موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
علوم القرآن والتفاسير

د. عبد المنعم النمر
لا تسألوا عن أشياء..

إن المعروف في تاريخ الأديان والمذاهب حتى الوضعية منها أن الدور الأول فيها يكون الجهد فيه منصرفاً إلى القواعد العامة، وإلى إشعال الروح، وإلى التطبيق العملي لتعاليمها.. أما التفريعات والتعليلات، أو التماس فلسفة لهذه القواعد وهذه التعاليم، فذلك يكون بعد إرساء القواعد، وتكميل البناء، وغالباً ما يصاحب ذلك شيء من خمود الروح ولو نسبياً عما كانت عليه في الدور الأول.. دور الحماس وفوران العاطفة..
لقد وجدنا القرآن الكريم يتعرض لأناس يكثرون من سؤال الرسول ووجدوها فرصة يشبعون فيها نهمهم في الأسئلة عما في نفوسهم حتى أدى شغفهم بكثرة الأسئلة إلى أ، يسأل واحد منهم رسول الله: أين أبي؟ فيضطر الرسول إلى أن يخبره أنه في النار، وكان قد مات على الكفر.. ويسأل آخر: مَن أبي؟ وآخر: أين ناقتي؟ وآخر يسأله عن الحج أواجب مرة في العمر أم في كل سنة؟ إلى غير ذلك، فأنزل الله آية تحسم هذه الحالة، وتحد منها، لأنها لا جدوى منها ولا تتناسب مع الرسول ووقته ومهمته، ولا مع الصحابة وما ينبغي أن ينصرفوا إليه في حياتهم، فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) المائدة/ 101، 102.
وفي ألفاظ الآيتين وترتيبها المنطقي من قوة الردع والزجر ما تنخلع منها القلوب وتخرس الألسنة (إن تبد لكم تسؤكم. وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم. ثم (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين). ردع قوي عن الاسترسال في توجيه أسئلة للرسول لا داعي لها فوق أنها تشغله، وما كان هذا الردع القوي إلا لأن (الناس) كانوا كما جاء في حديث أنس (رض): (سألوا نبي الله (ص) حتى أضنوه بالمسألة). وفي حديث آخر يوضح المعنى (فلما أكثروا عليه المسألة غضب). وكان من أثر غضبه عليه الصلاة والسلام أن قال لهم: (ذروني ما تركتكم).
وأجدني في حاجة لأن اقف قليلاً لأوضح: لم غضب الرسول؟ حتى لا أترك في ذهن القارئ علامة استفهام كبيرة لا جواب عنها.
سبب الغضب يمكن أن يبيّنه هذا الحديث (خطب رسول الله (ص) فقال: إن الله قد فرض عليكم الحج. فقال رجل: أفي كل عام؟ فسكت عنه. حتى أعاده ثلاثاً. فقال: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت، ما قمتم بها أو لما استطعتم.. ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه).
فمثل هذا السؤال من الرجل (أفي كل عام؟) لا محل له .. إذ لو كان في كل عام لبينهُ الرسول دون حاجة إلى سؤال أحد. ثم كان على الرجل أن يكون فطناً حين لم يرد عليه الرسول، فيسكت هو الآخر، ولا يتمادى في السؤال، كأنه هو الحريص وحده على البيان.. ومثل هذا الموقف كثيراً ما يدخل صاحبه في باب التنطع الذي قال عنه الرسول (هلك المتنطعون)، والاسلام ذوق، وجمال، وإحساس، وجو، لابد أن يشيع فيه هذا كله.
والذين مارسوا مهنة الدعوة أو التدريس، هم أكثر الناس إدراكاً وفهماً لمثل هذا الموقف، فكثيراً ما يجابه المدرس بأسئلة، تنطلق من بعض الطلاب كالرشاش في (الفاضي والمليان) وقبل الشرح أحياناً، وخارج موضوع المدرس أحياناً، ولو استرسل المدرس مع السائل لتشتت الموضوع، وضاع الوقت، وتبرم الباقون، ولو سكت الطالب (المتسائل) لجاءه الشرح الذي ينبغي له أن يفهمه، ولا يزيد عليه، وخرج هو وزملاؤه بالفائدة المرجوة..
ثم ماذا ربح السائل: أين أبي؟ (حين قال له: في النار.. ومعروف أن الذين ماتوا على الكفر مآلهم النار كما قال عمر ملطفاً حدة الموقف، ثم هذا الذي سأل: مَن أبي؟ أكان يضمن ـ كما قالت له أمه توبخه ـ أن أمه علقت فيه من غير أبيه فكان يفضحها أمام الجميع ويفضح نفسه؟ جوٌ اندفع إليه الصحابة، ولم يكن لائقاً أبداً بهم ولا بالرسول ومهماته..
فكان لابد للرسول أن يغضب من هذه الحالة التي تضيع الوقت وتبعد المسلمين عن الطابع الجدي الوقور، الذي يجب أن يكون طابع مجالس الرسول، ومجالس العلم بعامة، وطابع الجد الذي يعيشون فيه.
ومن هذا يتضح جلياً سبب الغضب، ويبعد عن الأذهان ما قد يناوشها من أن الرسول لم يكن يحب أن يسأل عن بيان أمر شرعي، يتصل بتصحيح عقيدة المؤمن وعمله، لأن ذلك يتنافى مع طبيعة الرسالة ومهمة الرسول..
ولعل الأمر يزداد وضوحاً إذا ذكرت هنا آية أخرى في هذا المقام ـ ولو أن الاستطراد سيطول ـ لكن هذه النقطة لابد أن أوضحها تماماً .. ولا أترك لها مخلفات في الأذهان .. هذه الآية من سورة المجادلة تقول: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم) المجادلة/ 12.
كيف هذا؟
هل مناجاة الرسول ومحادثته تقتضي أن يتصدق المتحدث قبل أن يقدم على مناجاته؟
أليس الرسول مبيّناً، ومن مهمته أن يتحدث للناس ويستمع إليهم.
بلى. من مهمته ذلك. ولكن حسن خلقه وسيره على طبيعته السهلة أطمع كل من حوله في أن يتحدث معه، ويناجيه، وقد ينفرد به، وقد يشغله، وقد يقتحم عليه أوقات راحته، وقد يتحدث معه في توافه الأمور، فكان تواضعه وحسن خلقه سبباً في ايجاد شيء من عدم الدقة في فهم مقام الرسول، وما ينبغي أن يكون عليه الحديث معه.. ولما يجب من توفير وقته للمهم من الأمور، أو كما نقول سبباً في (رفع الكلفة) في الحديث معه، فكان لابد من وقفة، أو من هزة تنبه الجميع إلى ما يجب أن يكون عليه الحديث مع الرسول، فليس هو مثلهم. إنه رسول .. وإذا كان قد رباه ربه على التواضع، فليس معنى ذلك أن تزيلوا كل حجاب، أو ترفعوا الكلفة بينكم وبينه وتشغلوا كل وقته بأسئلتكم ومحادثاتكم.
إن مقامه عظيم، ومقام المحادثة معه عظيم، يقتضي أن يقدم مَن يريد الحديث معه صدقة. نعم، لا حجاب، ولا حراس، ولا استئذان ولكن صدقة من مال، أفهمتم مقام الرسول؟ أفهمتم خطورة التحدث معه؟ لابد أن تتأدبوا. لابد أن تحتاطوا.
وعرفوا قدر المحادثة مع الرسول ومناجاته وقيمة وقته، وأحجموا .. حتى أقرب الناس إليه وهو علي (رض)، لما أراد أن يحدثه، قدّم صدقة قبل أن يتحدث معه، ثم تحدث .. وكان المهم أن يعوا هذا الدرس، ويعلموا أنهم يتحدثون مع رسول الله، ولابد أن يكون الحديث جدياً مناسباً لمقامه.
وقد فهموا هذا ووعوه، ثم أدركتهم رحمة الله سريعاً وأعفتهم من هذه الصدقة، لكن بعد أن فهموا وتعلموا، فقال الله لهم (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقت فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون) المجادلة/ 13.
ومنه حفظكم لمقام الرسالة والرسول وتأدبكم في الحديث معه.
وفي معنى هذا أيضاً يقول الله: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) من أواخر سورة النور، وقوله في أوائل سورة الحجرات: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون، إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم، إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ـ كما ينادون أمثالهم ـ أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم).
أدب مع النبوة يجب أن تتأدبوا به. فلما غفلوا عنه غضب الرسول وغضب الله له. حتى لا يكون هؤلاء (المتنطعون) سبباً في الإثقال على غيرهم.. كما قال الله: (إن تُبدَ لكم تسوءكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تَبدَ لكم). وكما قال الرسول: (لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم).
ولقد كان هذا الدرس نافعاً ومفيداً، بل ذهب إلى نفوس الصحابة إلى أكثر من مداه .. وهذا هو شاهدنا وموضع هدفنا من الآية وأثرها..
فلقد تخوف الصحابة من السؤال، أي سؤال، وتحرجوا منه، مما يمكن أن نعده رد فعل لما كانوا عليه أولاً، قبل أن يغضب الرسول وتنزل الآية .. فقد أداهم الخوف والخشية إلى أن يحجموا عن الأسئلة، خوفاً من أن يبدو منهم ما قد يكون محل مؤاخذة فآثروا العافية .. والرواية الآتية تبين لنا إلى حد آثروا العافية وتخوفوا الأسئلة..
روى مسلم في صحيحه عن أنس (رض) قال: (كنا نهينا أن نسأل رسول الله (ص) عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل الغافل من أهل البادية ـ أي الذي لم يبلغه أمر النهي كما بلغنا ـ فيسأله ونحن نسمع)، وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي أمامة قال: (لما نزلت، يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء) الآية، كنا قد اتقينا أن نسأله (ص) فأتينا أعرابياً، فرشوناه برداء وقلنا سل النبي (ص) والأعرابي ليس بملتزم بما يلتزمه المقيمون مع الرسول.. والرشوة هنا ليست هي الرشوة المحرمة طبعاً، بل هي تحريض على خير يريدونه ولا يستطيعونه.
وروى مسلم أيضاً عن النواسي بن سمعان قال: (أقمت مع رسول الله (ص) سنة بالمدينة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي (ص) ).
فلم يتخذ النواسي صفة المقيم بالمدينة حتى لا ينطبق عليه ما ينطبق على المقيمين مع الرسول من تحشم واحتياط في الأسئلة، وظل سنة ضيفاً، دون أن يأخذ حكم الاقامة، لتكون له الحرية في سؤال الرسول عما يريد. لأن الحرج كان خاصاً بالمقيمين لا بالمسافرين.. لأنهم يتزودون بالعلم ويرحلون، وتسامح معهم أكثر مما يتسامح مع المقيمين.
وروى أبو يعلى عن البراء (إن كان ليأتي عليّ السنة، أريد أن أسأل رسول الله (ص) عن الشيء فأتهيب، وإن كنا لنتمنى الأعراب، أي قدومهم، ليسألوا فيسمعوا هم الأجوبة عن أسئلة الأعراب فيستفيدوا منها..).
ومع أن الآية ـ كما يفهم من مدلولها ـ لم تنهم عن السؤال أياً كان موضوعه، بل نهتهم عن أسئلة من نوع خاص، بينته لهم (إن تبدلكم تسؤكم) كما أن الحالة التي نزلت الآية تعالجها كانت مفهومة عندهم، أقول ومع ذلك أحدثت الآية في نفوسهم رد فعل زائد عن الحد المطلوب فيها.
ولو أنهم ـ مع هذا المعروف عنهم ـ لم يغفلوا أول الأمر عما كان يجب عليهم من مراعاة مقام الرسول، والحفاظ على وقته الثمين، الذي يجب صرفه كله للأمور المهمة، لما حصل هذا كله .. ولكنه درس لهم، ولكل مَن أتى أو يأتي من بعدهم، حتى لا تشغلهم التوافه عن العظائم، ولا يتشددوا فيشدد الله عليهم، وحتى يوفروا للعلماء ولمن يدبرون لهم الأمور أوقاتهم، وينزلوا الناس منازلهم.
ونعود بعد هذا لنتساءل: هل معنى هذا أنه لم يعد بعد نزول الآية استفسار من الصحابة للرسول عن أمور تهمهم في دينهم؟
لا.. إذ لا يمكن أن تزول ظاهرة السؤال والجواب.. ما دام الرسول حياً .. ينزل عليه الوحي بتشريعات جديدة، تحتاج أحياناً ـ ولدى بعض الناس على الأقل ـ إلى استفسار وتوضيح..
فما معنى تهيب هؤلاء، حتى كانوا يستعينون بالوافدين عليهم، أو ينتظرون قدومهم، ليسمعوا أسئلتهم وجواب الرسول عنها؟
الذي أفهمه من جملة النصوص ومن طبيعة الرسالة معاً أنه حدث تهيب عام من الأسئلة بعد نزول الآية، لم يمتد إلى الضروري مما تمس الحاجة إلى السؤال عنه .. ولكنه وضع حداً للسؤال فيما لا تمس الحاجة إليه، ولا تتوقف صحة العقيدة والعمل عليه .. بالاضافة إلى أن بعض الناس رأى من باب الأحوط أن يأخذ نفسه بعدم السؤال عن شيء، خوفاً من الوقوع في الحرج، مكتفياً بما يسمعه من سؤال الوافدين على الرسول، وإجابته لهم، أو ببيان صحابي له، يكون أكثر إدراكاً وفهماً منه..
ومما لا شك فيه أن هذا الجو الذي أحدثه نزول هذه الآية كان له تأثيره فيما يتصل بالاستفسار عن بعض ما في القرآن من ألفاظ وموضوعات ذكرنا شيئاً منها، وتساءلنا: كيف تمر في عهد الرسول، دون أن يسأل أحد من الصحابة عنها أو دون أن يصلنا شيء موثوق به عن معناها وتفسيرها، وكان من الممكن ـ لو وجد ـ أن يقطع كل خلاف بين العلماء حول تفسيرها.
المصدر : علم التفسير

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم