موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
علوم القرآن والتفاسير

محمد حسين الطباطبائي
نشأة البرزخ وإثباتها قرآنياً

يقول تعالى: (ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون).
فالآية تدل دلالة واضحة على حياة الانسان البرزخية، كالآية النظيرة لها وهي قوله: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) آل عمران/ 169، والآيات في ذلك كثيرة.
ومن أعجب الأمر ما ذكره بعض الناس في الآية: أنها نزلت في شهداء بدر، فهي مخصوصة بهم فقط، لا تتعداهم إلى غيرهم هذا، ولقد أحسن بعض المحققين من المفسرين في تفسير قوله: (واستعينوا بالصبر والصلوة) الآية، إذ سأل الله تعالى الصبر على تحمل أمثال هذه الأقاويل.
وليت شعري ماذا يقصده هؤلاء بقولهم هذا؟ وعلى أي صفة يتصورون حياة شهداء بدر بعد قتلهم مع قولهم بانعدام الانسان بعد الموت والقتل، وانحلال تركيبه وبطلانه؟ أهو على سبيل الإعجاز باختصاصهم من الله بكرامة لم يكرم بها النبي الأكرم وسائر الأنبياء والمرسلين والأولياء المقربين؟ إذ خصهم الله ببقاء وجودهم بعد الانعدام، فليس ذلك بإعجاز بل ايجاد محال ضروري الاستحالة، ولا إعجاز في محال، ولو جاز عند العقل إبطال هذا الحكم على بداهتها لم يستقم حكم ضروري فما دونه أم هو على نحو الاستثناء في حكم الحس بأن يكون الحس مخطئاً في أمر هؤلاء الشهداء؟ فهم أحياء يرزقون بالأكل والشرب وسائر التمتعات ـ وهم غائبون عن الحس ـ وما ناله الحس من أمرهم بالقتل وقطع الأعضاء وسقوط الحس وانحلال التركيب فقد أخطأ في ذلك من رأس، فلو جاز على الحس أمثال هذه الأغلاط فيصيب في شيء ويغلط في آخر من غير مخصص بطل الوثوق به على الاطلاق، ولو كان المخصص هو الإرادة الإلهية احتاج تعلقها إلى مخصص آخر، والإشكال ـ وهو عدم الوثوق بالإدراك على حاله، فكان من الجائز أن نجد ما ليس بواقع واقعاً والواقع ليس بواقع، وكيف يرضى عاقل أن يتفوه بمثل ذلك؟ وهل هو إلا سفسطة؟
وقد سلك هؤلاء في قولهم هذا مسلك العامة من المحدثين، حيث يرون أن الأمور الغائبة عن حواسنا مما يدل عليه الظواهر الدينية من الكتاب والسنة، كالملائكة وأرواح المؤمنين وسائر ما هو من هذا القبيل موجودات مادية طبيعية، وأجسام لطيفة تقبل الحلول والنفوذ في الأجسام الكثيفة، على صورة الانسان ونحوه، يفعل جميع الأفعال الانسانية مثلاً، ولها أمثال القوى التي لنا غير أنها ليست محكومة بأحكام الطبيعة: من التغير والتبدل والتركيب وانحلاله، والحياة والموت الطبيعيتين، فإذا شاء الله تعالى ظهورها ظهرت لحواسنا، وإذا لم يشأ أو شاء أن لا تظهر لم تظهر، مشيئة خالصة من غير مخصص في ناحية الحواس، أو تلك الأشياء.
وهذا القول منهم مبني على إنكار العلية والمعلولية بين الأشياء، ولو صحت هذه الأمنية الكاذبة بطلت جميع الحقائق العقلية، والأحكام العلمية، فضلاً عن المعارف الدينية ولم تصل النوبة إلى أجسامهم اللطيفة المكرمة التي لا تصل إليها يد التأثير والتأثر المادي الطبيعي، وهو ظاهر.
فقد تبين بما مرّ: أن الآية دالة على الحياة البرزخية، وهي المسماة بعالم القبر، عالم متوسط بين الموت والقيامة، ينعم فيه الميت أو يعذب حتى تقوم القيامة.
ومن الآيات الدالة عليه ـ وهي نظيرة لهذه الآية الشريف ـ قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) آل عمران/ 171، ولو تدبر القائل باختصاص هذه الآيات بشهداء بدر في متن الآيات لوجد أن سياقها يفيد اشتراك سائر المؤمنين معهم في الحياة، والتنعم بعد الموت.
ومن الآيات قوله تعالى: (حتى إذا جاء أ؛دهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) المؤمنون/ 100، والآية ظاهرة الدلالة على أن هناك حياة متوسطة بين حياتهم الدنيوية وحياتهم بعد البعث، وسيجيء تمام الكلام في الآية إن شاء الله تعالى.
ومن الآيات قوله تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً يوم يرون الملائكة) ومن المعلوم أن المراد به أول ما يرونهم وهو يوم الموت كما تدل عليه آيات أخر: (لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجراً محجوراً * وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا * أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً * ويوم تشقق السماء بالغمام) -وهو يوم القيامة- (ونزّل الملائكة تنزيلاً * الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسيراً) الفرقان/ 21، 26، ودلالتها ظاهرة.
ومن الآيات قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) المؤمن/ 11، فهنا إلى يوم البعث ـ وهو يوم قولهم هذا ـ إماتتان وإحياءان، ولن تستقيم المعنى إلا بإثبات البرزخ، فيكون إماتة وإحياء في البرزخ وإحياء في يوم القيامة، ولو كان أحد الإحياءين في الدنيا والآخر في الآخرة لم يكن هناك إلا إماتة واحدة من غير ثانية.
ومن الآيات قوله تعالى: (وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) المؤمن/ 46، إذ من المعلوم أن يوم القيامة لا بكرة في ولا عشي فهو يوم غير اليوم.
والآيات التي تستفاد منها هذه الحقيقة القرآنية، و تؤمي إليها كثيرة، كقوله تعالى: (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليّهم اليوم ولهم عذاب أليم) النحل/ 63، إلى غير ذلك.
*المصدر : الميزان في تفسير القران/المجلد الاول

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم