موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة القانون

التعزير على ارتكاب المعاصي
د : سامية حسن الساعاتي



التعزير لغة المنع والرد والتأديب والعقاب دون الحدود الشرعية، وكذلك التعظيم والتوقير، والعون والتقوية والنصرة. وهذه المعاني كلها متصل بعضها ببعض، إذ التعزير عقوبات غير القصاص والحدود، توقع على العصاة الذين لا يطيعون ما أمر الله به ولا ينتهون عما نهى عنه، فيما أنزله من شريعة للتعامل بين البشر، يجب أن تحظى بالتعظيم والتوقير، ما يعين المتقين منهم ويقويهم وينصرهم على شهواتهم، وما يرد من تسول لهم أنفسهم ارتكاب المعاصي، وهكذا يؤدي التعزير إلى منعهم من ارتكابها وردعهم عنها، بما يوقعه الحاكم القوي العزيز الجانب من عقوبات، يرى فيها قمع المعصية ومنعها من أن تنتشر.
والتعزير مجموعة عقوبات تتدرج من مجرد التوبيخ أو الزجر إلى الضرب والجلد والنفي، فضلاً عن التعويض المضاعف والغرامة الكبيرة. وعلى المعزر، فاضياً كان أو حاكماً، أن يراعي مكانة العاصي وظروفه وما اذا كان عصيانه أول مرة أو أنه قد تكرر، فيوقع العقوبة العادلة، التي يكون عدلها لا في مراعاة المساواة من حيث الشكل بل من حيث الوقع والأثر. فقد يكون تقريع شخص من صفوة القوم مساوياً في إيلامه النفسي لصفع شخص آخر ارتكب المعصية ذاتها، لكنه ممن لا ينفع معه التقريع. فيكون إيلام التقريع في الحالة الأولى مساوياً لإيلام الصفع. وذلك وفق التوجيه النبوي: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم).
ومن المعاصي التي تكون عقوبتها التعزير، ترويج الإشاعات المكذوبة والمحطة بالكرامة، وتحريض النساء والغلمان على الفسق، واقتناء الخمور والمخدرات أو الاتجار فيها، أو إغراء الناس على تعاطيها بشتى الوسائل، وغش السلع والموازين والمكاييل، وتزوير العملة المعدنية والورقية، والاتجار في السلع الفاسدة، وإخفاء السلع بقصد رفع أسعارها، واحتكار بيعها والتحكم في بيعها وأسعارها، واغتصاب أموال الناس نصباً، وأخذ الرشوة، وشهادة الزور، وإشاعة الفساد بين الناس، وعقد العقود المحرمة، واللواط والسحاق ووطء البهائم، والمماطلة في سداد الدين، والتعدي بالضرب، والقيادة الخاطئة للسيارات التي تخالف قواعد المرور، وحمل أو اقتناء أسلحة بدون ترخيص. ولكثرة المعاصي وتنوعها، يمكن تجميعها ووضع العقوبة المناسبة لها وسط الأحوال السائدة في المكان والزمان. وقد يكون من المصلحة العامة ما يستوجب (أن يسن ولي الأمر، بعد أن تقاصرت الهمم في الاجتهاد، قانوناً تعزيرياً لحماية الأموال والأخلاق والنظام، ويرتب فيه العقوبات على حسب مقدار الاعتداء على المصالح المعتبرة في الاسلام) ويذكر أن الخليفة عمر بن عبد العزيز همّ بأن يفعل ذلك، وتكون له مجموعة قانونية من الأحكام التعزيرية التي أفتى بها قضاة المدينة ومجتهدوها من الصحابة والتابعين، فينشرها على أنها قانون متبع في شكل سوابق قضي بها، وعلى القضاة الأخذ بها، ولكن المنية عاجلته وحالت بينه وبين تحقيق ما أراد. وحاول المحاولة نفسها من بعده الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، فطلب من الإمام مالك أن يجمع السنن لتكون قانوناً، ففعل الإمام تنفيذاً لطلبه، ولكنه نهاه هو ومَن تولى بعده عن اتخاذها قانوناً، (لأن أهل كل اقليم قد سبقت إليهم سنن عن الصحابة والتابعين، وألفوا السير على منهاجها والخضوع لأحكامها). وفي تسبيب هذا النهي اعتراف صريح، ولا شك، بأهمية الثقافة الفرعية السائدة في كل من المجتمعات المحلية.
والحق أن عقوبة التعزير التي صارت، منذ القرن السابع الميلادي، نوعاً ثالثاً من أنواع العقوبة في الفقه الاسلامي قد توافرت فيها مميزات العقوبة في العصر الحديث، من حيث مرونتها وأخذها في الاعتبار ظروف المجرم الاجتماعية، وظروفه الشخصية وقت ارتكاب الجريمة، ومراعاتها للعوامل التي تتطلب تخفيف العقوبة في بعض الأحوال وتدعو إلى تشديدها في أحوال أخرى، مع وضع مصلحة المجتمع والخير العام فيه وتجنيبه المفاسد موضع الاعتبار. ولذلك يمكن النظر إلى كثير مما في قوانين العقوبات الحديثة من مواد تتناول العقوبة على كثير من الجرائم، على أنها عقوبات تعزيرية، الأمر الذي يمهد الطريق إلى فرض التشريع الجنائي في جنايات القصاص والحدود، في ضوء التفسير السليم، الذي يراه صفوة المجتهدين، لنصوص القرآن الكريم والصحيح من السنة النبوية، وبالاستهداء بما تركه كبار الأئمة من نظرات وآراء، أغنت التراث الاسلامي في الشريعة والفقه، على الرغم مما فيها من اختلاف، إن دل على شيء فإنما يدل على ثراء الفكر الاسلامي وحرية التفكير ابتغاء التوصل إلى الحق والصواب. وفي ذلك يقول صبحي محمصاني، القانوني اللبناني المعروف: (ولا ريب في التعزير كان وسيلة مرنة للعمل، وفاقاً لمبادئ العدل وللمصلحة الاجتماعية العامة. ومن ثم كان أداة لتطوير الأحكام الاجتهادية وتعديلها، وفق الحاجات والأحوال، بطريق الاستحسان والمصالح المرسلة).
ومما هو جدير بالذكر أن وضع ظروف الجاني الكلية، الجسمية والنفسية والاجتماعية، كما هي الحال في التعزير، في موضع الاعتبار عند تقرير العقوبة التي توقع عليه، على أساس من الردع لنزعاته الشريرة والشحذ لضميره الأخلاقي والقمع للإجرام في المجتمع، محور من محاور فلسفة الدفاع الاجتماعي، التي كان لها ولا يزال تأثير قوي في فلسفة العقاب، في العصور القديمة والوسطى والحديثة، التي كان لبعض فلاسفة اليونان كأرسطو وأفلاطون وسقراط، كما كان لكل من (فولتير) و(منتسكيو) الفرنسيين و(جن هورد) الانجليزي و(بكاريا) الإيطالي، تنظيرات فريدة فيها وإن كانت غير متفقة. ويمثل المحامي الإيطالي (فليبو جراماتكا) الجناح المتطرف للدفاع الاجتماعي في العصر الحاضر، إذ نادى بالعناية بشخص الجاني، من وجهة نظر قانون العقوبات، لتقويمه وتأهيله للتكيف مع الحياة الاجتماعية، وذلك على أساس التقدير الشخصي والنفسي والاجتماعي لحالته، الأمر الذي يوجب تغيير التدابير العقابية تغييراً كبيراً، وفق ظروف كل فاعل فعل يعد خارجاً على القانون الوضعي.
