موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
علوم القرآن والتفاسير

محمد عمارة
المحكم والمتشابه

لقد كان لزاماً على المنهج الذي يعتمد على الحجج القرآنية اعتماده على الحجج العقلية، ان يتخذ موقفاً من الآيات التي توحي ظواهرها بوجود تناقض بينها وبين ظواهر آيات أخرى تناولت ذات القضايا ونفس الموضوع.. وهو الموقف الذي جعلهم يفصلون في أمر تقسيم القرآن آياته إلى (محكمة ومتشابه)، وقالوا ان في هذه الآيات ما هو (واضح) وما هو (خفي)، وما هو (أصل) وما هو (فرع)؛ ومن ثم فإن علينا أن نفسر المتشابه والخفي والفروع على ضوء المحكم والواضح من الأصول التي جاء بها القرآن الكريم.
فعند الإمام القاسم الرسي نجد أن منزلة المحكم من المتشابه هي منزلة الأصل من الفرع، وعند الامام يحيى نجده يشبه المحكم بالإمام والمتشابه بالمأموم..
والأول يقول: ان الأصل هو "ما أجمع عليه العقلاء، ولم يختلفوا فيه، والفرع ما اختلفوا فيه"، ومن ثم فإن (مرجع الفروع إلى الأصول.. ومرجع المتشابه إلى المحكم، لأن المتشابه كالفرع بالنسبة للمحكم _ على عكس ما زعمت الحشوية _ والمجمع عليه من السنة بمثابة الأصل للمختلف عليه منها).. فعلى العبد أن يرجع إلى المحكمات من الآيات.. ويؤمن بالمتشابهات، ولا يظن أنها، وان جهل تأويلها، وصرف عن تفسيرها، أنها تنقض المحكمات)، و (ليس ينبغي لعاقل أن يدع ما علم لما جهل، وليس لك أن تشك في الواضح إذا ذهب عنك الخفي.
أما الإمام يحيى فإنه يحدثنا عن (أن القرآن: محكم ومتشابه، وتنزيل وتأويل، وناسخ ومنسوخ. وخاص وعام، وحلال وحرام، وأمثال وعبر، وأخبار وقصص، وظاهر وباطن، وكل ما ذكرنا يصدق بعضه بعضا، فأوله كآخره، وظاهره كباطنه، ليس فيه تناقض.. فإذا فهم الرجل ذلك، أخذ حينئذ بمحكم القرآن، وأقر بمتشابهه، أنه من الله، كما قال الله "سبحانه: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه).. فلذلك جعل المحكم اماماً للمتشابه".
ثم نراه بعد هذا التحديد يورد لنا عدداً من الأمثلة التوضيحية للآيات المحكمة والمتشابهة:
ففي باب (التوحيد)، وبصدد قضية (الرؤية) من الخلق للخالق، نجد من الآيات المحكمة، مثلا، قوله تعالى: (ولم يكن له كفواً أحد) و (ليس كمثله شيء)، و (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)، ومن الآيات المتشابهة مثلا قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)، (فمن كان يرجو لقاء ربه).
وكمثال على كيفية رد المتشابه إلى المحكم، هنا يقول الإمام يحيى: إن الآية الأولى تفسر على معنى (ان الوجوه يومئذ تكون نضرة مشرقة ناعمة، إلى ثواب ربها منتظرة، وعلى أن المراد من رجاء لقاء الله في الآية الثانية، هو رجاء لقاء ثوابه. وليس لقاء ذات الله.
ومثال آخر في باب "العدل" يسوق لنا فيه من الآيات المحكمة قوله تعالى: (ان الله لا يأمر بالفحشاء) و (لا يرضى لعباده الكفر) ومن الآيات المتشابهة قوله تعالى: (وقضينا إلى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض) و (قضينا إليه ذلك الامر) و (قضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) و (فقضاهن سبع سموات في يومين).
ثم يقدم التفسيرات التي ترد هذه الآيات المتشابهات إلى الآيات المحكمات، فيقول: ان معنى (لتفسدن في الأرض) "أي تختارون اسم الفساد"، ومعنى "القضاء" في الآيات الثلاث الأخيرة هو: التعليم، والأمر، والخلق.. على الترتيب فلا جبر هنا، ومن ثم فلا تجوير، والمعنى هنا متفق مع معنى الآيات المحكمة التي تشهد بالعدل للخالق سبحانه وتعالى. وهكذا يحل الاشكال، وينفي عن الله سبحانه أن يكون قد "قضى وحكم" بفعل الانسان للفساد وغيره من المعاصي والمنكرات.
وليس المجبرة من المتكلمين فقط هم الذين رفضوا الحكم على بعض القرآن ببعضه الآخر، وتفسير خفيه بواضحه، ومتشابهه ومحكمه، بل لقد ذهب إلى ذلك (ابن رشد) كذلك، عندما رأى أن (التعارض) قائم بين ظواهر النصوص، بل (ربما ظهر في الآية الواحدة التعارض في هذا المعنى، وان الأدلة العقلية (تتعارض) هي الأخرى في هذه المسألة، وان الواجب ليس تفسير جانب بآخر، وآية بأخرى، وانما هو اتخاذ الموقف الوسط الذي (يجمع) بين طرفي الخلاف، وان ذلك (هو الذي قصده الشرع بتلك الآيات العامة والأحاديث التي يظن بها التعارض).
ومن ثم فإن موقف أهل العدل والتوحيد هذا متميز عن كثير من المواقف التي وردت في هذا المقام. وهو الموقف الوحيد الذي ينفي شبهة التناقض والتعارض عن آيات القرآن، ويفسر (المتشابه) (بالمحكم) استناداً إلى معايير العقل ومقاييس لغة القرآن.
---------------------------------
المصدر : القرآن _ نظرة عصرية جديدة
 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم