موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
علوم القرآن والتفاسير

جاك لانغاد - ترجمة: وجيه أسعد
استخدام شعائري للكلمة المقدسة (القرآن)

القرآن غير شبيه بأي كتاب مقدس من كتب الموروث اليهودي المسيحي: فنحن لا نجد فيه القصص التاريخية الطويلة المؤلفة والمنظمة التي تغطي مرحلة بكاملها، والسورة الطويلة 12 تكوّن استثناء بارزاً مع قصة يوسف. ولا نجد فيه أيضاً ضروباً طويلة من السرد الحقوقي، التي يقدمها لنا كتاب ككتاب (اللاويين): فالأوامر التشريعية التي يحتويها القرآن معروضة بأسلوب أكثر حياة بكثير وأقل تزمتاً، مع شاغل الاستجابة لأوضاع خاصة ومتتالية بدلاً من معالجة مسألة وفق مخطط موضوع مسبقاً. وليس ثمة كذلك أبداً عروض للأسفار الجامعة والأمثال كما في (الأمثال) أو (السفر الجامع).
والقرآن ذكر بالحري ـ ذكر الله وعظمته، ذكر الدار الآخرة، والمكافآت والعقوبات، ذكر متكرر لشخصيات مختلفة وأحداث من تاريخ الناس. إنه أيضاً تبشير يتوجه فيه الله باستمرار إلى الناس ليهديهم ويساعدهم، ويشجعهم أو يهددهم؛ وهذا التبشير تعليم، نبأ عظيم، ولكنه هو أيضاً إنذار وتذكير.
وليس القرآن نصاً متتالياً ينبغي قراءته، ولكنه نص يُصلّى. وتتيح لنا سمات شتى للقرآن أن نعتبره وكأنه نص شعائري، إذا كان بمقدورنا أن نجرؤ على طرح هذه الصفة.
وثمة مسألة أولى ينبغي أن نلفت النظر إليها في هذا الاتجاه هي الأسلوب الأدبي للتكرار: يعود القرآن، شأنه شأن كل كلام حي، عدة مرات إلى التأكيدات نفسها، والأحداث ذاتها، والشخصيات عينها، ويكرر عدة آيات. إنه تكرار ذو علاقة ولا ريب بالشاغل البيداغوجي، ولكن على وفاق تام مع ممارسة شعائرية. وهذا التكرار يتخذ في بعض الأحيان شكلاً منظماً ومؤلفاً، بعناية. هكذا تكرار بداية السورة، البداية نفسها، كما في السورة 81، التكوير، التي تبدأ آياتها من 1 ـ 13 بـ إذا، ((عندما)).
ويتخذ التكرار، في حالات أخرى، شكل لازمة، شكل قول يتكرر، كالآية التالية:
(ولقد يسّرنا القرآن
للذكر
فهل من مدّكر؟).
التي تعود أربع مرات في السورة 54، القمر. ونجد على النحو نفسه أقوالاً تتكرر خمس مرات، عشر بل ثلاثين مرة، كما في السورة المدينية الرحمن، المقطعة على نحو تفريعي تقريباً بهذه الكلمات: (فبأي آلاء ربكما تكذّبان؟) الرحمن/ 55. وتندرج كل هذه الأمثلة، وكثير غيرها، اندراجاً كاملاً في إطار تلاوة طقسية، في إطار عمل من النموذج الشعائري.
وكنا قد قلنا إن كثيراً من أقوال القرآن تصلح للتلاوة. وسنكتفي هنا بأن نستشهد بتوصية من القرآن صريحة على نحو خاص عن هذه المسألة، تؤكد مظهره الشعائري. وهكذا جاء في القرآن، في سياق الحض على الصلاة، مع اللجوء إلى التكرار، تكرار ذي لازمة، لدعوة هي ((هدف)) هذا المقطع:
((إن ربك يعلم
أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه
وطائفة من الذين معك
ـ والله يقدِّر الليل والنهار.
علم أن لن تحصوه فتاب عليكم.
فاقرأوا ما تيسر من القرآن.
ـ علم أن سيكون منكم مرضى.
وآخرون يضربون في الأرض.
يبتغون من فضل الله.
وآخرون يقاتلون في سبيل الله.
فاقرأوا ما تيسر منه
وأقيموا الصلاة ... )) المزمل/ 20.
فثمة هنا، في نهاية السورة، صدى لما كان موصىً به في بدايتها:
((يا أيها المزمل!
قم الليل إلا قليلاً،
نصفه
أو انقص منه قليلاً
أو زد عليه
ورتّل القرآن ترتيلاً)) الآيات: 1 ـ 4.
وإذ دفع بلاشير تحليله إلى حدّ بعيد جداً، فإنه يتكلم على تلاوة مشتركة لمقاطع من القرآن: ((لابدّ، كما يبدو، لجزء من هذا التنزيل أن يكون قد استُخدم، في وقت مبكر جداً مع ذلك، في (التلاوة المشتركة). ونحن في أكمل الارتياب الخاص بالنحو الذي تلا المؤمنون عليه هذه النصوص. وربما كان الأمر أمر إنشاد.
ومهما يكن من أمر، بوسعنا أن نعتبر أن هذه التلاوة كانت ذات تأثير كبير على مَن كان يسمعها. وظروف هداية عمر، خليفة المستقبل، يمكنها، بصدد هذه المسألة، أن تُذكر، يُقال إن هذه الشخصية، المعادية بعنف للدين الجديد في بداية الأمر، عمر، دخل يوماً من الأيام بيت أخته المهتدية سابقاً، التي كانت عندئذ، برفقة زوجها، (تتلو بصوت عال) جزءاً من القرآن. وكان ذلك، بالنسبة لعمر، شعاع النور. وإذ أثاره جمال بعض الجمل التي سمعها، فإنه طلب إعادة المقطع كله فانفعل انفعالاً قوياً حتى انهمرت دموعه)). ويروي البخاري مع ذلك في اتجاه هذه التلاوة العامة دائماً، (حديثاً) يصرّح فيه محمد أنه يحب سماع شخص آخر يقرأ القرآن.
وليس هدفنا من كل ذلك أن نصف على نحو واضح كيف كان القرآن يُتلى في زمن محمد، بل هدفنا أن نلفت النظر إلى الخصائص والجوانب التي تجعل منه نصاً ملائماً على وجه الخصوص لتلاوة من النموذج الشعائري.
وثمة ملاحظتان أخيرتان لنتابع في الاتجاه نفسه. الأولى من النسق الأسلوبي وخاصة بـ السجع (النثر المقفّى) الذي لن نتوسع فيه، ذلك أنه كان قد دُرس دراسة كافية: فلنقتصر على أن نقول إن (السجع) يساعد مساعدة رائعة في إمكان استخدام القرآن استخداماً شعائرياً. والملاحظة الثانية سنقدمها خلاصة لهذا الفصل، إذ نذكر بآيات التسبيح الإلهي الغزير في القرآن الكريم، ونذكر بأمر مفاده أن لفظة (سبحان) محمولة على الله على صورة صلاة تمجيد. إن النص نفسه هو إذن كلام شعائري.
وليس ثمة شيء كان يمكنه أن يلفت الانتباه إلى أهمية اللسان في القرآن أفضل من هذه الإضاءة الشعائرية. وقبل أن نقارب المسألة التالية من هذا التفكر، مسألة ستنصبّ على ((قول)) آخر مرتبط بمحمد والقرآن، (الحديث)، بوسعنا أن نحاول رؤية ما تتيحه لنا عروضنا السابقة أن نجيب عن السؤال الذي كنا قد طرحناه في بداية هذا الفصل: لماذا لا يمكننا أن نجهل القرآن في دراسة تاريخ اللسان العربي السابق عليه؟ ربما يمكننا أن نتبين سببين يبرزان: الأول أن اللسان العربي مع القرآن أصبح لسان الله وسيكون له، بفعل ذلك، ميل إلى أن يحجب أو يدين كل ((قول)) ليس إلهياً. وبالنظر إلى أن الظروف اللاحقة شهدت استيلاء العرب المسلمين على السلطة، استيلاء تلته فتوحات إقليمية، فإن الحيّز الذي كان ممكناً أن تتحرك فيه وتنمو المؤلفات الأدبية العربية السابقة على القرآن تقلّص تدريجياً لمصلحة نشر الإسلام الفاتح.
ويمضي ما قلناه عن العلاقات بين الكتابة والمشافهة وغلبة المشافهة في الاتجاه نفسه أيضاً. وأياً كان حال المكتوب وحال اللسان العربي قبل الإسلام، فإن ثمة نصاً واحداً، بعد مجيء محمد ونزول القرآن الذي يبشر به، سيكون من الآن فصاعداً ذا الأهمية وينبغي إعلانه. ولن يكون المكتوب سوى حامل هذا التبشير: إنه لن يكون سوى علامات مدونة صائرة إلى أن تساعد ((القارئ)) لا أن تعلمه أي شيء كان.
ويرى المرء بصعوبة، في هذه الشروط، كيف كان المتحد يمكنه أن يُعنى بكتابات أخرى إذا صودف أنها كانت موجودة. والحيز الديني والأدبي كله، هنا أيضاً، يشغله القرآن بالتدريج، وينبغي انتظار اهتمامات أخرى حتى يمكن أن تنبعث مجدداً آثار الفاعلية الأدبية والشعرية السابقة.
* المصدر : من القران الى الفلسفة

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم