|إن الدولة في الإسلام لها الحق، بادىء ذي بدء كغيرها من الدول، أن
تصدر عن روح الإسلام في إصدارها للقوانين التي تراها عادلة لتعاقب
الجاني الخارج على القانون، سواء أجرم المرء بتعدّيه على حدود
الله، أو أجرم في حق الأمة أو الجماعة، أو أجرم في حق الدولة
ذاتها|.
هذا القانون الجنائي الوضعي، إنما هو من وضع البشر، قابل للتغيير
والتعديل، في كل وقت، ومن الممكن أن يذهب بذهاب عصر ما، وهذا شيءٌ
واتفاقُهُ مع روح العصر شيء آخر مختلف تماماً.
هذه الحرية في التشريع غير مطلقة، فهي محدودة بالقانون الجنائي
القرآني، إذ إنّ له الصدارة التي لا تُدانى أو تنافس. ولا بد في
هذا من الأنطلاق من أن المادة القضائية التي ينظمها القرآن، لايجوز
للقانون الوضعي أن يبدل أو يعدل فيها، أو يضاعف في تغليظها أو نحو
ذلك، لأن ذلك يعد تحسيناً أو تهذيباً أو تنقيحاً من البشر في قانون
إلهي، وهذا لا يجوز بحال.
ويعاقب القرآنُ عقاباً رادعاً على ست جرائم فحسب، وإن كان يستنكر
ويذم جرائم أخرى عديدة، مبيناً سوء عاقبتها الوخيمة، وما ينتظر
مرتكبيها من جزاء في الدار الآخرة، ابتداءً من الميسر والقمار،
وأكل الخنزير، والارتداد عن الإسلام. أما تلك الجرائم الموبقة الست
التي يعاقب عليها في الدنيا، فهي:
أولاً: القتل العمد.
ثانيا: قطع الطريق والسلب والنهب علناً.
ثالثاً: الخيانة العظمى.
رابعاً: قذف المحصنات.
خامساً: الزّنى (بين العفيفات والمتزوجين: المؤلف).
سادساً: السرقة لشيء ذي شأن.
وقد نص القرآن على أن القتل عقوبة الجرائم الثلاث الأولى، أما
الجريمة الخامسة فقد دأب الفقهاء التقليديون المتزمتون على تبرير
قتل مرتكبها وذلك بالرجم إذا توافرت ظروف وملابسات معينة تُحَتّمُ
عندهم ذلك.
أما جزاء السرقة ذات الشأن فهو قطع اليد اليمنى ثم اليسرى إذا لم
يرتدع السارق، وكرّرَ السرقة. من هذا ترى أن القرآن لا يحوي في هذا
الصدد سوى موادّ قليلةٍ جداً في الحدود أو العقوبات الجنائية، وأقل
من ذلك بكثير ما يتعلق بالمحاكمات الجنائية. هذا الوضع يكفل الحرية
اللازمة للشريعة الإسلامية لتكون إنسانية تراعي الواقع الفعلي
للبشر، بواسطة تطبيق أحكام القانون الجنائي الشديدة الصرامة مع
سقوط تلك الأحكام في مدة شديدة القِصَر، مما يوفر المجال الفسيح
الكافي للشريعة لتخفيف قسوة العقوبات التي يفرضها القرآن.
هذا ولا شك سبب من أسباب التباين أو عمق الهوة بين الجانبين النظري
والعملي في الواقع الفعلي للقضاء في حياة المسلمين اليومية.
إن القانون الجنائي في القرآن غير واف أو هو قاصر على الاستناد إلى
الدليل المادي الثابت للحكم في قضية جنائية، لهذا نصّ على ضرورة
شهادة شاهدين عدلين أو رجل وامرأتين، وفي حالة التهمة الجنسية (الزنى)
نص على ضرورة شهادة أربعة شهود عدول.
ولا شك أن القرآن يطلب ما يستحيل تحقيقه لتوقيع العقوبة الخطيرة في
حالة الزنى، إذ أنّى للمتهم أن يأتي بأربعة شهود ممن ترضى شهادتهم
من العدول الرجال ليؤيدوا دعواه، مع مخاطرة أولئك الشهود بتعرضهم
للجلد، بل وأحياناً للقتل، لدى بعض الفقهاء الذين يقيسون عقوبة
الشاهد الكاذب (الذي يرمي المحصنات دون دليل) بعظم جُرم الزنى ذاته
وما يرونه من عقوبة ذلك بالموت، ويكفي لذلك أن يثبت كذب واحد من
الشهود الأربعة.
