قد يزعم البعض أن في ذلك تناقضاً في القرآن،
فتارة يرى من تقدير الأمور مثبتاً في اللوح المحفوظ (في كتاب من
قبل أن نبرأها) الحديد/ 22. وأخرى تقديرها في ليلة القدر لكل عام
(فيها يفرق كل أمر حكيم) الدخان/ 4.
قلت: ليس التقدير مما يختلف وإنما يختلف العلم به، فالذي يعلم
تقدير الأمور ومجاريها أزلاً وفي اللوح المحفوظ هو الله وحده لا
شريك له. وأما الذي يتنزل به ويطلع أولياءه عليه فهو في ليلة
مباركة هي ليلة القدر من شهر رمضان من كل عام. يتنزل الملائكة
والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر. يتنزلون بتقادير الأمور على
الحجة القائم من أوليائه ليطلعه على مجاري الأمور عامه ذلك. وبذلك
تواترت روايات أئمة أهل البيت الصادقين (ع) ومن ثم فإن علمهم الحتم
بمجاري الأمور محدود بعامهم، دون علم الله المحيط الشامل.
والدليل على ذلك أن الوارد في سورتي الدخان والقدر هو النزول
والتفريق، وليس أصل التقدير، فتدبر جيداً.
فالله تبارك وتعالى يعلم تقدير الأمور حسب مجاريها علماً في الأزل،
لكنه تعالى ينزل بهذا التقدير في كل ليلة قدر بشأن تفريقه طول ذلك
العام، الأمر الذي لا يبدو عليه أي شبهة تناقض.
جاء في سورة الدخان أن التقدير إنما يقع في كل ليلة قدر من شهر
رمضان في كل سنة (فيها يفرق كل أمر حكيم) الدخان/ 3. وقد وردت
روايات أيضاً بأن ما يقع في تلك السنّة إنما يقدّر في ليلة القدر.
هذا، في حين كثرة الآيات والروايات بأن التقدير إنما وقع في الأزل،
وتجري الأمور حسبما قدّرت في اللوح المحفوظ من غير تخلف ولا تبديل
(ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن
نبرأها) الحديد/ 22. (وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلا في
كتاب) فاطر/ 11.
على أن هذه الآيات ترمي إلى سلب مسؤولية الانسان عما يفعله، حيث
إنه كان مقدّراً له من قبلُ. وهذا يتنافى وقوله تعالى: (وكل إنسان
ألزمناه طائره في عنقه ونخرجه له يوم القيامة كتاباً يلقاه
منشوراً) الإسراء/ 13.
أما المسألة الأولى، فتتعلق بالبداء وأن هناك تقديرين، تقدير ظاهري
حسب مجاري الأمور الطبيعية من علل وأسباب تتفاعل حسب طبيعتها
الأولى، وهي السنن الساطية على الكون. (إنا كل شيء خلقناه بقدر)
القمر/ 49.
وهذه السنن ليست حتمية، في حين كونها هي الغالبة، حيث احتمال
مفاجئة أمور طارئة من خارج مدارات السنن فتغير من اتجاهاتها
أحياناً. الأمر الذي لا يعلمه إلا الله وكان مقدّراً أي معلوماً
لديه تعالى في الأزل، خافياً عن أعين الخلائق إلا من علّمه الله.
وهذا هو التقدير المكنون في اللوح المحفوظ. (هو الذي خلقكم من طين
ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده) الأنعام/ 2.
فالأجل الأول هو الذي تقتضيه مجاري الأمور الطبيعية حسب السنن
الجارية في الخلق، وهذا ليس بحتم. أما الأجل الآخر الحتمي فهو الذي
علمه الله في الأزل حسب الأسباب الطارئة الخافية عن غيره تعالى.
(لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) الرعد/ 38
و39.
روى الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق (ع) قال: وهل يمحو الله إلا
ما كان؟ وهل يثبت إلا ما لم يكن؟
فهناك تغيير وتبديل على خلاف مجاري الأمور، لا يعلمه إلا الله
علماً كائناً في الأزل.
قال الإمام الباقر (ع): من الأمور أمور موقوفة عند الله، يقدم منها
ما يشاء ويؤخر منها ما يشاء ويثبت منها ما يشاء. أي: من الأمور ما
هي موقوفة ـ في جريانها حسب العادة الطبيعية ـ على شرائط، إن وُجدت
جرت، وإلا تخلّفت. فحصول هذه الشرائط في وقتها أو عدم حصولها شيء
لا يعلمه إلا الله.
فالعلم بالتقادير الحتمية الأزلية خاص بالله تعالى. أما غيره تعالى
من الملائكة المقربين والمدبرات أمراً وكذا المصطفون من عباد الله
المكرمين فلا علم لهم بسوى مقتضيات السنن الطبيعية في مجاري
الأمور، والتي هي بمعرض البداء والتبديل، أما حتميتها فهذا شيء
إنما يعرفونه في كل ليلة قدر من كل سنة وفي محدودة عامها فحسب.
قال الإمام الصادق (ع): (إن لله علمين، علم مكنون مخزون لا يعلمه
إلا هو، من ذلك يكون البداء. وعلم علّمه ملائكته ورسله وأنبياءه،
فنحن نعلمه). وقد عنى بهذا العلم الذي تعلمه الملائكة والأنبياء
والأئمة هو العلم وفق مجاري الأمور الطبيعية، والتي يمكن التخلف
فيها. ومن ثَمّ قال الإمام أمير المؤمنين (ع): والله لولا آية في
كتاب الله لحدثتكم بما يكون إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى:
(يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) الرعد/ 38.
* * *
وأما المسالة الثانية: هل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟ فمن
المعروف أن التقدير السابق لا يعدو سوى العلم بما سيقع وتقديره
حسبما يقع، من غير أن يكون العلم السابق ذا أثر في تحقق المعلوم.
فإن للظواهر الكونية عللاً وأسباباً تكوينية هي التي تؤثر في الفعل
والانفعال التكوينيين. كما أن للأفعال الاختيارية الصادرة من
الفاعل المختار (الحيوان والانسان) سبباً مباشراً هي إرادته بالذات
وليس مقهوراً فيها.
فإذا كان الله يعلم ـ أزلاً ـ ماذا سيقع وسيتحقق عبر الأبد ثم قدّر
مجاريها ودبّر من شؤونها بما يتوائم ونظام الكون فهذا لا يعني
الإجبار، ولا سيما فيما يعود إلى أعمال يقوم بها الانسان حسب
إرادته واختياره. وليس من المنطق أن يُفرض العلم بأمر علةً لوجوده.
والتقدير السابق، إنما هو العلم بالأسباب والمسببات ـ كما هي ـ ثم
تدبير مجاريها حسب نظام الكون. فلا هناك جبر ولا سلب للمسؤولية
فيما يمس أفعال العباد الاختيارية.
*المصدر : شبهات وردود حول القران الكريم