موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
علوم القرآن والتفاسير

محمد حسين فضل الله
سورة الفلق

بسم الله الرحمن الرحيم?قُل أعوذُ بربِّ الفَلَق(1) من شَرِّ ما خَلِق(2) ومِن شَرِّ غاسِقٍ إذا وَقَب(3) ومِن شَرِّ النَّفّاثاتِ في العُقَد(4) ومِن شَرِّ حاسدٍ إذا حَسَد(5)?
***
مفهوم الاستعانة بربّ الفلق
(قُل أعوذُ بربِ الفلق) أي الصباح الذي يفلق الظلام ويشقّه، فينفذ إلى داخله ليخترق الحاجز الذي يحجز الكون عن النور في تخييل الصورة الظاهرة. وفي هذا المعنى تنطلق الاستعاذة من وحي القدرة الإلهية التي تفلق الظلام لتحوّل الكون إلى النور، وبذلك تفلق كل مواقع الشر لتحوّل الإنسان إلى مواقع الخير في ما يثيره في النفس من الانفتاح، كما يحدث للنور أن يثير الانفتاح في الكون. وقيل: إن المراد بالفلق هو كل ما يفطر عنه بالخلق والإيجاد، لأن الإيجاد يمثل لوناً من ألوان شقّ العدم، فكأن الموجود كامنٌ فيه، فينطلق الإيجاد ليخرجه منه. وقيل: هو جبٌّ في جهنم، وهو خلاف الظاهر.
(مِن شرِّ ما خَلَق) من المخلوقات المتحركة في الكون من الإنس والجن والحيوان وغيرهم، مما يمكن أن يُحدث للإنسان شراً في بدنه وماله وعرضه وأهله، في ما يخافه الإنسان من ذلك، فيعقّد له نفسه من حيث ما يثيره تصوّر ذلك من مخاوف، أو يُطلقه من تهاويل، فيمنعه عن الانطلاق في الحركة في خط المسؤولية، لأن الخوف والقلق من العوامل المؤثرة سلباً في عمق تصور الكائن الإنساني وحركته، لأنهما قد يتحولان إلى ما يشبه حالة الشلل عن التفكير الذي قد يتجمد، وعن العمل الذي قد يبتعد عن التركيز والثبات.
(ومَِن شَرِّ غاسقٍ إذا وَقَب) والمعنى هو الاستعاذة بالله من شرِّ الليل الذي يدخل الكون بظلامه ويُطبق عليه، وذلك لأن طبيعة الظلام تترك لكل الذين يريدون أن يقوموا بالشرّ في حياة الناس الحرية في حركتهم، فيملكون بذلك الفرص الكثيرة التي تعينهم على القيام بالأعمال العدوانية على الناس، كما يُضعف إمكانات الدفاع والمقاومة لدى الشخص المعتدي عليه. وبذلك يتحوّل الليل إلى عنصرٍ كوني من عناصر إثارة الخوف في نفس الإنسان، فيفقد الإحساس بالأمن، ويتحوّل إلى مشاعر خائفةٍ مذعورة من كل شبح يتخيله أو يمر أمامه من بعيد، ومن كل زاويةٍ يمكن أن يكمن فيها عدوٌّ، ومن كل طريق يمكن أن يختفي فيها قاطع طريق، ومن كل القتلة الذين قد يجعلون من الليل ستاراً لتنفيذ مخططاتهم. وهكذا ينطلق الإيمان بربّ الفلق القادر القاهر فوق عباده، ليزرع الشعور بالحماية والأمن في نفس الإنسان من كل ذلك.
(وَمِن شَرِّ النَّفاثاتِ في العُقدِ) أي النساء الساحرات اللاتي يسحرن بالعقد على المسحور في ما يربطنه من خيوط ونحوها، وينفخن في العقد لتأكيد السحر.
***
هل النفث في العقد يمثل حقيقة تأثيرية في الإنسان؟
ولكن هل هذه الآية تدلّ على أن النفث في العقد الذي يُعتبر مظهراً من مظاهر السحر _في ما يقولون _ يمثل حقيقةً تأثيريةً في الإنسان الآخر بحيث تنتج الشرّ الذي يستعيذ الإنسان منه بالله، أم أنها تمثل حالةً تخييليةً تترك تأثيراتها في المشاعر بطريقة الإيحاء الذاتي أو بما يشبه ذلك؟.
ربما يرى بعض المفسرين أن للسحر في هذا النوع من الأفعال حقيقةً، وذلك في حديث الله عن الملكين هاروت وماروت اللذين كانا يعلّمان النّاسَ السِّحر: (فيتعلَّمونَ مِنهُما ما يُفرِّقونَ بهِ بينَ المرءِ وزوجِهِ) (البقرة:102)، وذلك بالوسائل التي قد يحدثون من خلالها العداوة والبغضاء بين الزوجين، لأن ذلك هو المعنى الذي توحي به الآية. ولكننا نلاحظ أن الله يعقّب هذه الفقرة من الآية بقوله: (ومَا هُم بضآرّينَ بهِ من أحدٍ إلاّ بإذنِ الله) (البقرة:102) مما قد يدل على أن التأثير السلبي ليس حاسماً بحيث يكون نتيجةً للأفعال أو الكتابات أو نحو ذلك، بل ربما يقارن ذلك بعض الأمور التي تتحرك في الواقع بإرادة الله. وقد يكون هذا الضرر من خلال بعض النتائج النفسية الشعورية لما يحيط بالموضوع.
وقد يرى آخرون أن هذه الأمور قد تكون من ألاعيب الشعوذة، في ما يلعب به الكثيرون من النساء والرجال على البسطاء من الناس من الأشخاص المثقلين بأحلامهم وآلامهم ومشاكلهم، بحيث يبحثون لها عن بعض الأجواء الغيبية الغامضة التي لا يجدون لها أيّ حلّ في ما يملكونه من وسائل الحلول، فيلجأون إلى أمثال هؤلاء المشعوذين الذين يجمعون حولهم في اذهان الناس بعض التهاويل من ادعاء تسخير الجان، أو معرفة بعض أسرار الغيب، أو السيطرة على بعض الأوضاع، أو الوسائل المحركة لبعض الأوضاع الضاغطة على إرادة الناس.
ويرى هؤلاء أن الشرّ قد لا يكون حاصلاً من خلال النفث في العقد، بل من خلال الأجواء التي يثيرها ذلك في الوعي الداخلي للإنسان. بحيث يترك آثاره من خلال الإيحاءات الخفية التي يتقنها هؤلاء بوسائلهم الخاصة.
وربما كان هذا الوضع التخييلي الإيحائي مشابهاً للوضع التخييلي الذي يسحر أعين الناس في ما حدثنا الله عن السحرة من قوم فرعون في ما قدّموه من السحر الذي أرادوا أن يتحدوا به موسى، وذلك في قوله تعالى: (سَحروا أعينَ النّاسِ واسترهبوهُم وجاءوا بسحرٍ عظيم) (الأعراف: 116) وقوله تعالى حكايةً عن رد موسى عليهم: (ما جئتُم به السّحرُ، إنَّ الله سيُبطلُهُ) (يونس: 81) وقوله تعالى حكايةً عن حالة موسى الشعورية في مواجهة سحر السحرة: (يُخيَّلُ إليهِ من سحرهِم أنَّها تسعى) (طه: 66) الأمر الذي يؤكد أن المسألة السحرية ليست مسألةً حقيقية في تغيير الواقع، بل هي مسألة تخييليةٌ تمثل نوعاً من أنواع إثارة الخيالات والتهاويل والإيحاءات الخفية.
وقد جاء في مجمع البيان للطبرسي ما يؤكد هذه الفكرة ويوضحها بشكل آخر: "وإنما أمر بالتعوّذ من شر السحرة لإيهامهم أنهم يُمرضون ويُصحّون ويفعلون شيئاً من النفع والضرر والخير والشرّ، وعامة الناس يصدقونهم، فيعظم بذلك الضرر في الدين، ولأنهم يوهمون أنهم يخدمون الجن ويعلمون الغيب، وذلك فسادٌ في الدين ظاهرٌ، فلأجل هذا الضرر أمر بالتعوذ من شرّهم".
وقد ذكروا هناك معنىً أخرى للنفاثات في العقد وهو ما نقله مجمع البيان عن أبي مسلم، قال: "النفاثات النساء اللاتي يملن آراء الرجال، ويصرفنهم عن مرادهم ويرددنهم إلى آرائهن، لأن العزم والرأي عبّر عنهما بالعقد، فعبّر عن حلها بالنفث، فإن العادة جرت أن من حلّ عقداً نفث فيه".
***
بين الحسد والبغي
(وَمِن شرِّ حاسدٍ إذا حَسَد) وذلك من خلال الحالة العدوانية التي تعيش في داخل شخصية الحاسد فتحوّله إلى إنسان عدوانيّ يعمل على إيقاع الشرّ بالمحسود، والبغي عليه، كما ورد في الحديث النبوي الشريف: "إذا حسدت فلا تبغ".
وقيل إن الشرّ ينطلق من نفس الحاسد في التأثيرات التي تتفاعل في شخصية المحسود من خلال الإشارات التي تنطلق من الحاسد في ما يمكن أن يكون لها من قوّةٍ خفيةٍ في حياة الإنسان المحسود بطريقةٍ مثيرةٍ غير مفهومةٍ من ناحية المقاييس المادية المعروفة للناس، وقد تكون العين هي التي تثير كل تلك النتائج، وقد وردت الرواية عن النبي (ص) بأن العين حقٌ.
وإننا لا نستطيع الجزم بهذه المسألة من ناحية الإثبات أو النفي، لأن معلوماتنا في المنطقة الداخلية للنفس أو للروح ليست دقيقةً أو شاملة، فلا يمكن أن ننفي ما لم يثبت لنا نفيه لمجرّد أننا لا نملك دليلاً على الإثبات، فربما كانت هناك بعض العوامل الخفية التي لم يدركها وعينا الظاهري، مما قد يترك تأثيراً كبيراً في هذه الدائرة.
ولكن لنا ملاحظة، وهي أن التأثير السلبي المذكور للحسد في شخصية المحسود وفي حياته، لو كان، كما يعتقده الناس البسطاء في العقلية الجماهيرية، لما بقي هناك ناجحٌ على الأرض، لأن الناجحين محسودون من قبل الناس الآخرين الذين يفقدون ذلك النجاح في حياتهم، فيؤدي ذلك -من وجهة نظر هؤلاء- إلى سقوطهم أمام حسد الحاسدين، فإذا كان الأمر صحيحاً، فلا بد من أن يكون له شروط أخرى في حياة الناس، أو في طبيعة شخصية الحاسد، ليكون تأثيره محدوداً في هذه الدوائر الخاصة، والله العالم.
--------------------
* من وحي القران /ج42

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم