ولقد اعتبر فيبر (الفراسة (Hunches) ) القانونية عند القضاة
المسلمين بمثابة أفضل مثال للقانون غير العقلاني فقرارات القضاة هي
أحكام غير رسمية مصاغة ضمن قوالب أخلاقية أو قيمية عملية أخرى..
(وعدل القاضي) لا يعرف القواعد العقلانية في إتخاذه لقراراته أياً
كانت أما النوع الثاني للقانون اللاعقلاني فيمثله القانون الذي لا
يسترشد بأي "فكر" ولكن له مصادره في الوحي والكهانة، وكذلك فإن
القانون العقلاني يمكن أن يكون إما مادياً أو رسمياً، ويعتمد
القانون العقلاني الذاتي على أحكام مشتقة من كتاب مقدس أو من بعض
الأيديولوجيات السائدة إجتماعياً، وختاماً فإن القانون الرسمي
العقلاني يعتمد على مفاهيم مجردة فقهية دونما الرجوع إلى مصادر
قانونية خارجية خلال التحليل المنطقي للمعنى وحيث تتكون وتستخدم
مفاهيم قانونية ثابتة ومحددة في صيغة قواعد مجردة. إن هذا التنميط
للقانون يمكن تبسيطه إذا أخذنا في إعتبارنا معالجة فيبر للفروق بين
صنع القانون (Lawmaking) وإيجاد القوانين (Lawfinding)، وذلك أنه
إذا ما اعتبر القانون شيئاً مقدساً بمعنى أن القانون المشتق من وحي
رسول، عندئذ فقط فإن كل النشاط القانوني المقدس أساساً يصبح عملية
إكتشاف أو إيجاد معيار مقدس موجود ويغطي التقليد القانوني المقدس
مبدئياً كل القضايا ويكون القاضي مجرد معلن لما هو مناسب للقضية.
وعلى العكس فإن التقاليد القانونية الدنيوية (القانون الوضعي حيث
تزداد صفات الرسمية والعقلانية القانونية إلى أعلى درجاتها فإن
القوانين والتشريعات الجديدة يمكن وضعها أو سنها عن طريق رجال
القانون).
ويلاحظ فيبر أنه في الإسلام كانت السيطرة الوراثية توجد جنباً إلى
جنب مع تقليد قانون مقدس وعدالة القاضي وهي التي تسبب في وجود ظروف
لم تكن مناسبة لظهور العلاقات الرأسمالية العقلانية.
|ولقد أكد فيبر في معالجته للقانون الإسلامي ضرورة التركيز على
نقطتين هامتين هما ثبات محتوى الشريعة وعدم ثبات قرارات القاضي
القانونية ولقد اعترف فيبر بحق أنه لا القرآن ولا السنة (وهي أفعال
وأقوال وتقريرات ترد إلى الرسول) وحدهما كانا بمثابة القواعد التي
يستند عليها القانون وأن الشريعة قد تفهم أفضل كناتج للعمل الفكري
الحديثي الذي قام به الفقهاء.| لقد قام هؤلاء المختصون بجمع أحاديث
الرسول والتعاليم الإخلاقية للقرآن واعتمدوا على الإجتهاد وأحكامهم
المستقلة مكونين بذلك اسس القانون. ولهذا السبب فإن فيبر يسمي
القانون المقدس "بقانون الفقهاء"، وإذا ما قام الفقهاء ببلورة
تفاصيل القانون، فإنه ينظر إلى الشريعة على أنها محددة وكاملة ومن
ثم تنتهي عملية صنع القانون أن هذه "البلورة كانت تتم رسمياً من
خلال الإعتقاد بأن قوة الرسل الإلهامية والفقهية لتفسير القانون أو
الاجتهاد كانت شيئاً متميزاً، وبالنظر إلى التقليد القانوني
باعتباره مقدساً وثابتاً فإن النشاطات القانونية الرسمية والشرعية
كانت تنحصر في حفظ التقاليد القانونية وإيجاد القانون. وكانت
النتيجة وجود فجوة بين القانون كشيء مثالي وبين الواقع الإجتماعي
ولقد ادعى فيبر بأن هذه الفجوة قد تلاشت بوسائل تعسفية غير منتظمة
وكانت البدع شيئاً ضرورياً أحياناً _ وكانت كل هذه المسائل:
ينبغي أن تجد دعماً لها أما بالفتوى (رأي الفقيه) التي يمكن في
الغالب الحصول عليها في بعض القضايا بسهولة وأحياناً بطيب قلب
وأحياناً عن طريق الحيلة أو عن طريق الإختلاف بين عدة مدارس فقهية
سوية ولم يكن من الممكن إغفال القانون المقدس على الرغم من هذه
التوافقات العديدة _أثناء التنفيذ والممارسة العملية.
ومن الناحية النظرية تعتبر الشريعة الإسلامية جامدة ولكن عملياً
فهي في سيولة وعدم إستقرار، وقد أصبحت هذه الصفة الخاصة للقانون
الإسلامي أكثر تركيزاً بالطبيعة وبإضفاء الطابع النظامي على عدالة
القاضي، ففي رأي فيبر كان عدل القاضي يقوم على قرارات ذاتية أكثر
منه على أساس من القواعد، لذلك، كان هذا الجمع بين التقليد المقدس
الجامد مع أحكام تعسفية ذاتية يميز كل الأنظمة الوراثية.
فالإسلام دين جامع شمولي قانوني ليس بالمفهوم الرسمي ولكن بالمفهوم
الخلقي ذلك (أن الله هو إله جامع (All - embracing) بإمكانه أن
يقدم القيم لكل جوانب الحياة من أبسط الأمور إلى أكثرها تعقيداً.
وحينما كان النبي حياً كان من الممكن توصيل هذه التوقعات الإلهية
مباشرة للبشر وكان محمد (ص) يسأل للهداية والإرشاد في كافة أحوال
الأمة، ولكن بعد موت النبي وجد المؤمنون أن موقف القرآن ذاته
المسائل الجديدة التي تواجه الأمة أما أن أنها غير مذكورة أو
غامضة، ولقد ساء الموقف بعد رحيل الصحابة، ولعدم وجود من لديه
رواية مباشرة عن الرسول (ص) قولاً أو عملاً، في مثل هذه الحالة فقد
كان على الجماعة الإسلامية أن تعتمد على مصدر آخر وهي أحاديث
الرسول ونشاطاته، وهذه الأحاديث كانت تقبل على أساس سلسلة أسانيد
معترف بها.
وحتى منتصف القرن التاسع تضاعفت الروايات عن النبي (ص) بشكل كبير)
(ولما كان هناك بعض التناقضات الواضحة بين الأحاديث والتراث الشفوي
والقرآن ظهرت الحاجة إلى عقلنة وتنظيم الحديث)، ومع ذلك فلقد كانت
هنالك مقاومة عميقة الجذور ضد تدوين الحديث حيث ساد الاعتقاد بأن
النقل الشفوي كان واحداً من المعايير على صدق الرواية، عندما
اعتبرت كتب الحديث الستة جزءاً من التراث القانوني، ظل التأكيد على
الإتصال الشفوي بين الشيخ وتلميذه باقياً، وبالإضافة إلى نمو
القانون من حيث الحجم والتعقيد ظهرت تفاسير مميزة للمصادر
القانونية وهذه التفاسير أو الإتجاهات أصبح لها طابعاً نظامياً
كمذاهب فقهية. وكانت هذه المدارس محكومة بأئمتها الذين كانوا
متميزين بقدرتهم على الإجتهاد في إستخدام المصادر الأساسية.
وفي القرن الثامن والتاسع أصبح أربعة من الرجال أئمة للمذاهب
الفقهية الرئيسية المسيطرة على الإسلام إلى يومنا هذا. وهم مالك بن
أنس (توفي سنة 795) والذي انتشر مذهبه شمال افريقيا وأبو حنيفة
(767)، وينتشر مذهبه في الدولة العثمانية ومحمد بن إدريس الشافعي
(820) والذي انتشر مذهبه في آسيا وجزيرة العرب واليمن، وأحمد بن
حنبل (855) الذي كان سلفياً محافظاً وكان تأثيره مركزاً على بغداد.
ومع أنه كان هنالك بعض التنافس بين هذه المذاهب إلا أنه ما أن سيطر
كل مذهب على دائرة نفوذه حتى اعتبرت هذه المذاهب الأربعة متساوية
في قدرتها واتصالها وسلطتها. وبعد حلول القرن الحادي عشر إستطاعت
هذه المذاهب الفقهية مجتمعة أن تحل كافة القضايا الرئيسية في
القانون الإسلامي ولم يعد ممكناً إدخال أي تطوير في القانون بعد
ذلك من حيث المبدأ، ولذلك فقد أعلن إنتهاء الإجتهاد في المذاهب
الأربعة، وكما لاحظ فيبر فإن هذه النظرة للقانون كانت بوضوح ملحقة
بفكرة أن محصلة العهد الذهبي للمقنن الملهم قد اختتمت لنهاية الزمن
وأن الله سيرسل الإمام المهدي لإصلاح العالم. وقبل أن نضع في
الإعتبار النتائج التي ترتبت على إنهاء عملية التقنين علينا أولاً
أن نعود مرة أخرى لبحث الجذور الأخرى للقانون (أي ما يعرف بأصول
الفقه).
فبالإضافة للقرآن والسنة ظهرت نظرية كلاسيكية طورها الإمام الشافعي
تعترف بوجود مصدرين آخرين للقانون وهما الإجماع والقياس وعلى ذلك
لم يدخل الإجماع كمصدر للتشريع _عنصراً ديمقراطياً في التقنين
الإسلامي وبالتالي أثيرت مشكلة مزمنة تدور حول تحديد من هو الشخص
المؤهل ليقرر ما يمكن أن يجمع عليه وما إذا كان الإجماع موجوداً،
وبالتالي فبينما قبل بعض المحافظين سلطة الصحابة فقط قال آخرون بأن
كل جيل يجب أن يتبع سلطة العلماء مع التحفظ بأن الإجماع لكل جيل
كان مشابهاً. وعملياً فإن بناء الإجماع لدى العلماء لم يكن فقط
يسمح بإدخال عناصر قانونية جديدة بل وأيضاً تعديل محتوى الجذور
الأخرى القانونية للقرآن والسنة.
(وأخيراً تحول مبدأ القبول الجماعي لما اتفق عليه قانونياً بين
العلماء إلى مذهب (للعصمة (Infallibility)) حيث أنه ساد الاعتقاد
بعدم إجتماع الأمة على الخطأ حيث شاع الإعتقاد بأن هناك حديثاً
صحيحاً عن النبي يقول لا تجتمع أمتي على ضلال).
وإذا كان الإجماع يسمح بأن يتوافق القانون ضمنياً مع الظروف
المتغيرة وأنه في نفس الوقت يلتزم بالمبدأ القائل بأن عملية
التقنين قد انتهت، فإن مبدأ القياس قد يسمح بدرجة ما من التعسفية
حتى مع النظرية الكلاسيكية في الشريعة، فقد استخدم القياس أولاً في
استخلاص المقارنات من القرآن والسنة على أساس من الأحكام المعقولة
دونما تحديد لقواعد واضحة إجرائية. وكانت النتيجة ظهور نتائج
قانونية غير منتظمة، وبدأت تظهر الحاجة إلى الحد من الإستخدامات
غير الشرعية للإستدلال القياسي وتحديد معايير مناسبة أكثر وضوحاً،
فلقد حاول الشافعي مثلاً أن يحدد الأسس التي يمكن أن يقدم عليها
القياس قوانينا يمكن الاعتماد عليها ومتماسكة، ولكن لم يكن القياس
في مدرسته مصدراً صالحاً للقانون، فالقياس كان مجرد أداة اشتقاقية
يمكن أن تستخدم لدعم التراث القانوني وعلى الرغم من هذه المحاولات
لتنظيم الإستدلال القياسي فإن وضع القياس في النظرية القانونية بقي
غامضاً وكانت النتائج المشتقة عن إستخدامه في العادة غير ثابتة،
كما كان إختيار العناصر التي تحتاج إلى مقارنة يتم في العادة
بطريقة تعسفية وعملياً كان من الصعب أن نفرق بين الرأي والمقارنة
المنظمة.
ولقد كان الفقهاء الذين صاغوا القانون واتفقوا على مجموعة المناهج
القانونية الأساسية هم أيضاً الذين أغلقوا القانون مبدئياً بخلق
تقليد مقدس يحدد في تعابير مثالية مجموعة الواجبات والحقوق
المناسبة لكل المسلمين، ولقد تابع الفقهاء والمؤسسون بعض المجتهدين
والمفسرين القانونيين الذين نقحوا بالجهد المضني أمهات القضايا
الفقهية التي اهتم بها سلفهم الصالح، ومن خلال بلورة القانون
وإغلاق باب الإجتهاد ظهرت فكرة ساخرة مؤداها أنه في الوقت الذي
يصلح فيه القانون لكل المسائل نظرياً أخذ المسلمون بالنواحي
العملية للقانون المدني أو الدنيوي وتجاهلوا التعاليم المثالية
للشريعة، ولقد أبقى بعض الفقهاء وهم في برجهم العاجي بعيداً عن
المتطلبات العملية للبلاط على التقاليد الفقهية التي كانت _ومن سوء
الحظ_ غير ذات جدوى لاحتياجات المسلم العادي.
ولم يكن منصب القاضي أمراً يحسد عليه، إذ كثيراً ما كان القاضي
يتعرض للأذى والرفض أو القتل فيما لو قاوم تدخل الحكام أو
تعدياتهم، وليس غريباً أن يتردد العلماء في التخلي عن دروسهم
الفقهية للأخطاء المترتبة على نتائجها التطبيقية، كما كانت أسباب
التردد أكثر عمقاً من ذلك.
فالشريعة في نظر الفقه تمثل مثالاً دينياً يدرس لذاته أكثر من
إستخدامه كنظام قانوني عملي... وبسبب معرفتهم لزلاتهم والظروف
الواقعية في المجتمع ككل فإنهم يتخوفون من مسئولية تطبيق معتقداتهم
كقواعد قانونية".
ولقد أدرك الفقيه أن دوره هو إعطاء النصح للحاكم السياسي والقاضي
عليه أن يضطلع بمسئولية الأفعال القانونية، وبعيداً عن الواجبات
المباشرة للقانون كاهتمام عملي فإن الفقهاء يمكنهم أن يتابعوا
دراستهم الفقهية تاركين للقضاة المخاطرة بأرواحه. وبذلك كله يصبح
من السهل أن نفهم لماذا اعتبر السلفيون الممارسة القانونية كوسيلة
لإفساد خلقي. ولكن كان هنالك آخرين من الذين كانوا يخشون أو يؤدي
إنسحاب الفقهاء إلى كارثة أجتماعية فيقبلون منصب القضاء بكل ما
ينطوي عليه من شرور وعيوب.
------------------------------------------
المصدر : علم الاجتماع والاسلام