موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
علوم القرآن والتفاسير

د. فضل حسن عباس
تنزلات القرآن

هل للقرآن الكريم أكثر من تنزُّل؟؟.
لكي يتبين لنا هذا الأمر تبيناً تاماً ينبغي أن نقف أمام هذه الآيات الكريمة:
1- قال تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) (سورة البقرة/ 185).
2- قال سبحانه (حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين...) (سورة الدخان/ 1-3).
3- قال سبحانه (إنا أنزلناه في ليلة القدر).
هذه الآيات الكريمة تبين أن القرآن الكريم أنزل في رمضان، وأنه أنزل في ليلة مباركة، وأن هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر.
ولكن ما معنى نزول القرآن في ليلة القدر؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأولى: ذهب بعض العلماء إلى أن القرآن الكريم نزل كلُّه دفعة واحدة في ليلة القدر، من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا.
ثم نزل من سماء الدنيا على قلب النبي صلى الله عليه وسلم منجماً في بضع وعشرين سنة. وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بآثار موقوفة عن ابن عباس رضي الله عنهما وبعض الأحاديث المرفوعة التي لم تصح.
القول الثاني: إن هناك تنزلاً واحداً للقرآن الكريم، وهو نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر، في شهر رمضان، ولكن الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي الآيات الأولى من سورة اقرأ، فكيف تفسر قوله؟ قالوا إن الأمور العظيمة والشؤون الخطيرة يؤرخ دائماً ببدئها فمعنى قوله سبحانه (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) أي الذي ابتُدِئَ فيه نزول القرآن عليك أيها النبي.
وكذلك يقال في قوله سبحانه (إنا أنزلناه في ليلة القدر) و(إنا أنزلناه في ليلة مباركة) أي ابتدأنا إنزاله.
القول الثالث: يجمع العلماء على أن القرآن الكريم كما يطلق على القرآن كله فإنه يطلق على الآية والآيتين، وعلى هذا المعنى قوله سبحانه (إنا أنزلناه في ليلة القدر) أي أنزلنا الآيات الأولى وهي الآيات الخمس من سورة العلق.
الموازنة بين هذه الأقوال:
ونحن إذ نوازن بين هذه الأقوال يبدو لنا والله أعلم بالصواب أننا نختار القولين الأخيرين فهما متقاربان بل يكادان يكونان قولاً واحداً. فإن ابتداء الإنزال في الشهر الكريم والليلة المباركة معناه أنزل الآيات وإنما اخترت هذا القول لما يلي:
أولاً: لأن القول بأن القرآن الكريم أنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر في رمضان، لم يصل إلينا من كتاب أو سنة صحيحة وإنما وردت آثار موقوفة عن ابن عباس رضي الله عنهما وهي تحتاج إلى تمحيص من حيث أسانيدها. والقول بأن مثل هذا لا يمكن أن يكون رأياً لابن عبّاس غير مسلمّ، فقد يكون ابن عباس فهم الآية هذا الفهم إن صحت هذه الأقوال عنه.
ثانياً: يلزم على القول الأول وهو أن القرآن الكريم أُنزل في شهر رمضان دفعة واحدة إلى السماء الدنيا، عدم نزوله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، في رمضان لأنهم يرون أن الذي ذكرته الآيات في حديثها عن نزول القرآن في رمضان هو نزوله دفعة واحدة إلى السماء الدنيا.
وهذا غير مُسلم به فإن الذي أجمعت عليه الأمة إجماعاً مستنداً إلى السنة الصحيحة وإلى الكتاب الكريم هو أن القرآن نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في رمضان.
ثالثاً: إن المتدبر للآية الكريمة يجزم بما لا يحتمل شكاً بأنها تتحدث عن نزول القرآن على النبي عليه وآله الصلاة والسلام، فلنتدبر هذه الآية الكريمة: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) فلو كان المقصود نزوله إلى سماء الدنيا لم يكن هناك كبير فائدة في قوله تعالى (هدى للناس) إنما الأمر الذي يطمئن إليه القلب وتستريح إليه النفس هو أن القرآن نزل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هدى للناس.
رابعاً: إن الله تبارك وتعالى يمّن علينا بالهداية بأن كرّمنا بهذا القرآن الكريم "بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان". وهذه المنّة إنما تتحقق بإنزال القرآن لنتعظ منه ونعتبر وهذا أمر غير متحقق بنزوله إلى سماء الدنيا، يقول السيد محمد رشيد رضا رحمه الله:
"وأما معنى إنزال القرآن في رمضان مع أن المعروف باليقين أن القرآن نزل منجماً متفرقاً في مدة البعثة كلها فهو أن ابتداء نزوله كان في رمضان وذلك في ليلة منه سميت ليلة القدر، أي الشرف، والليلة المباركة، كما في آيات أخرى، وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه، على أن لفظ القرآن يطلق على هذا الكتاب كله. ويطلق على بعضه. وقد ظن الذين تصدوا للتفسير منذ عصر الرواية أن الآية مشكلة ورأوا في حل الإشكال أن القرآن نزل ليلة القدر من رمضان إلى سماء الدنيا، وكان في اللوح المحفوظ فوق سبع سماوات ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجماً بالتدريج وظاهر قولهم هذا أنه لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان منه شيء خلافاً لظاهر الآيات، ولا تظهر المنة علينا ولا الحكمة في جعل رمضان شهر الصوم على قولهم هذا لأن وجود القرآن في سماء الدنيا كوجوده في غيرها من السماوات أو اللوح المحفوظ من حيث إنه لم يكن هداية لنا، ولا تظهر لنا فائدة في هذا الإنزال ولا في الإخبار به، وقد زادوا على هذا روايات في كون جميع الكتب السماوية أنزلت في رمضان. كما قالوا إن الأمم السابقة كلفت صيام رمضان1.
وأياً ما كان الأمر فإنه لا يتعلق بهذه القضية أمرّ ذو بال فلا يضير المسلم أي المسلكين سلكه وإنما أحببت أن أنبه على هذا لأن كثيراً من المسلمين يحسبون أن كون القرآن الكريم له عدة تنزلات أمر لا يجوز مخالفته.
ثالثاً: فرية القول بنزول القرآن بالمعنى:
سامح الله بعض العلماء الذين يذكرون في كتبهم عن حسن نية ما غثّ وسمُن، وما علم هؤلاء رحمهم الله أن هناك أناساً يتصيّدون كل ما يرونه محققاً لمصالحهم مما يكيدون به هذا الدين، وسنرى كثيراً من هذا في موضوعات علوم القرآن. والقضية التي نحن بصددها من أخطر القضايا التي لو قدرّ لها أن تحيا لعصفت لا سمح الله بقواعد هذا الدين وأحكامه، ولكن هيهات هيهات.
فلقد تكفل الله بحفظ هذا الكتاب ونصرة هذا الدين، ذكر الزركشي في البرهان2، وتبعه السيوطي في الإتقان3، رحمهما الله وعفا عنهما، وهما يتحدثان عن نزول القرآن الكريم أقوالاً منها: نزول القرآن بالمعنى، أما لفظ القرآن فذهب بعضهم إلى أن جبريل هو الذي صاغ هذه الألفاظ، وذهب آخرون إلى أن الذي صاغ ألفاظ القرآن هو النبي صلى الله عليه وسلم وشبهتهم في هذا القول فهمهم الخاطئ لقول الله تبارك وتعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) (سورة الشعراء/ 192-195).
وتفصيل هذه الشبهة أن الله سبحانه وتعالى بينّ للنبي صلى الله عليه وسلم أن الروح الأمين جبريل عليه السلام نزل بالقرآن على قلب النبي، قالوا والذي يناسب النزول على القلب هو المعنى، أما اللفظ فإنما يخص به السمع، ثم قال سبحانه (لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) أي تنذر الناس بلسان عربي. فقوله سبحانه (بلسان عربي) متعلق بقوله (من المنذرين) أي من المنذرين بلسان عربي وهذا الفهم للآية الكريمة مردود من جوانب كثيرة.
أولاً: لا مانع أن ينزل اللفظ والمعنى على القلب ونحن نرى في عصر العلم اليوم ما يبهر العقول فهذه الإشارات التي ترسلها مركبات الفضاء من كواكب بيننا وبينها ألوف الأميال ومئات الألوف ترسلها إشارات تتحول إلى ألفاظ هذا شأن البشر ولله المثل الأعلى.
ثانياً: أن تعلق قوله سبحانه تعالى (بلسان عربي مبين) بقوله (لتكون من المنذرين) ليس له كبير فائدة، فليس النبي وحده الذي ينذر بلسان عربي مبين بل إن غيره من الأنبياء العرب كهود وصالح وشعيب وإسماعيل ومن بعده كذلك من العرب كانوا ينذرون بلسان عربي ثم إن الإنذار بهذا القرآن ليس للعرب وحدهم ( وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) (سورة الأنعام/ 19). وعلى هذا فإن المعنى الصحيح للآيات الكريمات (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) فقوله سبحانه (بلسان عربي مبين) متعلق بقوله سبحانه (نزل به الروح الأمين) أي نزل به الروح الأمين بلسان عربي وإنما أخرت هذه الآية (بلسان عربي) عن قوله (لتكون من المنذرين) ليبين ما للإنذار من أهمية قصوى.
قال الزمخشري رحمه الله......
(بلسان عربي) أما أن يتعلق بالمنذرين فيكون المعنى لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وإما أن يتعلق بنزل فكون المعنى "نزّله باللسان العربي لتنذر به لأنه لو نزّله باللسان الأعجمي لتجافوا عنه أصلاً ولقالوا ما نصنع به لا نفهمه فيتعذر الإنذار به، وفي هذا الوجه أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك لأنك تفهمه وتفهمه قومك، ولو كان أعجمياً لكان نازلاً على سمعك دون قلبك لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها"4.
ولله درّ الزمخشري على هذا الفهم الرائق وعلى هذا الغوص على درر المعاني، ثم إن فرية القول بنزول القرآن بالمعنى تتناقض مع بدهيات الدين ومع ما علم من الدين بالضرورة، إذ نحن نعلم بداهة أن القرآن معجز لأنه كلام الله، فلو كان لفظه من عند الله لم يكن معجزاً، ونحن نفرق بداهة كذلك بين كلام الله تبارك وتعالى وبين كلام عليه وآله الصلاة والسلام، وهذه هي الأحاديث النبوية مع ما تبوأته من سدة الفصاحة فإن الفرق بينها وبين القرآن الكريم يبقى بعيد الشأو ثمّ إنّ هذه الفرية تتعارض مع كثير من الآيات الكريمة مثل قوله تبارك وتعالى (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرأنه فإذا قرأناه فاتبع قرأنه ثم إن علينا بيانه).
فلو كان لفظ القرآن الكريم من عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم العجلة إذن، ثم هل يحتاج إلى بيان، ثم إن هذا متعارض مع قوله سبحانه وتعالى: (إنا أنزلناه قرأنا عربياً) وقوله (قرأنا عربياً غير ذي عوج) وقوله (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) وقوله (قو لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به).
وقوله (إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً) فكيف يمكن أن نوفق بين نزول القرآن بالمعنى، وبين كونه قولاً ثقيلاً؟ والآيات التي ترد هذه الفرية لا يمكن أن نذكرها جميعها لكثرتها، وكذلك ما جاء في الأحاديث الصحيحة يرد هذه الفرية مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه "وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظاناً" وقوله "ما من نبي إلا وأعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أعطيته وحياً يوحى فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة5.
رحم الله السمرقندي الذي نقل عنه الزركشي والسيوطي رحمهما الله هذا القول الذي ما كانوا يؤمنون به وما كان أغنانا عن مثل هذه الأقوال التي ينبغي أن يتنزه عنها وأن يخلو منها تأليف العلماء ولكن يشاء الله أن يهيء لهذا الدين من يردُّ عنه زيغ المنحرفين وانحراف الضالين وصدق الله (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
------------------------------------
1 تفسير المنار ج‍2 ص161.
2 البرهان في علوم القرآن (1/230).
3 الإتقان في علوم القرآن (1/159).
4 الزمخشري (3/ 128) طبع دار الفكر.
5 أخرجه البخاري في فضائل القرآن حديث رقم (4981).
----------------------------------------------------------------------------
المصدر : عن (إتقان البرهان في علوم القرآن) ج1
 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم