصالح الغربية والاميركية في بلاد
المسلمين، لماذا يربط كل ذلك بالملف الصهيوني على نحو يغدو نوع
العلاقة مع الكيان الصهيوني الدخيل على المنطقة محدداً لنوع
العلاقة مع الغرب وأميركا.
نحن المسلمين ندعو للفصل بين هذين الملفين لان الربط فاسد مضر
بالعلاقات الإسلامية الغربية، ان ذلك اشبه ما يكون بربط علاقتنا مع
اميركا بعلاقة اميركا مع كوبا. هل من الحكمة على فرض وجود علاقة
لنا متينة نحن المسلمين بكوبا ان نضع ملفها على الطاولة كلما جلسنا
مع الاميركان في شأن علاقاتنا الثنائية وإذا كان الكيان الصهيوني
المتغلغل في احشاء الغرب قد نجح في هذا الربط المضر بالعلاقات
التاريخية بين الإسلام والغرب، بين الإسلام والمسيحية فلابد ان
يأتي يوم يقتنع فيه الغربيون بالفصل بين الملفين وانّه ليس صحيحاً
هذا الربط الاستراتيجي بين المصالح الغربية واليهودية، بل ان هذه
العلاقة ينمو الشعور في الغرب انها اشبه بزواج المكره وسيتفاقم هذا
الشعور بتصاعد التيارات اليمينية في الغرب.
سابعاً: ان الإسلام يرحب ويعمل من اجل نظام دولي عادل، لا تكون فيه
القوة اداة الحسم فيما يعرض فيه من خلافات ولا هي محددة للانصبة
والارزاق وانما قيم الحق والعدل والحوار، الحوار والتعاون بين
الحضارات والاديان من اجل عالم مزدهر مستقر. ولا ازدهار ولا
استقرار على غير اساس الحق والعدل والمساواة والبديل عن ذلك ليس
شيئاً غير الصمود على المبادىء واستمرار المقاومة والجهاد حتى تكون
كلمة الله، كلمة الحق والعدل هي العليا وكلمة الشيطان، الظلم
والعدوان هي السفلى والله غالب على امره ولكن اكثر الناس لا
يعلمون.
المصدر :مجلة الفكر الجديد _العدد الثامن 1994