موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
علوم القرآن والتفاسير

د. حازم الحسيني
السقوط الحضاري للماركسية في ضوء السنن التاريخية في القرآن الكريم

القرآن الكريم يعتبر اول كتاب كشف عن القوانين التاريخية وأكد عليها. وقاوم النظرة العفوية أو النظرة الغيبية المجردة لتفسير الاحداث، حيث قاوم تفسير الإنسان للاحداث على اساس الصدفة والقضاء والقدر والاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى خارج دائرة الاسباب والمسببات. ولذلك نبّه العقل البشري إلى ان هذه الساحة لها سنن وقوانين، وانّه لكي تستطيع ان تكون انساناً فاعلاً ومؤثراً لابد لك ان تكتشف هذه القوانين ولابد ان تتعرف على هذه القوانين لكي تستطيع ان تتحكم فيها وإلاّ تحكمت هي فيك وانت مغمض العينين، افتح عينيك على هذه القوانين لكي تكون انت المتحكم لا كي تكون هي المتحكمة فيك. من كل هذا نستنتج ان النظام الدولي الجديد هو حدث تاريخي فلا يمكننا ادراك حقيقته بصورة دقيقة وكذلك التحكم فيه وكيفية مجابهته إلاّ من خلال فهمنا وادراكنا للقوانين التاريخية والتي كشف القرآن الكريم عنها وبصورة دقيقة. وكما ان علمنا بأن الماء يغلي حسب قوانين الثرموداينمك في درجة حرارية معينة إذا تعرض لضغط معين، فكذلك الحدث التاريخي تتحكم به القوانين التاريخية وبذلك نستطيع توفير الظروف المناسبة حتى يتحكم القانون التاريخي بالظاهرة التاريخية كالنظام الدولي الجديد مثلاً وكما نريد، فمثلاً يمكننا ان نغلي الماء بدرجة عشرين مئوية ولكن في ضغط معين نهيئه لهذا الغرض.
وفي هذا البحث اخترت موضوع تطبيق القوانين التاريخية والمذكورة في القرآن الكريم على التجربة الماركسية لسببين: الاول ان النظام الدولي الجديد هو نتيجة لسقوط التجربة الماركسية، ولا يمكننا فهم وادراك الحدث الجديد إلاّ بمعرفة وماهية اسباب سقوط النظام السابق. وثانياً ان كل قانون من قوانين التاريخ وكما يعرفها الشهيد الصدر كلمة من الله تبارك وتعالى، تخضع لها الظواهر التاريخية بدون استثناء، والفكر الماركسي اخترته لكي يكون نموذج لهذه الظواهر التاريخية.
فقد طالعنا العقد الاخير من القرن العشرين بتطور مهم على الساحة التاريخية ألا وهو السقوط الماركسي حضارياً وذلك على ايد الشعوب التي كانت نفسها وقوداً احرق في سبيل اخراج هذه التجربة التاريخية إلى حيز الوجود. والسؤال الذي يطرح نفسه هل ان هذا السقوط الحضاري كان صدفة ام ان هنالك سنناً أو قوانين تاريخية تحكمت بصورة دقيقة في هذه الظاهرة التاريخية؟ للاجابة على هذا السؤال لابد من الاشارة إلى خصائص القوانين التاريخية، فالسنن التاريخية في ضوء القرآن الكريم وكما عرفها الامام الشهيد السيد الصدر: «القوانين التاريخية هي التي تتحكم في مسيرة وحركة وتطور التاريخ، فالساحة التاريخية لها سنن ولها ضوابط كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الاخرى، وهذا المفهوم التاريخي يعتبر فتحاً عظيماً للقرآن الكريم، لأننا في حدود ما نعلم، القرآن أول كتاب عرفه الإنسان اكد على هذا المفهوم، وكشف عنه وأصر عليه وقاوم بكل ما لديه من وسائل الاقناع والتفهيم، قاوم النظرة العفوية أو النظرية الغيبية الاستسلامية بتفسير الاحداث».
فالقانون التاريخي هو قانون علمي كبقية القوانين العلمية الكونية الاخرى والتي امتاز بالتتابع وعدم التخلف (ولن تجد لسنة الله تبديلاً) «الاحزاب 62»، (ولا تجد لسنتنا تحويلاً) «الاسراء 77» والخاصية الاخرى للسنة التاريخية هي عدم خروج هذه السنن عن قدرة الله عز وجل بل هي تعبير وتجسيد لقدرة الله. فهي كلماته وسننه وارادته وحكمته في الكون لكي يبقى الإنسان دائماً مسؤولاً من الباري عز وجل، فالخالق سبحانه وتعالى يمارس قدرته من خلال هذه السنن. اما الحقيقة الثالثة التي تمتاز بها القوانين التاريخية فهي ان ارادة واختيار الإنسان تشكل احد طرفي المعادلة العلمية للقوانين التاريخية. فأختيار وارادة الإنسان هي المحور في تسلسل الاحداث والظواهر التي تتحكم فيها القوانين التاريخية.
والآن نعود إلى الموضوع الاصلي وهو السقوط الماركسي. هذه الظاهرة التاريخية لكي تتحكم بها السنن التاريخية لابد ان تحمل ثلاث علاقات. فالعلاقة السببية اي وجود اسباب لحصول هذه الظاهرة التاريخية تعتبر احدى هذه العلاقات. ومن هذه الاسباب دكتاتورية الدولة ودكتاتورية الحزب الواحد وخنقها لحرية الفرد وخصوصاً تحديدها لملكية الإنسان باتجاه عدم التملك، والتخلف الاقتصادي للفرد، وظهور طبقة مترفة فالدولة تعيش على حساب الفرد وهذا ما يناقض الفكر المادي التاريخي الماركسي الذي يؤمن بأن ازالة التناقض الطبقي يؤدي إلى توحيد المجتمع في طبقة واحدة.
العلاقة الثانية التي تحملها هذه الظاهرة التاريخية هي وجود هدف وغاية لهذه الظاهرة. فسقوط حائط برلين والتحرك الجماهيري الساخط لشعوب اوروبا الشرقية واصلاحات البيروسترويكا كلها تحمل هدف ألا وهو اكتساح الفكر الماركسي عن الطريق وايجاد بديل آخر يعالج المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. الخ. وهذا يفسر لنا لماذا حُذف درس الفكر الماركسي من المنهاج المدرسي بعدما كان الدرس الاساسي في المدارس السوفياتية، وبعد ما كان الحزب الشيوعي يعتبر المنهاج الذي تعقد عليه الآمال، تشمئز الجماهير الآن من ذكر كلمة الشيوعية، وبعد ما كان الهدف في الفكر الماركسي محو الملكية الخاصة، تدعو الدولة في الاتحاد السوفيتي افراد الشعب للمساهمة في ملكية القطاع العام. هذه الغاية من التحرك الجماهيري أو العلة الغائية بتعبير الفلاسفة تتميز بها الظاهرة التاريخية عن الظواهر العلمية الاخرى.
اما العلاقة الثالثة التي تحملها الظاهرة التاريخية وتميزها عن الظواهر الكونية الاخرى، فهي ان المجتمع يعتبر ارضية لهذه الظاهرة. فالسقوط الماركسي ذو ارضية اوسع من حدود الفرد وذو موج اتخذ من المجتمع سبب مادي له. فتحرك الجماهير الواسع في رومانيا والمانيا الشرقية وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا.. الخ وكذلك اصلاحات البيروسترويكا تعدّت الهدف أو المصلحة الفردية، وانما يعتبر هذا التحرك عملاً للامة والمجتمع.
من كل هذا نستنتج ان السقوط الحضاري الماركسي يعتبر ظاهرة تاريخية تتحكم بها القوانين التاريخية.
والآن نسلط الضوء على هذا الحدث التاريخي من خلال تحكم السنن التاريخية والتي اكتشفها القرآن الكريم فيه، فالقرآن الكريم يؤمن بأن التغيير الظاهري للامة يتحقق بوجود شرط، ألا وهو تغيير المحتوى الداخلي للانسان: (ان الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم).
فالمستوى الداخلي للانسان هو القاعدة والاساس للبناء العلوي للحركة التاريخية فسقوط الظواهر الخارجية للامة، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، الخ، ينتج التغيير ايمان الاُمّة ككل بالايديولوجية التي تؤدي إلى حصول هذه الظواهر الخارجية. الماركسية عندما تسقط كوجود ظاهري، كبناء علوي، كوضع خارجي، اي كتغيير سياسي، اقتصادي، اجتماعي ينتج ذلك عن تغيير لايمان الاُمّة ككل بالفكر الماركسي. وهذه الحقيقة تعتبر كبديهة ثابتة اشار اليها المفكر الشهيد الامام الصدر. ألا وهي ان الفكر الماركسي يعارض فكرة الإنسان فحب التملك هو نتيجة الدافع الذاتي لغريزة حب الذات، والفكر الماركسي سلب حتى التملك من الفرد، مما ادى ذلك إلى اعراض الإنسان لهذا الفكر. فالدافع الذاتي للفرد مرتبط بالملكية الخاصة، واعتبار حب الذات، كنتيجة للملكية الخاصة وليس كغريزة فطرية في الإنسان، ادى إلى عدم تغيير المحتوى الداخلي للانسان أو ما نسميه بتغيير النفس، وبالتالي إلى هدم البناء الخارجي للامة.
بالاضافة إلى فشل الفكر الماركسي بتغيير المحتوى الداخلي للانسان، فقد فشل باعطاء المثل الاعلى الذي يكون كهدف لعملية هذا البناء. فالهدف أو المثل الاعلى أو المحور الذي يستقطب تغيير البناء الداخلي للانسان في نظر الفكر الماركسي هو المجتمع. فالهدف هو محو الدولة من المجتمع وايجاد العقلية الجماعية لكل البشر فلا يفكر الجميع إلاّ في المصلحة المادية في المجموع. أي الحكم على الشخصية الفردية بالاضمحلال والفناء. هذا النوع من التفكير ادى إلى القضاء على حريات الافراد وحقوقهم الطبيعية في الاختيار والتفكير. وبما ان الإنسان بطبيعته يفكر تفكيراً ذاتياً، ويحسب مصالحه من منظاره الفردي المحدود، لذلك لابد من قوّة حديدية تحبس كل صوت وتخنق كل نفس للقضاء على أي تفكير أو دوافع ذاتية. كل هذا ادى إلى وجود الحكومات الدكتاتورية الرهيبة والتي كانت نهايتها في المعسكر الشرقي على يد الشعوب فيه.
لقد كان الهدف في الفكر الماركسي مشتقاً من التطلع إلى المستقبل والطموح نحو الابداع والتطوير. لكن المشكلة هي ان هذا التطلع والطموح محدود لانه نتج عن عقل وتصور الإنسان المحدود. لذلك عمل على اعطاء نوع من النشاط والتحرك في بادىء الامر ولكن سرعان ما استنفد الهدف طاقاته وفقد فاعليته وقدرته على العطاء حيث اصبح نسخة من الواقع، بعد ان اصبح امراً مفروضاً ومحسوساً وملموساً، كذلك اصبح غير قادر على تطوير البشرية وتصعيدها في مسارها الطويل (من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً) «الاسراء: 18». فالمكاسب التي اعطاها الهدف الماركسي كانت محدودة وعاجلة اعقبتها جهنم وكما صرح السيد الشهيد الصدر، جهنم في الدنيا وجهنم في الآخرة. وفي النتيجة فقد المجتمع الشيوعي ولائه لهذا الهدف حيث تمزقت القاعدة الجماهيرة الواسعة في هذه الاُمّة حيث تمزقت وحدتها لان وحدة الاُمّة انما هي بالهدف الواحد، فاذا ضاع الهدف ضاعت القاعدة. وبذلك رأينا كيف تمزق الاتحاد السوفيتي، وتشتت وتبعثر واشتعلت الحروب بين جمهورياته ولا ننسى الصراع على السلطة في روسيا حيث الضعف والتمزق (بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) «الحشر 14»، لان التناقضات بدأت داخل الاُمّة بعد سقوط الهدف الماركسي، فأصبحت شبح امة، حيث القلوب المتفرقة والاهواء المتشتتة.
والسنة التاريخية الاخرى التي خضعت لها التجربة الماركسية هي متجسدة في الآية الكريمة (ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) «الاعراف 96». حيث تتحدث الآية الكريمة عن علاقة عدالة التوزيع ووفرة الانتاج، فالقرآن الكريم يؤكد ان المجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع لا يمكن ان يقع في ضيق من ناحية الثروة المنتجة وفي فقر بل في ثراء وازدياد الخيرات والبركات.
فالاقتصاد الشيوعي ارتكز على الغاء الملكية الخاصة ومحوها محواً تاماً من المجتمع وتمليك الثروة كلها للمجموع وتسليمها للدولة، باعتبارها الوكيل الشرعي عن المجتمع. لكن المشكلة ان هذا الخط العريض في الاقتصاد الشيوعي اصطدم بواقع الطبيعة الإنسانيّة وبغريزة حب الذات. وبذلك اخذ الافراد يتقاعسون عن القيام بوظائفهم والنشاط في عملهم ويتهربون من واجباتهم الاجتماعية، لان المفروض وحسب قاعدة (من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته) والتي ارتكز كذلك عليها الاقتصاد الماركسي، تأمين النظام لمعيشتهم وسد حاجاتهم، فلماذا يجهد الفرد ويكدح ويجد، ما دامت النتيجة في حسابه هي نفس النتيجة في حالة الخمول والنشاط؟ ولماذا يندفع إلى توفير السعادة لغيره وشراء راحة الآخرين بعرقه ودموعه وعصارة حياته وطاقاته، مادام لا يؤمن بقيمة من قيم الحياة إلاّ القيمة المادية الخالصة؟ ولتحقيق هذا النظام الذي يذوب فيه الافراد مع وجود الإنسان المادي الذي لا يؤمن إلاّ بحياة محدودة يحتاج إلى معجزة، وكما قال الشهيد الصدر ولو تحققت هذه المعجزة فلنا معهم حينئذ كلام. وليت السيد الصدر كان حياً معنا، ورأى كيف اصبحت معجزة الجنة التي وعدونا بها اصحبت جهنم، وكيف اصبحت هذه الشعوب تعاني الفقر والبؤس والضياع والتشتت، وبذلك تتحقق نتيجة السنة التاريخية (وأنّ لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا) «الجن 16» (ولو انهم اقاموا التوارة والانجيل وما أنزل اليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) «المائدة 66».
والسنة التاريخية الاخرى والتي خضعت لها التجربة الماركسية هي كما تتحدث عنها الآية الكريمة (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون) «الروم 30».
فالدين هنا فطرة للناس، أي وكما لا نستطيع ان ننتزع من الإنسان اي جزء من اجزاءه التي تقوّمه كذلك لا يمكننا ان ننتزع من الإنسان دينه، فليس الدين عبارة عن مقولة حضارية يمكننا انتزاعها أو ابقاءها، فالدين سنة الله قائمة في كل زمان والتي يخالفها يأخذ العقاب من السنّة نفسها، حيث تفرض العقاب على كل امة تريد ان تبدّل خلق الله سبحانه وتعالى، ولا تبديل لخلق الله.
فلقد حارب النظام الماركسي الدين محاربة بلا هوادة، حارب المسجد وحارب الكنيسة وحارب كل ما له علاقة بالقيم والاخلاق والغيب، ولكن بعد حوالي سبعين عاماً من الحرب الشعواء على الدين واتباعه وقيمه، وبعد سقوط النظام نتيجة لمحاولة تبديل خلق الله، ولكن لا تبديل لخلق الله فسقط النظام، واتجه الناس لبناء المساجد والكنائس وبنيت الالاف مما يذكر فيها الله سبحانه وتعالى حتى نفدت نسخ القرآن الكريم في سورية واذربيجان مما ارسله المسلمون لهم في الايام الاولى القليلة منذ سقوط النظام الماركسي فيها. فماذا نفسر ذلك؟
لكن الفترة الزمنية التي يمكن بها تحدي القانون التاريخي تتناسب مع السرعة التاريخية وليست مع السرعة الاعتيادية للانسان. فيمكن اعتبار هذه الفترة طويلة بالمقاييس الفردية الاعتبارية ولكنها بالحقيقة قصيرة بالمقاييس التاريخية (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وأن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون) «الحج 47».
من كل ماتقدم نستنتج بأن السقوط الحضاري التاريخي الماركسي لم يكن وليد الصدفة وانما تحكمت فيه السنن أو القوانين التاريخية والتي كشفها لنا القرآن الكريم. وعلى هذا الاساس يمكننا فهم وادراك النظام الدولي الجديد وكذلك يجب على المتصدين لبناء الدولة الإسلامية بناء هذه الدولة على اساس السنن التاريخية حتى يكون بناؤها راسخاً متماسكاً متصلاً بالبناء الاسلامي العالمي المنتظر، والذي سيتم بحول الله تعالى وقوته على يدي صاحب العصر الامام المنتظر الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف.
والحمد لله رب العالمين

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم