عنى الباحثون في علوم القرآن بتمييز الآيات
والسور التي نزلت بمكة، أو نزلت بالمدينة، أو أثناء السفر، وما نزل
صيفا، وما نزل شتاء، وما نزل ليلا، وما نزل نهارا، وقد عقد السيوطي
في كتابه الإتقان فصولاً في معرفة الحضري والسفري، والنهاري
والليلي، والصيفي والشتائي... الخ، وضرب أمثلة لكل نوع.. وهذا
يدلنا على مبلغ العناية والضبط والتدقيق في كل ما يتصل بالقرآن
الكريم..
لكن الذي يهمنا الحديث عنه هنا ومعرفته هو: المكي والمدني؛ لأن هذا
هو الأهم، وهو الأعم أيضاً، إذ لا يخلو النازل صيفا أو شتاء، أو
ليلا أو نهارا، من أن يكون: إما مكيا أو مدنيا؛ ولأن لمعرفة المكي
من المدني دخلاً في التشريع بخلاف النهاري أو الليلي... الخ. لذلك،
كانت معرفته أهم وأعم..
ومن المعروف أن الرسول (ص) قضى شطرا من حياته بعد الرسالة في مكة،
وشطرا في المدينة، ولم يكن ملتزما لهما، لا يخرج منهما، بل كان
يخرج من مكة إلى الطائف ومن المدينة إلى أماكن الحروب كما ترك
المدينة للعمرة ثم للحج.. الخ. وكان ينزل عليه القرآن أينما أقام
أو تنقل..
وقد أقام الرسول (ص) بعد بعثته في مكة وهو في سن الأربعين، حتى سن
الثالثة والخمسين، أعنى قضى فيها من سني بعثته نحو ثلاثة عشر عاما،
ثم هاجر للمدينة، وتوفى وهو في الثالثة والستين، أي أقام فيها نحو
عشر سنوات... وهنا نزل قرآن.. وهنا نزل قرآن..
ثم إنك حين تقرأ في المصحف، تجد عند بدء كل سورة تعريفا لها بأنها
مكية أو مدنية كلها، أو إلاّ كذا وكذا من الآيات. فكيف عرف ذلك؟ هل
هو مما روى عن الرسول، أو أن ذلك عن طريق رواية الصحابة ومن جاء
بعدهم؟..
لم يكن تحديد أن هذه مكية وهذه مدنية من وظيفة الرسول ومهامه حتى
يبينه، ولكن التعرض لذلك جاء حين البحث حول القرآن، ومعرفة مكيه
ومدنيه، وناسخه ومنسوخه.. الخ، فهي بحوث أثيرت بعد الرسول، واعتمدت
على روايات وشواهد أعانت على هذا التحديد.
وحينما بدأ العلماء في وضع ضوابط للمكي والمدني، كانت لهم وجهتا
نظر:
1_ وجهة تأخذ المكان وحدة للضبط.. فترى أن ما نزل بمكة مكي، ولو
كان بعد الهجرة، مثل (اليوم أكملت لكم دينكم) فقد نزلت في حجة
الوداع، في عرفة.. وما نزل بالمدينة مدني.
ولكن هناك آيات لم تنزل في مكة، ولا في المدينة، بل نزلت في
الأسفار، مثل قوله تعالى:
(لَو كانَ عَرَضاً قريباً وسَفراً قاصِداً لاتَّبعوكَ...).
فقد نزلت وهو مسافر بغزوة تبوك. فما حكمها؟ ومثله ما روى في أن
قوله تعالى:
(إنَّ الّذي فرضَ عليكَ القرءانَ لرادُكَ إلى معادٍ...).
نزلت تطميناً لقلبه وهو مهاجر للمدينة، وقد استبد به الحنين إلى
وطنه وأخذه الحزن وهو مضطر لمغادرته. فما حكمها؟
ب_ أما الوجهة الثانية، فتتخذ الزمان وحدة للضبط، ولم تجد زمانا
أنسب للتمييز بين المكي والمدني إلا الهجرة.. فما نزل قبلها ولو
خارج مكة فهو مكي، وما نزل بعدها حتى ولو كان في مكة نفسها فهو
مدني، وهذا التحديد أضبط وأسهل، فهو لا يضطرنا لملاحق تقول إن هذا
في السفر في كذا أو كذا..
وفوق هذا فإن مما لا شك فيه أن العهد المكي غير العهد المدني من
ناحية طبيعة المجتمع المشرك المحارب بمكة، وطبيعة المجتمع المسلم
المستقر بالمدينة، ولكل طبيعة حكمها فيما ينزل من القرآن ليعالجها،
ويرد على ما أثير فيها.. فمكة كان فيها مشركون، والمدينة فيها
منافقون ويهود، مكة تتناقش حول التوحيد واليوم الآخر، والمدينة
جاوزت هذا تقريباً وأصبح فيها مجتمع مسلم له متطلبات أخرى غير
المجتمع المكي، فهو يحتاج إلى أمور تفصيلية عن أحكام الحياة
والعبادات وما أثاره اليهود من مشاكل وكذلك المنافقون، فكل مجتمع
له طبيعته التي نزل القرآن يعالجها، ويتعرض لما يدور في هذا
المجتمع..
ومن الضروري لنا أن نعرف ما نزل قبل الهجرة وما نزل بعدها، لاسيما
لرجال التاريخ والتشريع..
لكن كيف عرفوا أن هذا نزل قبل الهجرة وهذا نزل بعدها؟
معرفة هذا وذاك إنما قامت على الرواية في الوقت الذي بدأت فيه
العناية برواية الأحاديث وتدوينها، والعناية بالقرآن ورواية كل أمر
يتصل به..
فلم يؤثر عن الرسول (ص) أن قال لأصحابه يعلمهم: هذه مكية، وهذه
مدنية، ولم يعن الصحابة في عهد الخلفاء بتدوين ذلك، بل كانت لهم
معرفة. ربما تحدثوا بها لمناسبات، وعنهم رويت فيما بعد..
وبجانب الرواية كانت هناك ضوابط وشواهد تعين على معرفة المكي
والمدني سنتحدث عنها فيما بعد..
ومن هذا وذاك تمكنوا من تمييز المكي والمدني.. واختلفوا في بعض
الآيات القليلة، وهذا أمر طبيعي ما دام ذلك لم يؤثر فيه عن الرسول
نص مروي قاطع، وإنما الأمر كان للرواية عن الصحابة أو لشواهد
أخرى..
وفي كتاب البرهان في علوم القرآن للزركشي كلام عن هذا الموضوع، أحب
لزيادة الفائدة أن أنقله هنا.. قال نقلاً عن القاضي أبي بكر في
الانتصار.
"إنما يرجع هذا (أي معرفة المكي والمدني) لحفظ الصحابة وتابعيهم،
كما أنه لابد _في العادة _ من معرفة أتباع العالم والخطيب، وأهل
الحرص على حفظ كلامه، ومعرفة كتبه ومصنفاته، من أن يعرفوا ما صنفه
أولا وأخيراً، وحال القرآن في ذلك أمثل، والحرص عليه أشد، غير أنه
لم يكن من النبي (ص) في ذلك قول، ولا ورد عنه أن قال: اعلموا أن
قدر ما نزل بمكة كذا، والمدينة كذا، وفصله لهم، ولو كان ذلك منه
لظهر وانتشر، وإنما لم يفعله لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله ذلك
من فرائض الأمة، وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ
والمنسوخ، ليعرف الحكم الذي تضمنهما، فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول
بعينه، وقوله: هذا هو الأول المكي، وهذا هو الآخر المدني.. وكذلك
الصحابة والتابعون ومن بعدهم، لما لم يعتبروا أن من فرائض الدين
تفصيل جميع المكي والمدني، لم تتوافر الدواعي على إخبارهم به،
ومواصلة ذكره على أسماعهم، وإذا كان كذلك ساغ أن يختلف في بعض
القرآن: هل هو مكي أو مدني، وأن يعملوا في القول بذلك ضربا من
الاجتهاد والرأي، وحينئذ فلم يلزم النقل عنهم ذكر المكي والمدني،
ولم يجب على من دخل في الإسلام بعد الهجرة أن يعرف كل آية نزلت قبل
إسلامه، مكية أو مدنية، فيجوز أن يقف في ذلك أو يغلب على ظنه أحد
الأمرين، وإذا كان كذلك بطل ما توهموه من وجوب نقل هذا أو شهرته في
الناس، ولزوم العلم به لهم، ووجوب ارتفاع الخلاف فيه".
ومما لا بد من معرفته مع هذا أن السور كلها لم تنزل دفعة واحدة، كل
دفعة سورة مثلا، ولا سيما السور الكبيرة، اللهم إلا سورة الأنعام
التي روى عنها أنها نزلت كلها دفعة واحدة بتمامها.. فكثير من السور
إذن أو كلها إلا القليل ولا سيما من القصار، نزلت آياتها مفرقة حسب
الأحداث والمناسبات، وكان الرسول (ص) يرشد أصحابه _بتعليم من الله
_ إلى مكان هذه الآية أو الآيات من سورة كذا، فيقول مثلا: هذه
الآية ضعوها قبل آية كذا أو بعدها من سورة كذا..
لذلك، لا يمكن القول بأن ترتيب الايات المعروف الآن في كل سورة
إنما قام على أساس تاريخ نزولها... ففي بعض السور المكية نجد أنهم
يذكرون أن فيها آية كذا أو كذا مدنية وبالعكس..
ومما ذكره الباحثون في تاريخ النزول، أن ما نزل بمكة، أكثر مما نزل
بالمدينة، وتجاوزوا هذا إلى تحديد المكي بتسعة عشر جزءا من ثلاثين
جزءا والباقي وهو أحد عشر جزءا نزل بالمدينة..
-----------------------------------
المصدر : علوم القرآن الكريم