وفي ضوء ما تقدم، نرى أنه من الممكن الربط بين الأحوال الاجتماعية في الاطار الثقافي وبين الأحكام الشرعية الجنائية في اليهودية والنصرانية والاسلام، في محاولة تنظيرية اجتماعية جناية. فالمعروف أن اليهود كانوا بدواً يمضون حياتهم في جماعات قبلية بين حل وارتحال. ونزلت أحكام التوراة لهم وهم يتنقلون في برية سيناء، لتنظيم علاقاتهم في مجموعات أسرهم الممتدة الكثيرة الأفراد، المترابطة والمتعاونة في رعاية أب أكبر، ولتنظم علاقات الأسر بعضها ببعض في دائرة القبيلة، ثم لتحديد علاقات القبائل بعضها ببعض، في أزمنة ساد فيها النزاع بين الأسرة في القبيلة الواحدة، إن لم يكن بين الأخ وأخيه، كما حدث بين يعقوب وعيسو، وبين أبناء يعقوب أنفسهم، وكثرت فيها الغارات الخاطفة والحروب بين القبائل اليهودية والكنعانية. في هذا الاطار البدوي، يجب تدبر وضع كل من المرأة والرجل والأطفال، ومدى حماية المجموعة والجماعة لكل منهم في وقت الرخاء والشدة، وأنواع الجرائم التي يكثر ارتكابها، وخطورة كل نوع منها، ودور العرف البدوي في مكافحتها، ثم وظيفة الشريعة التي حلت محل العرف، وتأثيرها في قمع الجريمة وردع ذوي النفوس الشريرة.
وعندما أخذ اليهود يستقرون بعد غربة في أرض فلسطين مع أهلها الكنعانيين، ويتعلمون منهم زراعة الخضر والفاكهة، ويحصلون ثروات كبيرة من الجمع بين حياة البادية الرعوية المتنقلة وبين حياتها الزراعية المستقرة، بشر فيهم الرسول عيسى (ع) بالنصرانية، التي كانت أحكامها تخفيفاً لأحكام التوراة وتكميلاً وتبياناً لما كانوا قد اختلفوا فيه. وفي هذا الاطار من الحياة المتغيرة التي أثرت في أخلاق بني إسرائيل ومعاملاتهم، تحولت أوضاع النساء والرجال والأطفال، وتغيرت القيم والعادات والتقاليد، الأمر الذي انعكس على النظم الاجتماعية، وعرضها لألوان من الاختلال ظهر في انحرافات سلوكية، أي جرائم تطلبت، في الاطار الاجتماعي الاستقراري الزراعي الجديد، معالجة تناسبها. وهذا ما تكفلت به شريعة الانجيل.
أما شريعة الاسلام فدعا بها محمد عليه الصلاة والسلام، في اطار حضري، في مكة أم القرى، البلد الأمين الذي كان أهله يعيشون على الرعي واستقبال حجاج البيت الحرام وعلى التجارة والرحلة لها، صيفاً شمالاً إلى الشام وشتاء جنوباً إلى اليمن، وحول مكة أعراب البادية من كل جانب. في هذا الاطار الاجتماعي المركب في الثقافتين، البدوية والتجارية، وتحت وطأة اتصالاته الخارجية مع أقوام أخرى ذات ثقافات مختلفة، وما نجم عن ذلك من احتكاك ثقافي وعلاقات متعددة الأبعاد، نزلت الشريعة الاسلامية لتغير من أوضاع الرجال والنساء والأطفال، وتواجه ألواناً راسخة من القيم والعادات والتقاليد، فتبدلها وتضع للمجتمع نظماً جديدة، تضبط سلوك الناس وتقوم انحرافاتهما وتقمع جناياتهم، بعقوبات محددة قصاصاً وحدوداً ومكيفة تعزيراً، وفق ما تتطلبه الأحوال المتطورة في مكة والمدينة والبلاد العربية الأخرى.
*المصدر : الجريمة والمجتمع


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة القانون