موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
علوم القرآن والتفاسير

د. محمد جابر الانصاري
النهج الواقعي في القرآن

ينطلق القرآن بمنهجه الواقعي في النظر إلى الشؤون الكونية والطبيعية والإنسانية من حقيقة تقرير التنوع والتعدد والاختلاف في واقع البشر فيقول:
(ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم. إن في ذلك لآيات للعالمين). (الروم/ 22)
إذن فمن آيات الله البينات التي لابد للمسلم أن يتقبلها، ويؤمن بها آية إختلاف ألسنة البشر وألوانهم، وإختلاف الألسنة بطبيعة الحال يعني إختلاف اللغات، وبالتالي إختلاف الثقافات والآداب والفنون والفلسفات، باعتبار اللغة هي الوعاء الحاوي لذلك كله، والمؤثر فيه تأثيراً نوعياً وعضوياً، فاللغة ليست مجرد ألفاظ _كما أثبتت الدراسات اللغوية الحديثة _ وإنما هي حقيقة نفسية وعقلية تسم كل ما يكتب فيها بميسمها وتطبعه بطابعها، والقرآن الكريم ذاته يقرر مدى عمق البعد اللغوي عندما يكرر في آياته الكثيرة صفته "العربية" حيث يقول في إحدى هذه الآيات: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون، قرآناً عربياً غير ذي عوج، لعلهم يتقون). (الزمر/27_28)
لنتأمل في صفتي القرآن هنا والترابط بينهما، أي بين هاتين الصفتين: "عربياً غير ذي عوج".
فلقد إختار الله من بين كل اللغات والألسنة، اللغة العربية لتكون الوعاء الأمين الذي حمل الحقيقة الالهية الكونية القرآنية إلى الإنسانية كلها، ولابد أن ذلك تم لحكمة تتصل بطبيعة الرباط الوثيق بين الحقيقة القرآنية والحقيقة اللغوية العربية. ومدى تقبل لغة العرب لحقائق القرآن وإعجازه، وقدرتها على تجسيد هذا الإعجاز وحدها بين مختلف لغات البشر وألسنتهم بحيث جاء القرآن يحكم الإندماج العضوي بين حقيقته الإلهية، وصفته العربية قرآناً "غير ذي عوج"، بل "قرآنا عربياً غير ذي عوج" بحيث جاءت صفته العربية وكأنها طبيعة ثانية له، بل طبيعته الالهية المطلقة وأصبح وصفه بالكمال (غير ذي عوج) مقترناً بوصفه العربي، بل أن هذا الوصف العربي يأتي ملتصقاً بالقرآن قبل وصف الكمال _ولموضع كل كلمة في الإعجاز القرآني حكمة وغاية _وكأن العربية صفة من صفات القرآن الجوهرية، جزء مكمل لكماله. وإذا كان الوحي، أو روح القدس، هو الوسيلة الالهية التي أوصلت القرآن من الله سبحانه إلى الرسول(ص)، فإن العربية ستبقى بعد توقف الوحي وختام النبوة هي الوسيلة الالهية التاريخية الدائمة والمستمرة لتوصيل الحقيقة إلى سائر البشر، وهي تواصل الان في توصيلها القرآن وتعاليمه إلى كل عقل بشري مهمة الوحي الأولى التي تمت بتوقف الوحي، وختام النبوة ووفاة النبي العربي، وهذا مصداق قوله تعالى: (إن أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) (يوسف/2). ولذلك ورد في المأثور الفقهي الإسلامي (عربيته جزء ماهيته) أي أن عربية القرآن الكريم جزء من جوهره.
إن مودة المسلمين للعرب من دلائل حسن إسلامهم. وكرههم للعرب مدعاة للظن في صدق ما يعلنون من إسلام، وهذه الحقيقة يؤكدها التاريخ العربي الإسلامي على ضوء التيارات الشعوبية التي بدأت بالطعن في العرب، وانتهت بالزندقة في الإسلام ذاته وتشويهه، إذ كان ذلك هدفها البعيد في نهاية المطاف.
اما "إختلاف الألوان" فهو تقرير لحقيقة وجود العروق والأجناس التي يتكون منها الجنس البشري، ومن العروق والأجناس تتفرع القوميات المختلفة بألسنتها المتعددة، فكل قومية في التحليل النهائي هي جنس معين بلغة معينة، وهذا ما عنته الآية بعبارة: (وإختلاف السنتكم وألوانكم).
فهذا (الاختلاف اللساني القومي) إذن ليس بالظاهرة اليسيرة التي نمر بها مر الكرام ونغفلها أو ننكرها. وكيف نستطيع ذلك وهي تلي آية خلق السموات والأرض في صلب المنطوق القرآني الالهي، وتستمد منها أهميتها، بل وبقاءها واستمرارها في واقع البشر ما دامت السماء وما دامت الأرض؟
وهذه اللمحة القرآنية تتوافق إلى حد بعيد مع ما قاله مفكرو القومية المحدثون من أن القومية ليست مرحلة عابرة في التاريخ، وإنما هي ظاهر من ظواهره الباقية، كيف لا وهي في مفهوم القرآن الكريم آية كآية خلق السماوات والأرض؟ يدعو الله البشر جميعاً إلى التأمل فيها، حيث يتبع ذكرها بقوله: (إن في ذلك لآيات للعالمين)، وهذا ما يدعو للتعمق في تقديرها كغيرها من حقائق الخلق.
أليست الظاهرة القومية حقيقة وفطرة اجتماعية أكبر من حقيقة العائلة والعشيرة؟ فكيف يرفض الإسلام الظاهرة الأكبر ويقبل الظاهرة الأصغر؟ أليس إنتماء الإنسان إلى قوم يوازي انتماءه إلى أسرة؟ ثم كيف يعترف الإسلام بملكية الإنسان لمال وعقار ويراعي ميله النفسي لهذه الملكية، ولا يعترف بملكية الإنسان لوطن قومي ولا يراعي ميله النفسي للانتماء إلى أهل لسانه ولونه في حدود هذا الانتماء وأبعاده النفسية والاجتماعية والثقافية؟
والدليل على الفارق بين (القومية) و (العقيدة) في التاريخ، أن قوميات عديدة غيرت عقائدها من وثنية إلى سماوية، ومن رأسمالية إلى اشتراكية، ومن روحية إلى مادية دون أن تفقد صفتها القومية، وإن تشيعت بروح العقيدة.
إن انتشار عقيدة عالمية بين قوميات مختلفة لا يصهرها في بوتقته، فالأمة الأمريكية مسيحية، والأمة الحبشية مسيحية، ومن الصينيين بوذيون، ومن الهنود بوذيون. ولماذا نذهب بعيداً: هل إستعربت تركيا وإيران وباكستان وأندونيسيا وألبانيا بإعتناقها الإسلام؟
-----------------------------------
المصدر : رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية
 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم