إنّ من أسباب ظهور هذا العلم هي لتوضيح معاني
آيات القرآن الكريم باعتباره نصاً مقدساً ذا طبيعة خاصة، فهو ((نص
ميثي غزير المعاني قصصي البنية رمزي المقاصد))، كما ذهب أحد
الدارسين. وبرغم قدسيته، اختلف المفسرون في تفسيراتهم باختلاف درجة
ونوعية ثقافاتهم. هذا فضلاً عن وضعيتهم الاجتماعية وانتماءاتهم
المذهبية والسياسية، إذ عكست تلك التفسيرات مواقف السلطة الحاكمة
وقوى المعارضة. فالسلطة الثيوقراطية المحافظة حاولت دعم مواقفها
باديولوجية مستمدة من القرآن، والمعارضة عولت على نفس الغاية. هذا
فضلاً عن الهدف التشريعي الذي يعد القرآن مصدره الأول والذي دفع
الاتجاه النصي النقلي في التفسير إلى استخدام العقل لتبرير النقل،
خصوصاً وأن الكثير من الأحكام كانت تحتاج إلى الاستنباط.
أما الاتجاه العقلي في التفسير، فقد وظف أصحابه العقل بدرجة تصل
إلى حد ((التأويل))، وذلك يتسق مع طموحات قوى المعارضة التي
استهدفت تغيير ((الأمر الواقع)). وهذا يفسر لماذا أسرف بعض مفسريها
في توظيف تلك الأداة إلى حد الشطط أحياناً.
بوجه عام، يمكن تحديد اتجاهات التفسير في هذا العصر على النحو
التالي:
أولاً: اتجاه نصي محافظ غَلَّب النقل على العقل والرواية على
الدراية والإتباع على الإبداع، قدر له أن يسود خلال ((قرن
الإقطاعية))، وأن يخفت صوته خلال القرن التالي الذي شهد ((صحوة
بورجوازية)).
ثانياً: اتجاه عقلاني ليبرالي منفتح، تقلص إبان القرن الأول من عصر
الازدهار، وتعاظم خلال القرن التالي.
ثالثاً: اتجاه محايد رافض للاتجاهين السابقين إلى حد ((الوقف))،
عزف عن دخول معترك الصراع الفكري ـ ومن ثم السياسي ـ الدائر في
الساحة.
بالنسبة للاتجاه الأول، نلاحظ أنه غلَب في العالم الإسلامي بمشرقه
ومغربه إبان ((مرحلة الإقطاعية)) ممثلاً في مفسرين نقليين يرفضون
((التأويل)) ويعولون على تفسيرات السلف.
خفت صوت أصحاب هذا الاتجاه إبان ((مرحلة الصحوة البورجوازية))، حيث
تقلصت أعداد المفسرين الممثلين لهذا الاتجاه. منهم في الشرق
الإسلامي أبو زيد البلخي (ت 322هـ ) الذي اعتمد في تفسيره على
المدلولات الظاهرة لآي القرآن الكريم. يفهم ذلك من تفسيره ((نظم
القرآن))، وتصنيفه كتاباً للرد على القائلين بالتأويل.
أما في الغرب الإسلامي، فإن مفسري هذا الاتجاه ما عادوا يتبوؤن
مكانتهم السامية التي حازوها في قرن الإقطاعية، بل عزف الناس عنهم
وعن تفسيراتهم النقلية، كما هو الحال بالنسبة لتفاسير ابن مماس (ت
356هـ ). وهو أمر حدا بالمفسرين النقليين ـ من أتباع مذهب مالك
الذي مال إلى الرأي والقياس في قرن الصحوة ـ إلى أن يخففوا من غلو
نصيتهم وأن يجاروا رياح البورجوازية ويعولون على العقل. من هؤلاء
بقي بن مخلد (ت 272هـ ) الذي رغم رحلته إلى الشرق ودرسه على فقهاء
مالكية وشافعية وأحناف، اتبع في تفسيره منهجاً خاصاً يستند إلى
((رأيه الخاص)) باركه الأمير محمد الأموي ونهى فقهاء ومفسري
المالكية عن التعرض له.
أما عن المفسرين من الأحناف، فبرغم تعويل مذهبهم على الرأي، إلا
أنهم في ((عصر الإقطاعية)) تنكروا له. يظهر ذلك جلياً فيما كتبه
السمرقندي ـ الفقيه والمفسر الحنفي ـ عن تسفيه الاجتهاد والقول
بالرأي. بل كتب فقهاء وعلماء السنة بوجه عام ـ في هذا العصر ـ
كتابات تصادر على الرأي والنظر وروجوا لأحاديث تبرر مسلكهم.
فيما يتعلق بالاتجاه العقلاني في التفسير، فقد حورب في قرن
الإقطاعية، لكنه راج في القرن التالي برغم معارضة بعض الفقهاء
والمفسرين النصيين وخصوصاً الحنابلة. وكان مفسرو المعارضة من
الشيعة والمعتزلة والمتصوفة يمثلون هذا الاتجاه القائل
((بالتأويل)).
ففي الشرق الإسلامي، ذاع صيت تفسير الطبري (ت 310هـ ) الذي جمع بين
الرواية والدراية، لا لشيء إلا لخوفه من الحنابلة. إذ نعلم أنه كان
منحازاً إلى الرأي انحيازاً كاملاً رافضاً اعتبار الأخذ به بدعة،
مبرراً ذلك بنصوص تاريخية يستفاد منها أخذ بعض الصحابة بالرأي كعمر
بن الخطاب وعبدالله بن مسعود.
بلغ التعويل على الرأي في التفسير ذراه على يد المعتزلة. لذلك بارت
بضاعتهم في قرن الإقطاعية. فبرغم كثرة ما صنف مفسروهم من كتب
التفسير لم يصل إلينا شيء منها. لقد حوربوا واضطهدوا، وجرى التشكيك
في تفاسيرهم.
أما في عصر الصحوة البورجوازة ـ خصوصاً في ظل حكم بني بويه
الزيديين الاعتزاليين ـ فقد راجت تفاسير المعتزلة. من أشهرها تفسير
الزمخشري ـ ((الأساس)) ـ الذي عول فيه على العقل، مفرقاً بين
الحقيقة والمجاز. ساعده على ذلك تبحره في علوم اللغة وتعمقه في
مذهب المعتزلة. فأول الآيات المتعلقة بأصول الاعتزال الخمسة، وكل
ما يتعلق بالتجسيم وآيات الجن تأويلاً عقلانياً مقنعاً ينم عن طول
باع وسعة اطلاع وعقل فذ. لذلك كان تفسيره موضع تقدير المعتزلة
والشيعة على السواء.
من مفسري المعتزلة المرموقين أيضاً، علي بن عيسى الرماني (ت 385هـ
)، وهو عالم بالكلام والفقه واللغة، قدم تفسيراً للقرآن الكريم
اعتمد فيه الرأي منهجاً. وعلى نفس المنهج ألف أبو بكر النقاش
المعتزلي (ت 351هـ ) تفسيراً مفصلاً غزير المادة يقع في عشرة آلاف
ورقة. كما ألف عبدالسلام القزويني ـ شيخ معتزلة بغداد ـ تفسيراً
يفوقه تفصيلاً. ومن أسف أن معظم هذه التفاسير قد أبيدت خلال العصور
التالية التي أجهز فيها على الاعتزال والمعتزلة.
وعلى غرار تفاسير المعتزلة، نهج مفسرو الشيعة والمتصوفة، إذ عولوا
على الرأي ووصلوا بالتأويل إلى درجته القصوى. لقد بالغ مفسرو
الشيعة في التأويل خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بحق العلويين في
الإمامة، وأسرفوا إلى حد الشطط أحياناً في تأويل آيات نسبوا أسباب
نزولها لتمجيد أئمتهم. لكن هذه التفسيرات لا تخلو من عقلانية واضحة
في بقية آيات القرآن الكريم.
وصل الصراع بين الاتجاهين السابقين في التفسير إلى حد الدمغ بالكفر
والمروق. ولما كان أصحاب الاتجاه النقلي مغلولين سياسياً
واجتماعياً في ((عصر الصحوة البورجوازية))، لجأوا إلى تأليب العوام
ضد الشيعة والمعتزلة والصوفية. كما أن إسراف أصحاب الاتجاه الأول
في النقل والأثر، ومفسرو الاتجاه الثاني في التأويل إلى حد الشطط
أحياناً، حدا نفراً منه المفسرين المتدينين ـ غير المتأدلجين ـ إلى
رفض الاتجاهين معاً.
انقسم هؤلاء المفسرون المحايدون إلى تيارين، أحدهما توفيقي يجمع في
التفسير بين الرواية والدراية، لم يقدر لبضاعته الرواج. والآخر عرف
أتباعه بأصحاب ((التفسير بالوقف)). كما انقسم هؤلاء بدورهم إلى
شعبتين، الأولى أحجمت تماماً عن التفسير، تأسيساً على وضوح معاني
آيات القرآن الكريم لمن يتفهم أصول العربية. لذلك ((توقفوا)) كلية
عن تفسيرها لدلالتها الظاهرية، وهؤلاء هم أتباع ((المذهب الظاهري))
الذي سنعرض له في موضوع ((علم الفقه)). أما الثانية ((فتوقفت)) فقط
عن تفسير ((المتشابهات))، كالآيات التي توحي بالجبر، أو الأخرى
التي توحي بالاختيار. من أشهر أصحاب هذه الشعبة عبدالله بن الحسن
الأنباري. لكن المذهب الظاهري حين تطور بفضل جهود ابن حزم، أوجد
حلاً لتلك الإشكالية، حين ذهب إلى أن بيان القرآن فيه قسم بيّن
بنفسه، وآخر يحتاج إلى بيان وبيانه في القرآن نفسه، وقسم يحتاج إلى
بيان وبيانه في السنة. وأن الاشتباه يمكن حسمه بالاستناد إلى ما
أسماه ((الدليل)) وهو ـ في نظره ـ العقل والاعتبارات المنطقية.
إن ترجيح ابن حزم للأخذ ((بالدليل)) على تأثير المد الليبرالي
العقلاني في المذهب الظاهري، وإن بلورة مذهبه على هذا النحو واتباع
نهج خاص يخالف نهج الاتجاه النقلي ونهج الاتجاه العقلي في التفسير
لأنه كان يضمر موقفاً سياسياً مناوئاً للعباسيين والفاطميين، لدليل
ناصع على تأثير الواقع السوسيو ـ سياسي في صياغة الفكر، حتى لو
تعلق الأمر بتفسير القرآن الكريم.
خلاصة القول ـ أن علم التفسير باتجاهاته وتياراته المختلفة
والمتصارعة كان يعكس في جزره ومده معطيات الواقع السوسيو ـ سياسي
في العالم الإسلامي خلال الفترة ما بين منتصف القرن الثالث ومنتصف
القرن الخامس الهجريين.