موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
علوم القرآن والتفاسير

د. عفت محمد الشرقاوي
التفسير ومشكلات السياسة

ارتبطت أحياناً بتفسير النص القرآني منذ وقت مبكر، بعض النزعات السياسية، التي تنتصر لحزب دون آخر، ذلك أن بعض المفسرين حاولوا أن يجدوا ما يؤيد نحلتهم السياسية ثابتاً في القرآن.
وفي العصر الحديث قد نجد أيضاً ربطاً واضحاً بين تفسير النص والفكرة السياسية. نرى في الجهود الحديثة ما يسمو على هذا الخلاف الداخلي ليمثل وحدة أصيلة في مواجهة القضية السياسية.
لذلك فقد كان نشاط المفسرين نحو التوجيه السياسي في التفسير الحديث نشاطاً محموداً بصفة عامة، فقد أدى المفسرون في كثير من البلاد الإسلامية دوراً كبيراً في تمثل القضية الوطنية، والتعبير عن موقف الإسلام من مشكلاتها المختلفة.
لم يكن غريباً على الفكر الإسلامي أن يدعم الداعي موقفه بنصوص قرآنية فقد عرفنا قديماً أن النص المقدس كان أساساً قوياً يحاول كل ذي اتجاه أن يثبت مسايرته له، ولكن طبيعة الكفاح كانت تتلون بحسب طبيعة موجات الهجوم فهي تارة كلامية وتارة فلسفية وتارة غير ذلك، وهي في كل ذلك كانت تستعين بالنص على ما يسعف في المعركة، وكانت غالباً ما تسمو إلى تجريد ذهني لما يعرض من مشكلات، بحيث ظل الصراع فكرياً دائماً، أما في العصر الحديث، فإن جهود المفسرين من أصحاب هذا الاتجاه تميل إلى التطبيق العملي ومواجهة أكبر قطاع من جماهير الأمة، وهو اتجاه أدرك المحدثون قيمته حين عرفوا أن ضعف اهتداء الناس بالقرآن في عصر الانحلال، لم يكن إلا نتيجة لخلو تفسيره من تطبيق عقائده وأحكامه على أحوال الناس ولذلك فإننا قد نجد بين المحدثين مَن يشغله غرضه التوجيهي عن تفصيل بياني أو لغوي لكلمات النص. وقد تنبه بعض الباحثين إلى أن الجهاد المتصل في سبيل الحرية هو الطابع الغالب على الفكر العربي المعاصر آياً كان لونه، وأنه أول ما يستوقف النظر في إنتاج الأدباء المحدثين، وهو تصور صادق للسمة العامة التي غلبت على كل عمل فكري في العصر الحديث، فهنا في ميدان التفسير نجد بين المفسرين مَن يواكب هذا التيار العام بل يكون رائداً له، وبذلك نستطيع أن نقول: إن حركة التفسير الحديثة لعبت دوراً هاماً في تقويم الوعي السياسي من وجهة النظر الإسلامية، وفي استلهام النص المقدس ما يبعث في الناس حمية الكفاح من أجل الحق والعدل.
كان جمال الدين يؤمن بضرورة الدين للمجتمع، فهو مهما كانت درجته بين الأديان ((أفضل من طريق الدهر بين وأحسن بالمدينة ونظام الجماعة الإنسانية، وأجمل أثراً في عقد روابط المعاملات))، لأنه يكفل للمجتمع الإنساني فضيلة الأمانة والصدق وشرف الهمة))، ولذلك كان جمال الدين يرى في القرآن وسيلة كبرى لتوجيه كفاح المسلمين ضد الأجنبي ((وما دام القرآن يتلى بينهم، وفي آياته ما لا ذهب على أفهام قارئيه، فلن يستطيع الدهر أن يذلهم)).
إن وقفات أغلب المفسرين عند قضية الجهاد الوطني في سبيل الاستقلال كانت تأخذ طابعاً نظرياً عاماً، فلا تكاد تتجاوز أقوالهم في ذلك وجوب النفير العام حين الدعوة إليه، والتنفير من القعود عن القتال والتقصير في الاستعداد له. ولقد يبدو أن هذا هو المنهج الذي استنه محمد عبده، واختاره كثير من المفسرين العرب من بعده. ومع ذلك فقد كانت جولاتهم في سبيل الإصلاح الاجتماعي والتربية السياسية الوطنية سبيلاً حقيقية نحو تطوير الأمة لتنطلق فيها بعد ذلك ثورات التحرر المختلفة مبتدئة بالثورة المصرية عام 1952.
لقد اقتضى الموقف السياسي من جانب المفكرين المسلمين معاودة النظر في مسألة نظام الحكم في الدول الإسلامية.
فكان من المسائل الرئيسية التي شغلت جانباً من جهود المفسرين المحدثين، ما يثار في مناسبات مختلفة حول مسألة نظام الحكم، وهي معضلة قديمة قامت وراء كل انقسام نذكره في الإسلام، ولكنها لقيت في العصر الحديث اهتماماً جديداً، بعد أن زاد اتصالنا بالغرب، وازداد تأثرنا بكثير من مفهوماته حول نظم الحكم، وبعد أن سقطت الامبراطورية العثمانية حوالي سنة 1920 وما زعم حين ذاك من تعارض نظام الخلافة مع التطور الحديث الذي أخذت به أوربا.
هذه بعض الدوافع التي أدارت الكلام في الخلافة ومناقشة صلاحيتها في أن تكون نظاماً مثالياً للحكم في العصر الحديث، ولقد يكون من العسير أن ينتهي الباحث إلى تحديد واضح تلتقي عنده الحلول المقترحة التي قدمها الدارسون في هذا الصدد، فثمة عديد من الآثار والنظم تجري في أعمال المحدثين عند كلامهم عن مسألة نظام الحكم، ولا يكاد يدركها حصر دقيق، ومع ذلك فإن محاولة موجزة لتجميع الخطوط الرئيسية التي تشكل أوضح الاتجاهات، فقد تفيد في هذا المقام.
ولقد يبدو أن الصراع الأيديولوجي الحاد، بين ما يمكن أن يسمى بالوطنية الروحية والوطنية القومية، كان العامل الرئيسي الذي تحددت على أساسه معالم أوضح اتجاهين بارزين في الفكر الحديث. ولنبدأ بالاتجاه الثاني الذي اتخذ طابعاً علمانياً، وكان أصحابه أكثر صلة وأعمق تأثراً بالحضارة الغربية. وكان لهذا الاتجاه رواد يختلفون قرباً وبعداً من الفكرة الإسلامية، ولكنهم يلتقون عند عقيدة أولية تجمعهم، وهي أن نظام الخلافة لم يعد بأي حال نظاماً صالحاً للحكم في العصر الحديث، بل يجب أن يعدل عنه إلى نمط أوربي مناسب.
وكان من رواد هذا الاتجاه الدكتور (لطفي السيد) فقد أشار في مقالاته إلى أن الوطنية الحقيقية لا تقوم على وهم التعلق بالجامعة الإسلامية أو الرابطة العثمانية، والدكتور (طه حسين) الذي نصح بضرورة الالتزام بالمنهج الأوربي في الحكم، والشيخ علي عبدالرازق الذي أعلن أن نظام الحكم في الإسلام ليس نظاماً ثيوقراطياً، فليس في نصوصه ما يقضي بأن تكون الهيئة السياسية الحاكمة من رجال الدين، بل إن النبي (ص)، لم يكن ملكاً ولا مؤسس دولة ولا داعياً إلى ملك، وإنما كان رسولاً كإخوانه السابقين من الرسل وكان أيضاً من رواد هذا الاتجاه في مصر مع المبالغة في التطرف آخرون لا ينتمون إلى جماعة المفكرين المسلمين من أمثال سلامة موسى الذي نعى على المصريين أن يعيشوا مترددين بين الشرق والغرب، فعلى حين تنتظم حكومتهم على الأساليب الأوربية، يوجد في وسطها أجسام شرقية مثل وزارة الأوقاف والمحاكم الشرعية مما يؤخر تقدم البلاد في زعمه. هؤلاء بعض الذين أيدوا النزعة العلمانية في مناقشة مسألة الحكم، وقد تتباعد بينهم شقه الخلاف في قضايا كثيرة، ولكنهم يلتقون عند التأثر بالنمط الغربي في الحكم وينادون باتخاذ منهجه مثلاً يحتذى، على تفاوت في درجة تحمسهم للحضارة الغربية.