أضف إلى ذلك أن إقرار الزاني أو الزانية لا يكفي لتوقيع العقاب، بل
على القاضي أن يرشد ذلك الشخص إلى حقه في سحب اعترافه بارتكابه
لجريمة الزنى.
_ إن عقوبة الخيانة الزوجية بالزنى، وعقوبة قذف المحصنات كما نص
القرآن ليس الرجم ولا الشنق أو القتل، وإنما هي الجلد فحسب، يقول
تعالى في سور النور، الآيات رقم 2 إلى رقم 10 (الزانية والزاني
فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة... والذين يرمون المحصنات ثم لم
يأتوا بأربعة شهدا فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة
أبداً، وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن
الله غفور رحيم ... ولولا فضلُ الله عليكم ورحمته، وأن الله توابٌ
حكيم).
ولئن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد انتهج التسامح الكريم، وأكد
ذلك وأقره الخليفةُ عمرُ بنُ الخطاب، فإن المؤسف حقاً أن الإسراف
في عقاب الزاني والزانية عقاباً مسرفاً أغلظَ مما نص عليه القرآن
بدأ يستقر في الحياة في العصور الأولى للإسلام، حتى صار هذا العقاب
تقليداً وسنّة، مع مخالفة ذلك للقرآن، ومع أن الآية الثانية من
سورة النور نسخت نسخاً لا شبهة فيه ولا تأويل حكم التوراة القاسي
الذي ينص على الرجم حتى القتل، فتجد في سفر التثنية أن الفتاة التي
فقدت عذرتها قبل الزواج (يرجمها رجال مدينتها بالحجارة حتى تموت
لأنها عملت قباحة في إسرائيل بزناها في بيت أبيها)، الإصحاح الثاني
والعشرون الآية رقم 20.
أما بالنسبة لقطع يد السارق والسارقة، فإن الآية الثامنة والثلاثين
من سورة المائدة تنص على ما يلي: (والسارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما جزاءً بما كسبا، نكالاً من الله، والله عزيز حكيم).
قبل كل شيء لابد أن نبين أن السرقة التي يعنيها القرآن إنما هي
سرقة شيء ذي شأن محفوظ حفظاً جيداً عن الأيدي، وإلا فإن السارق ليس
بالملوم إذا تُركَ لإغراء الشيء الذي يُحبُّ أن يحصل عليه، دون حفظ
ذلك الشيء في مكان حصين أمين. ولا ننسى أن الخليفة عمر بن الخطاب
أمر بعدم قطع يد السارق في أيام الشدة والمجاعات أو نحوها، وأسقط
دعاوى من طالب بعقاب السارق بسبب ذلك، ولقد نتج عن ذلك المبدأ
القضائي الشائعُ، بعدم عقاب السارق واعتباره سارقاً إذا ألجأته
الضرورة لذلك مثل عجز الدولة اقتصادياً واجتماعياً عن توفيرها له
سبل المعيشة الشريفة..
وحتى يمكن فهم القانون الجنائي في القرآن لا بد من الأخذ في
الاعتبار أنه مكمل او متممم لنظام المواريث وشؤون الأسرة في
الإسلام. بناءً على هذا القانون، ليس للرجال أن يمس أموال زوجته أو
ثروتها الخاصة، ويدخل في ذلك المهر، وعادة ما يكون حلياً ذهبية أو
نحو ذلك مما تحتفظ به المرأة وتدخره لأيام الشدة مثلاً بعد الطلاق
أو في حالة الكبر، خاصة أن الرجل غير ملزم بدفع نفقة شهرية أو
سنوية لمطلقته، حسب الشريعة الإسلامية... من هنا يتبين خطر السرقة
على المرأة التي لا مصدر لها غير مدخراتها، خاصة في الريف
والمجتمعات البدوية.
ولا بد هنا من التنبيه إلى أن الإسلام لا يرى في كثير من العقوبات
التي يعرفها المجتمع الأوروبي غيرُ المسلم، قسوة أقل من عقوبة قطع
اليد، فهي ليست بحال أكثر إنسانية، مثل ذلك: السجن المؤبد ونفي
المجرمين مرتكبي الجنايات عن المجتمع والأسرة.
ثم إن المسلم يرى في العقوبات التي نص عليها القرآن حدوداً حدها
الله سبحانه بحكمته الإلهية، وإن لم يستطع العقل البشري دائماً أن
يفقه الحكمة منها، وأن تلك الحدود ليست نوعاً من الوصايا لمن شاء
أن يعمل بها، أو أن لا يعمل بها.
---------------------------
عن الاسلام كبديل