القسوة القديمة
من المسائل الباقية، في بحث معاملة الأعداء، والتي لا تقل أهمية
عما سبقها في هذا الموضوع، مسألة معاملة أسرى الحرب.
ففي العصور القديمة، أجاز العرف قتلهم في الأصل، ولكن أقر
استرقاقهم على سبيل التخفيف. ولذا كانت الحرب أهم مصادر الرق في
أثينا وروما وفي معظم النظم التشريعية القديمة.
وكذلك في جزيرة العرب قبل الإسلام، كانت عادة الغزو والقتال منتشرة
بين القبائل. وكان يجوز للقبيلة المنتصرة أن تأسر الرجال وتسبي
الأولاد والنساء من القبيلة المعادية، حتى ولو كانت عربية، وكان
هؤلاء الأسرى تحت رحمة سابيهم، ومن ثم كانوا معرضين للقتل أو
الاسترقاق حسب مشيئته.
غير أن هذه القسوة تضاءلت مع الزمن شيئاً فشيئاً، واستبدلت بها
معاملة أكثر رحمة، بنتيجة عادة افتداء الأسرى أو تبادلهم. ثم
مؤخراً، لا سيما منذ نظام اتفاقية لاهاي لسنة 1907، أصبح أسرى
الحرب محصنين من القتل والاسترقاق والتعذيب. ولكن يجوز توقيفهم،
شرط إطعامهم واكسائهم. وقد يفرض لهم أحياناً راتب معين. غير أن هذه
المبادئ كثيراً ما تنتهك، كما رأينا في الحربين العالميتين
الأخيرتين. فالحرب تظل حرباً، مع جميع ما يستتبعها من ضراوة وتعسف،
وما يرافقها أحياناً من خروج عن السلوك القويم.
|وكذلك لما جاء الإسلام عدَّل عادة قتل الأسرى واسترقاقهم التي
كانت متبعة في الجاهلة. فأمر بحسن معاملتهم، وأقرّ نظام المفاداة
والإفراج المجاني المطلق. وقد الفقهاء بأن كل من نهى الشرع عن قتله
يجوز أسره إلا الرهبان(1).|
وقد بحث الفقهاء المسلمون في هذه المسألة تحت عنوان غنائم الحرب،
واختلفوا في تفاصيل عديدة. ونحن نوجز هنا القواعد العامة المتعلقة
بمعاملة أسرى الحرب.
أحكام خاصة لبعض الأسرى
من المهم أن نشير، بادئ بدء، إلى أن العدو، إذا أسلم قبل الأسر، لا
يجوز أن يعامل كأسير حرب. وهكذا، لا مجال بعد ذلك لقتله ولاسترقاقه
أو لافتدائه. فهو يتمتع بالحصانة والعصمة في النفس والمال والذرية.
وكذلك هو الحكم إذا أسلم بعد الأسر، في قوله جمهور الفقهاء.
أما في قول أبي حنيفة، فيشترط لذلك أن يكون إسلامه في دار الحرب.
فحينئذ، يتمتع بحصانة النفس والمال، بحيث لا يجوز أسره ولا التعرض
لماله، أما إذا اعتنق العدو الإسلام بعد الأسر، فيبقى معرضاً
للاسترقاق لا للقتل.
وبهذه المناسبة، نذكرّ بالحصانة الخاصة التي تمنح كنتيجة لعهد
الأمان أو لعقد الذمة، إذ يتمتع بموجبها المستأمنون وأهل الذمة
بعصمة النفس والمال، على ما فصلنا سابقاً. فعليه، يجوز للإمام، عند
جمهور الفقهاء، أن يعقد الأمان أو الذمة مع الأسرى. لكن لا يجوز
لأحد الأفراد عقد الأمان مع الأسرى. بالنظر لتعلق حق الإمام في
معاملته، حسب الخيار الذي سنعود إليه.
ويحتاج وضع الأسرى النساء والصغار إلى تنويه خاص. فإذا سبي الولد
الصغير وحده من دون والديه، اعتبر مسلماً ولم تجز إعادته أبداً، لا
بالفداء ولا بطريقة أخرى. وإذا سبي مع والديه كليهما، فإنه يتبع
دينهما في قول جمهور الفقهاء، باستثناء المذهبين الأوزاعي
والظاهري، إذ قالا بأن الولد يصبح مسلماً في هذه الحالة أيضاً.
أما إذا سبي الولد مع أحد الوالدين فقط، فالولد يعتبر مسلماً إذا
أسلم أحدهما، في قول جمهور الفقهاء، باستثناء المذهبين المالكي
والظاهري، إذ يشترطان أن يتبع الولد دين أبيه إذا أسر معه، وأن
يعتبر مسلماً إذا أسر مع أمه. وبكل حال، لا يجوز في السبي والأسر
التفريق مبدئياً بين الوالدين أو الجدين والأولاد، ولا بين الأخوين
أو الأختين.
وكذلك بحث الفقهاء في أثر الأسر على الزواج. فإذا أسرت الزوجة
وحدها فسخ زواجها السابق. ولكن إذا أسر الزوج وحده أو أسر الزوجان
معاً. فلا ينفسخ الزواج في قول جمهور الفقهاء. وقد خالف في ذلك
الإمامان مالك والشافعي، إذ اعتبرا أن أسر الزوجين معاً يفسخ
زواجهما.
نظام الأسرى العام
فيما يتعلق با سرى الحرب العاديين، أي الذين لا يسلمون أو لا
ينالون الأمان المؤقت أو المؤبد بمقتضى عهد الأمان أو عقد الذمة،
فقد نزلت فيهم أولاً الآية الكريمة: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى
حتى يثخن في الأرض).
فبالاستناد إلى هذه الآية، قال أبو حنيفة النعمان بأن الإمام مخير
بين قتل الأسرى أو استرقاقهم، وبأنه لا تجوز مفاداتهم ولا تسريحهم
منّاً.
غير أن هذا القول القاسي لم يقبل به أصحاب أبي حنيفة ولا كثرة
الفقهاء من المذاهب الأخرى. فرأي الجمهور مبني على القاعدة العامة
الواردة في الآية الكريمة اللاحقة. ونصها: (فإذا لقيتم الذين كفروا
فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإمّا منّاً وإما فداء
حتى تضع الأرض أوزارها).
فوفاقاً لهذا النص الأساسي، ولاجتهاد كثرة الفقهاء في شأنها، يخير
الإمام، حسبما يراه من المصلحة بين خيارات خمسة، وهي: القتل،
والاسترقاق، والمبادلة، والمفاداة، والمن، وذلك وفاقاً للشروط
والتفصيلات الآتية.
أولاً ـ القتل.
في قول الجمهور يجوز للإمام قتل الأسرى الرجال البالغين. لا سيما
إذا خيف منهم، أو عندما يؤدي هذا العمل إلى إضعاف العدو. أما
النساء والأطفال والرهبان، فلا يجوز قتلهم. وسببه أن هؤلاء لا
يقدرون على القتال مبدئياً. وكذلك إذا أسلم الأسير بعد الأسر، صار
حكمه حكم النساء، فلم يجز قتله.
ثانياً ـ الاسترقاق.
الخيار الثاني هو استرقاق الأسرى ومعاملتهم كغنائم الحرب. ففيهم
اصدر الخليفة عمر بن الخطاب (ص) أمره بأنه "لا سباء على عربي في
الإسلام". ومعناه أنه لا يجوز استرقاق الأسرى العرب. أو على الأقل
يفضل إعتاقهم على استرقاقهم،. وهذا ما أخذ به الأحناف وكذلك روي عن
النبي (ص): "لا رق على عربي".
ومن سابقات عمر أيضاً كتابه إلى عمرو بن العاص بأن يجعل أهالي
الإسكندرية والقرى المفتوحة ذمة للمسلمين. وبأن لا يجعلهم فيئاً
وعبيداً.
وفوق ذلك، فالرق كان من المسائل التي خضعت لقاعدة التدرج في
التشريع الإسلامي. فهذا التشريع وضع أحكاماً، ليس فيها ما يجيز
الاسترقاق صراحة. لا بل ضيقت أسباب الرق، بحيث أصبح نادراً، كما
سهلت التخلص منه بتوسعها في أسباب إنهائه، وذلك في وقت كان الرق
فيه شائعاً في الشرق والغرب جميعاً. وهكذا تكفل هذا النظام مع
الزمن بإلغاء الرق تدريجياً، كما ثبت بوقائع التاريخ الإسلامي.
ثالثاً ـ المبادلة.
وهي مفاداة الأسرى بالأسرى، أي تبادل أسرى العدو بأسرى المسلمين.
وقد اشترط الإمام أبو يوسف، صاحب أبي حنيفة، أن تجري هذه المبادلة
قبل قسمة غنائم الحرب لا بعدها. وهذه الطريقة قد أقرها التعامل
والمعاهدات العصرية. وهي تستعمل، بالاتفاق بين المتحاربين، على
نطاق واسع.
رابعاً ـ المفاداة بالمال.
ومعناها افتكاك الأسرى لقاء دفع فدية نقدية أو مالية أخرى. وقد منع
الإمام أبو حنيفة مفاداة الحربي الأسير لقاء مال. لكن صاحبيه أبا
يوسف ومحمد بن الحسن أجازا ذلك إذا كان بالمسلمين حاجة إلى المال،
أو إذا كان الأسير شيخاً كبيراً لا يرجى له ولد، مع اشتراط أبي
يوسف أن تكون المفاداة قبل قسمة الغنيمة. وكذلك أجاز هذه المفاداة
فقهاء المذاهب الأخرى.
أما مفاداة أسرى المسلمين بمال من أيدي العدو، فقد حضّ عليها النبي
(ص) في حديثه الشريف: "فكّوا العاني، وأطعموا الجائع، وعودوا
المريض". والعاني، بتفسير البخاري وغيره يعني الأسير.
وتؤخذ مؤونة الفدية من أموال الصدقات، لأن فك الرقاب هو أحد وجوه
مصارف الزكاة المعينة في الآية الكريمة: (إنما الصدقات للفقراء
والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين
وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم).
وفوق ذلك، اعتبر بعض المالكية مفاداة الأسرى فرض كفاية، ولو بجميع
أموال المسلمين. فإذا كانت الفدية من بيت المال، أو كانت صدقة من
الفادي، أو كانت بمال محرم كالخمر والخنزير، فلا رجوع بها على
المفدى. أما في سائر الأحوال، فيرجع الفادي بقيمتها على المفدى،
ويقدم دينه على سائر الديون. ولا يشترط للفداء رضى الأسير، ولا
التقيد بقيمة ما.
خامساً ـ المن بإطلاق السراح.
وهو ترك الأسير مناً وإحساناً وبغير فداء أو عوض. وهو الخيار
الأخير والأهم. وقد رفض المذهب الحنفي هذا الخيار، لما فيه من
تقوية العدو، وإعانته على الحرب. لكن هذا التعليل لم يقبل به
أغلبية الفقهاء، على اعتبار أن هذا الحل اختياري، يمكن دائماً ضبط
استعماله، وفق مقتضيات المصلحة العامة.
التأويل الواسع
لقد تأثر التأويل السائد المار بيانه بالعادة والتعامل المعروفين
في ذلك الزمان. فالنص القرآني نفسه لم يذكر قتل الأسرى ولا
استرقاقهم، بل ذكر الفداء والمن فقط.
لذلك أفتى بعض الفقهاء، ومنهم الحسن وعطاء وعبد الله بن عمر وسعيد
بن جبير، بتأويل أكثر تحرراً وتوسعاً في الرحمة والتساهل، ومآله
النفور من قتل الأسرى، واعتماد الفداء والتسريح المطلق وحدهما.
ويستند هذا القول إلى صراحة النص القرآني المنوه به، وإلى عمل
النبي (ص) وعمل السلف الصالح. فقد حكى الحسن بن محمد التميمي أن
إجماع الصحابة لم يجوّز قتل الأسرى. ثم أيد هذا القول أيضاً طائفة
من المؤلفين العرب المحدثين. وهو، بلا ريب، أقرب إلى روح الإسلام
الإنسانية المشبعة بالرحمة واليسر والخير.
وفوق ذلك،| فقد أمر القرآن الكريم بالإحسان في معاملة أسرى الحرب،
على قدم المساواة مع اليتامى والمساكين المحتاجين، وذلك في الآية
الكريمة: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما
نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً).
وكذلك، أظهر النبي (ص) العطف على أسرى العدو، بأن حضّ على معاملتهم
بالحسنى، وأوجب لهم الكساء اللائق، كما حضّ على تخلية سبيلهم|.
مثاله في غزوة بدر، بعد أن شاور النبي (ص) أصحابه في أمر الأسرى،
أخذ برأي أبي بكر الصديق (رض). فأطلق سراحهم لقاء فدية مالية، أو
لقاء تعليمهم أولاد المسلمين القراءة والكتابة إذا لم يكن لديهم
مال. أما أسرى بني المصطلق، فقد سرحهم النبي (ص) مناً وإحساناً، من
دون فداء ولا مقابل. وكذلك نهج صلاح الدين الأيوبي في الحروب
الصليبية على عدم قتل الأسرى، وعلى تركهم بالفداء في غالب الأحيان.
وهكذا، نحن نرى، على الجملة، أن واجب المعاملة الرحيمة لأسرى الحرب
على الوجه المبين، مقروناً بالتوصية بتسريحهم مناً وإحساناً وبغير
فداء أو عوض، لهو من الأهمية بمكان كبير. ذلك أنه يؤلف تطوراً
إنسانياً محسوساً بالقياس إلى مفاهيم تلك الأزمنة الغابرة والظروف
القاسية، وبالقياس إلى ما نراه اليوم من فظاعة ووحشية في معاملة
الأسرى، على الرغم من المعاهدات التي تحرم ذلك، وعلى الرغم من
التطور المنتظر بعد مرور أربعة عشر قرناً.
ولا مراء في أن هذا الإسهام القيم الذي قدمه الإسلام إلى التشريع
الدولي، من الناحيتين النظرية والعملية، لهو بالغ الأثر، وعظيم
المغزى في تاريخ التمدن الإنساني.
الهامش
ــــــــ
(1) شرح الخرشي ج2 ص410.
------------------------------------------
المصدر : القانون والعلاقات الدولية في الإسلام