أما الاتجاه الأول فقد أخذ طابعاً سلفياً على تفاوت مماثل في درجة تحمس رواده للنمط المأثور، فالشيخ ((محمد عبده)) يرى أن الدولة هي محاولة لوضع مبادئ الله المثالية في أشكال مكانية زمانية، فالدولة تتطلع إلى تحقيق هذه المبادئ في تنظيمات إنسانية محددة. وهو يؤكد أن الإسلام ثيوقراطي بهذا المعنى وحده، لا بمعنى أن على رأسه دائماً خليفة لله على الأرض معصوماً، فالحاكم البشري عرضة دائماً، لأن يخفي إرادته المطلقة وراء ستار عصمته المدعاة أما الشيخ (رشيد رضا) فإن نظام الخلافة القديم لا يزال في رأيه هو النظام الأمثل، بشرط أن يقوم على الشورى، وأن يكون للخليفة أو الإمام حق القيام على تنفيذ الشريعة، وأن يكون للأمة حقها المطلق في اختيار خليفتها وعزله، وأما الشيخ (حسن البنا) فقد نادى بأن الإسلام دين دولة، وكان يعتقدان نظام الخلافة شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها، والاهتمام بها، لأن القرآن هو الدستور الذي يجب أن تحكم به الدولة ولكن جماعته ما لبث بعض أفرادها أن انحرفوا عن سواء السبيل فأدي تعصبهم إلى ضعفها ونهايتها، ثم نجد بعد ذلك تمثلاً أكثر تحرراً وأوسع أفقاً في فهم العلاقة بين الدين والسياسة عند الدكتور البهي الذي يؤكد أيضاً أن القرآن دستور الجماعة الإسلامية في قيامها وتكوينها، ولكنه لا ينزاق إلى تصوير الخلافة القالب الإسلامي الوحيد لنظام الحكم، فليس بين جهوده ما يدل على ذلك، وإنما يحاول الدكتور البهي أن يؤكد أن الإسلام دين ودولة عن طريق تقديم النصوص القرآنية مبيناً أن تصريح فريق بأن الإسلام دين لا دولة، يقصر الإسلام على الأفراد دون الجماعة.
ومن هنا يبدو التطور الواضح الذي طرأ على مسألة العلاقة بين الدين والسياسة داخل الاتجاه السلفي نفسه، فلقد كان الشيخ حسن البنا يتحرك داخل إطار معين من نظام الحكم أصبح غايته، وهو إطار شكلته ظروف التاريخ المختلفة، أعني نظام الخلافة، أما الدكتور البهي، فإنه يجول خلال النصوص القرآنية نفسها، وهي تعطي الخلافة قيماً أصيلة ولكنها لا تفرض شكلاً معيناً، ومن أجل ذلك فإننا لا نجد خلال دراسته الطويلة للفكر الإسلام الحديث دعوة إلى نظام الخلافة أو تمسكاً مطلقاً بها كما نجد عند بعض السلفيين، مع أن قضية العلاقة بين الدين والدولة قضية رئيسية في مؤلفاته.
هذان الاتجاهان المتناقضان في تصور طبيعة العلاقة بين الدين والدولة هما الخطان الرئيسيان في الفكر الحديث، وكلاهما في رأيي رد فعل ناشئ عن التوسع في التأثر بالثقافة الغربية والحضارة الحديثة، فالذين نادوا بفصل الدين عن الدولة ((مدعين أن السياسة شيء والدين شيء آخر))، والذين أكدوا أن الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية وإنما هي من الخطط السياسية الصرفة، كل أولئك كانوا في الحقيقة واقعين تحت تأثير الفهم الغربي لطبيعة العلاقة بين الدين والدولة، وهي علاقة قامت على الصراع والاستئثار بالنفوذ خلال عصور طويلة، انتهت أخيراً بالفصل التام بين سلطة الدين وسلطة الدولة.
أما أصحاب الاتجاه السلفي فقد كان تأثرهم بأصداء هذا الصراع تأثراً عكسياً، أدى ببعضهم أحياناً إلى التمسك بنمط معين، من أنماط الحكم والتعصب له دون أن يكون في النصوص القرآنية والنبوية ما يحدده تحديداً جامداً.
على أن المصالحة المثلى بين هذين التيارين المتناقضين تنهض في يسر، إذا تمثلنا حقيقة النصوص الدينية التي تصور طبيعة الحكم، ذلك أنها لا تقدم نمطاً دستورياً معيناً، توجب التزامه، وإنما تصور مبادئ أساسية عامة يمكن في ظلها أن يقيم المسلمون قواعد حكومتهم ونظام دلتهم. وإذا كان الإسلام لا يقتصر على تنظيم علاقة الإنسان بربه، بل يتغلغل إلى تنظيم علاقة الإنسان بمجتمعه في كل مجالات الحياة، وهي علاقة تتجدد ملابساتها باختلاف الزمان والمكان، فإنما يتم له هذا التنظيم الدقيق عن طريق النصوص التي تصور قواعد عامة، تجعل منه دين الفطرة الذي يساير كل مطلوبات الإنسان دائماًن وبهذا يحتفظ المسلمون بالقدرة على التطور لملاحقة ركب الزمن.
لقد أقر القرآن فكرة الدولة والسلطان وأقر استمرار مهمة الدولة والسلطان بعد النبي (ص)، وبين الصفات التي يجب أن يتصف بها أولو الأمر من المسلمين، وما يجب لهم وما يجب عليهم، ولكن القرآن لا يتضمن شكل الدولة. وليس من التجاوز أن يقال إن هذا قد ترك لأولى الحل والعقد والشأن من المسلمين، يسيرون فيه وفق ما يرون فيه من المصلحة العامة، ولكن مما يصح أن يقال إن أحسن الأشكال في رئاسة الدولة في الإسلام هذا الشكل الذي كان على عهد الخلفاء الراشدين، لأنهم أشد لصوقاً بسيرة النبي (ص) وتوجيهه وأكثر فهماً للقرآن وتلقينه، أي جمهور، طيلة الحياة، يختار رئيسه ممن توافرت فيهم الشروط الصفات التي ينص عليها القرآن. وهكذا لا يحدد القرآن أعمال الدولة ولا تشكيلاتها لحكمة سامية فقد ترك الأمر لأولي الأمر والحل والعقد، لينشئوا دوائر للدولة حسب ما يرونه ضرورياً للمصلحة العامة في ظروفهم المختلفة، ابتداعاً واقتباساً. وإذا كانت الخلافة هي النمط الذي حقق أحياناً بعض القيم القرآنية الأساسية في مجتمعنا قديماً فليست هي وحدها نظام الحكم الوحيد الكفيل بتحقيق هذه القيم دائماً، فلقد تنهض ظروف، وتجد ملابسات وأحداث، تشكل نمطاً من الحكم جديداً على المسلمين ي شكله، ولكنه قد يمثل مع ذلك جوهر الفكرة الإسلامية الأصيلة في الدولة.
ولذلك فإن ابن باديس يصرح بأن إلغاء الأتراك للخلافة يعد إزالة لرمز خيالي فتن به المسلمون لغير جدوى، ولقد حاولت الدول الاستعمارية أن تستغل هذه الفتنة به في السيطرة على المسلمين، ولكنها باءت بالفشل في كل محاولاتها. ولقد أمكن أن يتولى هذا المنصب شخص واحد في صدر الإسلام وزمناً بعده ـ على فرقة واضطراب ـ ثم قضت الضرورة بتعدده في الشرق والغرب. ثم انسلخ عن معناه الأصلي وبقى رمزاً ظاهرياً تقديسياً ليس من أوضاع الإسلام في شيء، ((فكفى غروراً وانخداعاً، فإن الأمم الإسلامية اليوم ـ حتى المستعبدة منها ـ أصبحت لا تخدعها هذه التهاويل)).
