آية الليل وآية النهار
عبد الرحمن بن باديس الصنهاجي
{ وجعلنا الليل والنهار ءايتين فمحونا ءاية
اليل وجعلنا ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد
السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلاً ( 12 ) }
لله تعالى في سور القرآن , وعالم الأكوان , آيات بينات دالة على
وجوده , وقدرته , وإرادته , وعلمه , وحكمته . ونعم سابغات موجبة
لحمده وشكره وعبادته .
ولما ذكر تعالى آيته ونعمته بالقرآن الذي يهدي للتي هي أقوم , وذكر
آيته ونعمته بالليل والنهار المتعاقبين على هذا الكون الأعظم .
فقال تعالى : { وجعلنا الليل والنهار آيتين ....}.
الشرح والبيان :
( جعلنا الليل والنهار ) : خلقناهما , ووضعناهما آيتين : وجعل
الشيء هو وضعه على حالة أو كيفية خاصة , فهما حادثان مسيران بتدبير
وتقدير .
و( الليل ) : هو الوقت المظلم الذي يغشي جانباً من الكرة الأرضية ,
عندما تكون الشمس منيرة لجانبها المقابل .
و( النهار ) : هو الوقت الذي يتجلى على جانب الكرة المقابل للشمس
فتضيؤه بنورها . ولا يزالان هكذا متعاقبين على جوانب هذه الكرة
وأمكنتها :
يكور الليل على النهار , بأن يحل محله في جزء من الكرة – وجزء
الكرة مكور- فيكون النهار الحال مكوراً بحكم تكور المحل .
وكذلك النهار يكور عليه فيحل محله من الكرة , فيكون أيضاً مكوراً
بحكم تكور المحل . وإنما جعلنا تكوير أحدهما على الآخر بحلوله محله
, لأنه لايمكن تكويره عليه بحلوله عليه نفسه , لأنهما ضدان
لايجتمعان , وليسا جسمين يحل أحدهما على الآخر .
و(( الآية )) : هي العلامة الدالة . وكان الليل والنهار (( آيتين
)) بتعاقبهما مقدرين بأوقات متفاوتة بالزيادة والنقص في الطول
والقصر , على نظام محكم وترتيب بديع , بحسب الفصول الشتوية
والصيفية , وبحسب الأمكنة ومناطق الأرض : المناطق الاستوائية ,
والقطبية الشمالية , والجنوبية , ومابينهما . حتى يكونا في القطبين
ليلة ويوماً في السنة , ليلة فيها ستة أشهر هي شتاء القطبين , ويوم
فيه ستة أشهر هو صيفهم .
فهذا الترتيب والتقدير والتيسير , دليل قاطع على وجود خالق حكيم
قدير لطيف خبير . الليل في نفسه آية , وفيه آيات , وأظهر آياته هو
القمر . فيقال في القمر : (( آية الليل )) . والنهار في نفسه آية ,
وفيه آيات , وأظهر آياته هي الشمس , فيقال في الشمس : (( آية
النهار )) .وبعدما ذكر تعالى الليل والنهار آيتين في أنفسهما , ذكر
أظهر آيات كل واحد منهما وأضافها اليه . فقال تعالى : { فمحونا آية
الليل .... }.
وليس محو القمر وإبصار الشمس متأخراً عن الليل والنهار . وكيف ؟!
وما كان الليل والنهار إلا بااعتبار إضاءة الشمس لجانب , وعدم
إضاءتها لمقابله .
فليست الفاء في(( فمحونا )) للترتيب في الوجود و وإنما هي للترتيب
في الذكر , وللترتيب في التعقل : فإن القمر والشمس بعض من آيات
الليل والنهار , والجزء متأخر في التعقل عن الكل .
وقد اتفق الكاتبون على الآية – ممن رأينا – على أن المراد من لفظ
الآية في الموضعين واحد :
أ- فإما أن يراد بها نفس الليل والنهار , والإضافة في (( آية الليل
)) و(( آية النهار )) للتبين كإضافة العدد للمعدود .
أو يراد بها الشمس والقمر فيكون : { وجعلنا الليل والنهار آيتين }
, على تقدير مضاف في الأول تقديره هكذا : وجعلنا نيري الليل
والنهار.
أو في الأخير مقدراً هكذا : وجعلنا الليل والنهار ذوي آيتين .
ب- وإما على تقريرنا المتقدم فإن لفظ (( آيتين )) صادق على الليل
والنهار . ولفظ (( آية الليل )) و(( آية النهار )) , صادق على
الشمس والقمر .
وعليه يكون تقدير الآية هكذا : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا
قمر الليل وجعلنا شمس النهار مبصرة .
وهو تقدير صحيح لامعارض له من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى , وسالم
من دعوى تقدير محذوف , ومفيد لكثرة المعنى بأربع آيات : بالليل
وقمره والنهار وشمسه . فالتقديربه أولى , ولذلك فسرنا الآية عليه.
( فمحونا ) المحو هو الإزالة : إزالة الكتابة من اللوح , وإزالة
الآثار من الديار . فمحو (( آية الليل )) إزالة الضوء منها , وهذا
يقتضي أنه كان فيها ضوء ثم أزيل , فتفيد الآية أن القمر كان مضيئاً
, ثم أزيل ضوؤه فصار مظلماً .
وقد تقرر في علم الهيئة أن القمر جرم مظلم يأتيه نوره من الشمس .
واتفق علماء الفلك في العصر الحديث بعد الاكتشافات والبحوث العلمية
أن جرم القمر- كالأرض – كان منذ أحقاب طويلة وملايين السنين شديد
الحمو والحرارة ثم برد , فكانت إضاءته في أزمان حموه وزالت لما برد
.
لنقف خاشعين متذكرين أمام معجزة القرآن العلمية : ذلك الكتاب الذي
جعله حجة لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم , وبرهاناً لدينه على
البشر مهما ترقوا في العلم , وتقدموا في العرفان !!
( فإن ظلام جرم القمر لم يكن معروفاً أيام نزول الآية عند الأمم
إلا أفراداً قليلين من علماء الفلك . وإن حمو جرمه أولاً , وزواله
بالبرودة ثانياً , ماعرف إلا في هذا العهد الأخير .
والذي تلا هذه الآية وأعلن هذه الحقائق العلمية منذ نحو أربعة عشر
قرناً نبي أمي , من أمة أمية , كانت في ذلك العهد أبعد الأمم عن
العلم , فلم يكن ليعلم هذا إلا بوحي من الله الذي خلق الخلائق وعلم
حقائقها !! ) .
كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم
( وجعلنا آية النهار مبصرة ) :
فقد وضعت كذلك من أول خلقها (( مبصرة )) : يبصر بها . والإسناد
مجازي كما نقول لسان متكلم , أي متكلم به , فيسند الشي ء الى ما
يكون به من آلة وسبب . والمبصرون حقيقة ذوو الأبصار , ولكنهم
لاينتفعون بأبصارهم إلا في ضوئها , ولا ينتفعون بها في الظلام .
وإذا كان الضوء يكون من النار ! فأين ضوء النار من ضوء الشمس في
القوة والدوام والعموم ؟!!
وكما أفادت الآية زوال نور القمر – بعد أن كان بمقتضى لفظة ((
فمحونا )) ومدلولها لغة – فإنها تشير الى أن نوره مكتسب , وتومىء
الى أنه من الشمس , وذلك أننا نرى فيه نوراً , مع علمنا أن نوره قد
أزيل , فنعلم قطعاً أن ذلك النور ليس منه .
وإذا كان مذكوراً مع الشمس المبصرة في الاستدلال والامتنان ,
ومعاقباً مصاحباً لها في الظهور , فنوره جاءه وهي التي أبصرته .
وقدم الليل وآيته في ترتيب النظم , لأنه ظلام , والظلام عدم الضوء
. والعدم مقدم على الوجود في هذه المخلوقات .
{ لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب }
ذكر تعالى الليل والنهار وآيتيهما استدلالاً على الخالق ليعرفوه ,
وذكر مافيها من النعمة عليهم ليشكروه ويعبدوه .
فكانت فائدة خلقها على هذا الوجه راجعة للعباد , ليبتغوا ويطلبوا
فضلاً من ربهم بالسعي لتحصيل المعاش , واسباب الحياة , ووجوه
المنافع . وليضبطوا أوقاتهم بعلم عدد السنين الشمسية والقمرية ,
ومااشتملت عليه السنون من الشهور والأيام والساعات .
وليعلموا جنس الحساب الذي منه حساب الشمس وتنقلها في منازلها ,
وحساب القمر وتنقله في بروجه , وحساب أبعادهما , وسعتهما , ومسير
نورهما. ثم حساب ما يرتبط بهما من أجرام سابحة في الفضاء. ((
والابتغاء )) : هو طالب الشيء بسعي اليه ومحبة فيه . ويسمي – تعالى
– طلب أسباب الحياة ابتغاء, تنبيهاً على هذا السعي وهذه المحبة ,
فهما الشرطان اللازمان للفوز بالمطلوب .
كما يسمي – تعالى – المطلوب بالابتغاء فضلاً من الرب , وفضله من
رحمته . ورحمته واسعة لا تضبطها حدود , ولاتحصرها الاعداد –
تنبيهاً على سعة هذا الفضل ليذهب الخلق في جميع نواحيه , ويأخذوا
بجميع أسبابه مما أذن لهم فيه .
وليكونوا – إذا ضاق بهم مذهب – آخذين بمذهب آخر من مسالك هذا الفضل
الرباني الواسع غير المحصور .
وتنبيهاً أيضاً على قوة الرجاء في الحصول على البغية , لأن طلبهم
طلب لفضل رب كريم . ويقول تعالى : ( من ربكم ) – والرب المالك
المدبر لمملوكه بالحكمة فيعطيه في كل حال من أحواله مايليق به ,
ليكون الخلق بعد قيامهم بالعمل راضين بما ييسره الله من أسباب ,
ومايقسمه لهم من رزق , ثقة بعدله وحكمته , فلا يبغي أحد على أحد
بتعد أو حسد .
فهذه الكلمات القليلة الكثيرة , وهي : ( لتبتغوا فضلاً من ربكم )
جمعت جميع أصول السعادة في هذه الحياة :
بالعمل مع الجدة , والمحبة له والرجاء في ثمرته , الذي به قوام
العمران . وبالرضا والتسليم للمولى , الذي به طمأنينة القلب وراحة
الضمير . وبالكف للقلب واليد عن الناس , الذي به الأمن والسلام .
ويذكر تعالى علم عدد السنين , المتضمن لعدد الشهور والأيام
والساعات تنبيهاً لخلقه على ضبط الأعمال بالأوقات , فإن نظام
الأعمال واطرادها وخفتها والنشاط فيها وقرب إنتاجها ... إنما هو
بهذا الضبط لها على دقائق الزمان . كما ذكر – تعالى – جنس الحساب
تنبيهاً على لزومه لهذا الضبط , وجميع شؤون الحياة من علم وعمل ,
فكل العلوم الموصلة الى هذا العد وهذا الحساب هي وسائل لها حكم
مقصدها في الفضل والنفع والترغيب .
( وكل شيء فصلناه تفصيلاً )
فكل مايحتاج اليه العباد لتحصيل السعادتين من عقائد الحق , وأخلاق
الصدق , وأحكام العدل , ووجوه الاحسان .. كل هذا فصل في القرآن
تفصيلاً : كل فصّل على غاية البيان والأحكام ..
وهذا دعاء وترغيب للخلق أن يطلبوا ذلك كله من القرآن الذي يهدي
للتي هي أقوم في العلم والعمل , ويأخذوا منه ويهتدوا به , فهو
الغاية التي ماوراءها غاية في الهدى والبيان .
المصدر تفسير بن باديس