وهكذا لا يشترط لتحقيق الفكرة الإسلامية في الحكم وجود نظام الخلافة في رأي كثير من المفسرين. على أنه ليس المقصود بالفكرة الإسلامية هنا سلطة إلهية تعطي لطبقة الكهنة المعينين باسم الله، لأنهم يشغلون مركزاً خاصاً بوصفهم وزراء لله تعالى، فإن هذه النظرية في الحكم غريبة على الأمة العربية فضلاً عن غرابتها على الإسلام الذي لا يسمح بأي نوع من الرهبانية، ولكن المبادئ التي أعلنها الإسلام في تنظيم الحياة كفيلة بنشر لواء السلام والتسامح والخير والبر في عالم تسيطر عليه الأنانية الضيقة والتزاحم الفاسد والطمع الأعمى، وهي المبادئ التي تجعل للإسلام فلسفته الخاصة المتميزة في الميدان السياسي وتحميه من الاندفاع لتقليد ((الأشكال الشيوعية، أو النظرية السياسية الغربية التي تتجه إلى الفردية الذرية)).
إن المسلم لا يستطيع أن يندمج اندماجاً كاملاً في بناء جماعي قاهر مثل البناء الشيوعي ((لأن الإسلام يعترف بالقيمة الذاتية للأفراد باعتبارهم مدينين بوجودهم لله ومسئولين أمامه عن أعمالهم))، وهو في نفس الوقت يفقد الشعور بالانتماء إلى كل أكبر يجمع إخوته في الإيمان إذا هو آثر النمط الغربي الذي ينزع إلى الفردية، لأن ((الأخوة في الإسلام تهب قوة وأمناً ومجالاً من الوعي المشترك)).
من أجل ذلك فإن الفكرة الإسلامية في الحكم تختلف تماماً عن أي نظام أجنبي، وهي فكرة مرنة متحركة غير جامدة تقبل التطور والتجديد على حسب مقتضيات العصر وحاجاته، ومن مرونتها أنها لا تتحدد نهائياً بنص فقهي مستنبط من القرآن والسنة. وجملة ما يقال فيها ((إنها هي الحكومة لمصلحة المحكومين، لا مصلحة الحاكمين، يطاع الحاكم ما أطاع الله، فإن لم يطعه، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) وأساسها الأمانة والعدل، وقاعدتها الأصلية الشورى الشورى، وعليها نبني حكومتنا ونقيم دولتنا.
وفي بيان هذه القواعد يفصل بعض المفسرين القول، فيلاحظ صاحب المنار أن الشورى الإسلامية أقرب إلى الصواب من شورى الحكومات الغربية، فإذا كانت الحكومات الغربية توجب العمل برأي الأكثر عند الاختلاف، فإن ما نحتلف فيه نرده إلى الكتاب والسنة، ونعرضه على أصولهما وقواعدهما، ذلك أن الأكثرية لا تستلزم الحقية والإصابة في الحكم ولا هي بالتي تطمئن الأمة إلى رأيها. وهكذا يحقق نظام الشورى الإسلامية كل أركان حكم الأمة، ولكن لا يفهم من هذا بداهة أن الأمر فيها لكثرة العدد، أو للطبقة الكثيرة بين سائر الطبقات، لأن القرآن الكريم قد تكررت فيه الآيات التي تنص على أن الرأي والفضل والذمة والعلم ليست من صفات أكثر الناس على التعميم، وبهذا تقع تبعات الحكم على الأمة بجميع عناصرها، ترجع الشورى لأهل الشورى، وهي لا تكون لغير ذي رأي أو ذي حكمة)). ولم يجعل الإسلام الشورى مسألة امتياز يقوم على الوراثة والجاه وعلو المنزلة الاجتماعية، فقد تغاضى الإسلام عن الأشراف وأصحاب الامتيازات ولم يهتم إلا بمن يخافون الله اكثر من غيرهم ويعملون صالحاً.
بمثل هذه المبادئ الجليلة التي شرعها الإسلام في التنظيم السياسي للمجتمع يشيد المفسرون المحدثون، ولكنهم لا يلتقون عند شكل معين للحكم ينادون به لأنهم يلتزمون هذه الأصول العامة التي صورها القرآن. نجد من ذلك مثلاً ((طنطاوي جوهري)) مجيباً عن سؤال تقليدي كان يتردد حينئذ عن السبيل لرقي المسلمين، يقول الشيخ ((السبيل أن تعدل الأمة عن النظام الحالي فإن كل مصيبة حلت بالأمة نتجت من جهل الملوك والأمراء وعدم اقتناعهم بالشورى، فمتى مات الأمير وخلف الملك لولد غير رشيد ضاعت الدولة، فهي أبداً تبع الأمير جهلاً وعلماً، فلا سبيل لرقي الشرق إلا أن يكون النظام في الملك بقانون مسنون، وأن يكون هناك مجلس له الكلمة النافذة، وأن يقيد الملوك كما قيد ملك الإنجليز بحيث يكون الأمر لأهل الحل والعقد)). أما الشيخ محمد عبده فيذكر من أسباب حفظ الأمة ((الاتحاد، وعدم الاعتماد على الأجنبي، والشورى)).
وإلى جانب كلام المفسرين في قضية الصراع ضد الأجنبي ومشكلة نظام الحكم نجد قضية الوحدة التي أثارتها قضية الخلافة. ومن المرعوف أن المسلمين يتطلعون منذ فجر الإسلام إلى وحدة حقيقية تجمع شملهم، وتحقق أملهم. وقد كان يتحقق لهم بعض ما يريدون ردحاً من الزمن، ثم تجد ملابسات وأحداث مختلفة تمزق الإطار الظاهري لهذه الوحدة، ويبقى للأمة الإسلامية في أعماق ضميرها حنين زاخر إلى وحدتها الحقيقية.
ولقد ورثت الأمة العربية هذا الشعور الصادق بالوحدة بعد أن حقق لها الإسلام وحدة شاملة، وبعد أن صار الإسلام دين معظم العرب، ولم تستطع القوى الصليبية ولا حشود الاستعمار أن تمحو من أعماق هذه الأمة الشعور الأصيل بالرابطة القومية، وظل العرب يدفعهم الوجدان المشترك نحو بعث القومية العربية وتحقيق الوحدة العربية من جديد.
وفي العصر الحديث كادت تتحقق وحدة ما تجمع الناطقين بالضاد في عهد محمد علي وإبراهيم، ولكنها لم تنجح لأن الدول الأوربية عارضت ((محمد علي)) بسبب ضعف الدولة العثمانية، مما أدى إلى التدخل الأجنبي، ولفقدان الوعي بالقومية العربية نتيجة الاستبداد التركي، وأهم من ذلك أن ((محمد علي)) نفسه لم يكن عربياً، ففقدت حركة الوحدة دافعها القومي، ولم تزد على أن تكون فرضاً عسكرياً ثقيلاً يرضى طموحه ولا يصور انبثاقاً شعبياً تفرضه الأمة العربية ذاتها.
وفي سياق الجهاد لتحقيق الوحدة العربية لم تخل الجهود الحديثة في التفسير من الإسهام في توضيح قضيتها توضيحاً يعبر عن موقف القرآن الكريم من المؤمنين بها ويصور الآمال في تحقيقها. ويلفت النظر لأول وهلة أن ثمة روابط ثلاثاُ تشكل أنماطاً للوحدة شغلت المفسرين المحدثين وهي الرابطة الروحية، والرابطة الجنسية، والرابطة القومية أو هي على الترتيب كما تسمى في مصطلح السياسة الجامعة الإسلامية والجامعة الوطنية والجامعة العربية، ولكن كيف تلتقي هذه الروابط المختلفة في أعمال المفسر الحديث وكيف تتعارض وما موقفه منها جميعاً؟ منذ انتشر الإسلام استطاعت أصوله السمحة أن تجمع بين معتنقيه ، مهما اختلف بهم الوطن والجنس ـ على معنى روحي مشترك يربط بين المسلمين بآصرة من الإخوة القومية، وهي ظاهرة خاصة تميز العقيدة الإسلامية بين العقائد الكبرى في العالم، ولقد ساعد على تمثل هذه الوحدة ما لاحظه الأستاذ ((جب)) من أن الثقافة الإسلامية الفتية استطاعت أو كادت في كثير من الأحيان أن تمحو كل الثقافات الموروثة حتى ((نسى المصريون فراعنتهم وبطالستهم، والأتراك خواقينهم وهلم جرا .. ورجعوا إلى بلاد العرب والخلفاء الأولين يتخذون منهم أسلافاً روحيين)). ومع أن ازدياد انتشار الإسلام أخذ يمثل صعوبة ما في تحقيق المثل الأعلى للوحدة، فلقد بقى الحج عاملاً قوياً في توثيق عرا الاختلاط الممهد لها، هذا بالإضافة إلى الجهود التي بذلها دعاة الإسلام من أتباع الطرق الصوفية المخلصين للتوحيد الروحي بين المسلمين، والاتصال الذي نشأ من تبادل التجارة.
تلك هي العوامل التي صانت في العالم الإسلامي كل ثقافة وتقليد أصيل رغم اختلاف الأجناس واللغات، وأوجدت شعوراً بالوحدة الاجتماعية بين المسلمين عبر التاريخ.
ومع ذلك فإن تمثلا آصل لطبيعة الثقافة الإسلامية قد يعطى عاملاً أكثر فاعلية، ذلك أن التصور الإسلامي الصحيح ت كما يوضحه أحد الباحثين ـ لموقف المسلم من الكون كله يفرض عليه أن يدرك الكون كله ويخلص له، قبل الإدراك والإخلاص لأجزائه، كالنفس والولد والأهل والوطن والقوم، ولو أنصف الناس لكان ولاؤهم للعالم، قبل ولائهم لوطنهم وقومهم وأنفسهم. فإلى هذه المعاني تشير الآية القرآنية: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون). فالمطلوب أولاً هو تحقيق الفكرة الجامعة عن الله والكون والحياة، يهاجر في سبيلها من أرض إلى أرض حتى تتحقق، وكأن الفكرة هي الوطن الحقيقي للمسلم، يقيم فيها حيث يجدها .. فبمثل هذا تصبح النظرة الإسلامية ولاء للكون والحياة.
ولقد يكون في هذه الملاحظة شيء من المبالغة ينبو عن ذوق المسلم المعاصر الذي لا يفهم معنى لكون الولاء للعالم قبل الوطن والنفس. ومهما يكن من أمر، فإن الوحدة أمل زاخر في فؤاد المسلم بما يلاحظ من طبيعة الإصلاح الاجتماعي والسياسي في الإسلام، فهي القالب العام الذي تتشكل به مقاصد القرآن في الإصلاح، والمعنى الأكبر الذي يرمي إليه في التربية المسلم.
ولقد كان من الممكن أن تقوم للمسلمين في العصر الحديث وحدة جامعة تأخذ بيدهم وتحمى حقوقهم، لولا مطامع مدعى الخلافة وفساد إدارتهم، ومحاولة المصلحين النقل عن المظاهر المادية لحياة أوربا وتنظيمها السياسي ((ظناً منهم أن التفوق العقلي والمادي والاقتصادي لأوربا، إنما يرجع إلى أنظمتها السياسية الحربية))، فنشأت نزعة إقليمية جنسية نافست برنامج الجامعة الإسلامية تعبر عن الاتجاه العالمي نحو فكرة القويمة في القرن التاسع عشر حين نشأت مجموعات من الكتل البشرية تقوم كل كتلة منها على أساس الاعتقاد بأنهم شعب واحد. وكان ذلك نتيجة للتقسيم الصناعي الذي قسمت فيه الجماعات البشرية في دول أوربا الصغرى حسبما رأت الامبراطوريات الكبرى أنه محقق لصالحها، وتعصبت كل مجموعة من هذه المجموعات لفكرة الوطن والقومية، واندفعت في حماس عاطفي بالغ لتحقيقه، والدفاع عن كيانه السياسي.
لا يتصور المفسرون المحدثون العصبية الجنسية منافية للإسلام، إلا حيث يشعرون خطر الرغبة في اتخاذها بديلاً عنه يعمل على إذابته وتصفيته. فأما حين تكون العصبية الجنسية رابطة قومية تعمل على التعارف بين أجزاء العالم الإسلامي على أساس إقليمي ومصلحي وقومي، فإنها تمثل الخطوة الأولى إلى الوحدة الإسلامية الجامعة وهكذا لا نجد تهجماً على الجامعة القومية، من قبل المفسرين المحدثين يعادل ما لاقته الجامعة الإسلامية من قبل دعاة العصبية الوطنية، إلا في بعض نصوص لجمال الدين، وصفت فيها الدعوة إلى الوطنية بأنها دعوة خبيثة، يروجها الإفرنج لنقض بناء الأمة الإسلامية حتى يفرقوا بين شعوبها، ويسهل عليهم استعمارها. ذلك أن جمال الدين كان يرى في القرآن وسيلة كبرى لجمع كلمة المسلمين وتوحيد كفاحهم ((فإن رابطهم الملية أقوى من روابط الجنسية واللغة)).
في مقال لابن باديس عن الوطن والوطنية كتب يقسم الناس في تصورهم لهذه القضية إلى أربعة أقسام: فهناك قسم لا يعرفون إلا أوطانهم الصغيرة (بيوتهم مثلاً) وهؤلاء هم الأنانيون الذين يعيشون على أممهم، كما تعيش الطفيليات على دم غيرها من الحيوان. وهناك قسم يعرفون وطنهم الكبير، فيعملون في سبيله كان ما يرون فيه خيره ونفعه، ولو بإدخال الضرر والشر على الأوطان الأخرى، بل يعملون دائماً على امتصاص الأمم والتوسع في الملك فلا تردهم إلا القسوة. وهناك قسم زعموا أنهم لا يعرفون إلا الوطن الأكبر، وأنكروا وطنيات الأمم ـ كما أنكروا أديانها ـ وعدوها مفرقة للبشر، وهؤلاء عاكسوا الطبيعة جملة، وما عرفته البشرية منذ آلاف السنين. ودلائل الفشل على تجربتهم حيث أجروا تجربتهم لا تكاد تخفى.
أما القسم الذي يمثل المفهوم الإسلامي للوطنية بحق عند ابن باديس فهو القسم الذي:
((اعترف بهذه الوطنيات كلها، وأنزلها منازلها، غير عادية، ولا معدو عليها، ورتبها ترتيبها الطبيعي في تدرجها كل واحدة منها مبنية على ما قبلها، ودعامة لما بعدها. وآمن ـ هذا القسم ـ بأن الإنسان يجد صورته وخيره وسعادته في بيته ـ وطنه الصغير ـ وكذلك يجدها في أمته ـ وطنه الكبير ـ ويجدها في الإنسانية كلها، وطنه الأكبر.
وهذا القسم الرابع هو الوطنية الإسلامية العادلة، إذ هي التي تحافظ على الأسرة بجميع مكوناتها، وعلى الأمة بجميع مقوماتها، وتخدم الإنسانية في جميع أجناسها وأديانها. فهي تخاطب البشرية كلها في جميع أجناسها بقوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) وتخاطبها في جميع أديانها بقوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين). وتخاطب جميع الأمم والأوطان بقوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)، وبقوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله، واعلموا أن الله مع المتقين)، هذه هي وطنيتنا، ووطنية كل مسلم صادق في إسلامه ووطنيته)).
----------------------------
* المصدر: الفكر الديني في مواجهة العصر

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم