موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
علوم القرآن والتفاسير

محمد هادي معرفة
منهج ابن عباس في التفسير

كان ابن عباس تلميذ الإمام أمير المؤمنين (ع)، ومنه أخذ العلم وتلقى التفسير، سواء في أصول مبانيه أم في فروع معانيه، فقد سار على منهج مستقيم في استنباط معاني القرآن الحكيم.
إنه لم يَحد عن منهج السلف الصالح في تفسير القرآن وفهم معاني كتاب الله العزيز الحميد، ذلك المنهج الذي رست قواعده على أسس قويمة ومبان حكيمة.
وقد حدد ابن عباس معالم منهجه في التفسير بقوله: ((التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله)).
فالقرآن، فيه مواعظ وآداب وتكاليف وأحكام، يجب على المسلمين عامة المعرفة بها والعمل عليها، لأنها دستور الشريعة العام. فهذا يجب تعليمه وتعلمه، ولا يعذر أحد بجهالته.
وفيه أيضاً غريب اللغة ومشكلها، مما يمكن فهمها وحل معضلها، بمراجعة الفصيح من كلام العرب الأوائل، لأن القرآن نزل بلغتهم، وعلى أساليب كلامهم المعروف.
وفيه أيضاً نكات ودقائق عن مسائل المبدأ والمعاد، وعن فلسفة الوجود وأسرار الحياة، لا يبلغ كنهها ولا يعرفها على حقيقتها غير أولي العلم، ممن وقفوا على أصول المعارف، وتمكنوا من دلائل العقل والنقل الصحيح.
وبقي من المتشابه ما لا يعلمه إلا الله، إن أريد به الحروف المقطعة في أوائل السور، حيث هي رموز بين الله ورسوله، لم يُطلع الله عليها أحداً من العباد سوى النبي والصفوة من آله، علّمهم إياها رسول الله (ص).
وإن أريد به ما سوى ذلك مما وقع متشابهاً من الآيات، فإنه لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم، وهم رسول الله والعلماء الذين استقوا من منهل عذبه الفرات، لا سبيل إلى معرفتها عن غير طريق الوحي. فالعلم به خاص بالله ومَن ارتضاه من صفوة خلقه.
وعلى ضوء هذا التقسيم الرباعي يمكننا الوقوف على مباني التفسير التي استندها ابن عباس في تفسيره العريض:
ـ أولاً: مراجعة ذات القرآن في فهم مراداته
إذ خير دليل على مراد أي متكلم، هي القرائن اللفظية التي تحفّ كلامه، والتي جعلها مسانيد نطقه وبيانه، وقد قيل: للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء ما دام متكلماً، هذا في القرائن المتصلة. وكثيراً ما يعتمد المتكلمون على قرائن منفصلة من دلائل العقل أو الأعراف الخاصة، أو ينصب في كلام آخر له ما يفسر مراده من كلام سبق، كما في العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، وهكذا ...
فلو عرفنا من عادة متكلم اعتماده على قرائن منفصلة، ليس لنا حمل كلامه على ظاهره البدائي، قبل الفحص واليأس عن صوارفه.
والقرآن من هذا القبيل، فيه من العموم ما كان تخصيصه في بيان آخر، وهكذا تقييد مطلقاته وسائر الصوارف الكلامية المعروفة.
وليس لأي مفسر أن يأخذ بظاهر آية ما لم يفحص عن صوارفها وسائر بيانات القرآن التي جاءت في غير آية، ولا سيما والقرآن قد يكرر من بيان حكم أو حادثة ويختلف بيانه حسب الموارد، ومن ثم يصلح كل واحد دليلاً وكاشفاً لما أبهم في مكان آخر.
وهكذا نرى مفسرنا العظيم، عبدالله بن عباس، يجري على هذا المنوال، وهو أمتن المجاري لفهم معاني القرآن، ومقدم على سائر الدلائل اللفظية والمعنوية. فلم يغفل النظر إلى القرآن الكريم نفسه، في توضيح كثير من الآيات التي خفي المراد منها في موضع، ثم وردت بشيء من التوضيح في موضع آخر. شأنه في ذلك شأن سائر المفسرين الأوائل، الذين ساروا على هدى الرسول (ص).
فمن هذا القبيل ما رواه السيوطي بأسانيده إلى ابن عباس، في قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحيينا اثنتين...) قال: كنتم أمواتاً قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة، ثم أحياكم، فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور، فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه حياة. فهما ميتتان وحياتان، فهو كقوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون)، وهكذا أخرج عن ابن مسعود وأبي مالك وقتادة أيضاً.
ـ ثانياً: رعايته لأسباب النزول
ولأسباب النزول دورها الخطير في فهم معاني القرآن، حيث الآيات والسور نزلت نجوماً، وفي فترات وشؤون يختلف بعضها عن بعض. فإذ كانت الآية تنزل لمناسبة خاصة ولعلاج حادثة وقعت لوقتها، فإنها حينذاك ترتبط معها ارتباطاً وثيقاً. ولولا الوقوف على تلك المناسبة، لما أمكن فهم مرامي الآية بالذات، فلابد لدارس معاني القرآن أن يراعي قبل كل شيء شأن نزول كل آية، ويهتم بأسباب نزولها. هذا إذا كان لنزولها شأن خاص، فلابد منن النظر والفحص.
وهكذا اهتم حبر الأمة بهذا الجانب، واعتمد كثيراً لفهم معاني القرآن على معرفة أسباب نزولها، وكان يسال ويستقصي عن الأسباب والأشخاص الذين نزل فيهم قرآن وسائر ما يمس شأن النزول، وهذا من امتيازه الخاص الموجب لبراعته في التفسير. وأبواب الصحابة يسألهم الحديث عن رسول الله (ص)، كان حريصاً على طلب العلم ومنهوماً لا يشبع:
من ذلك ما رواه جماعة كبيرة من أصحاب الحديث، بإسنادهم إلى ابن عباس، قال: لم أزل حريصاً أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي (ص) اللتين قال الله تعالى بشأنهما: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ... ) حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالأداوة، فتبرز ثم أتى، فصببت على يديه فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبي (ص) اللتان قال الله، (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما)؟ فقال: وا عجباً لك يا ابن عباس! هما: عائشة وحفصة. (الدر المنثور/ ج6/ ص242)
ولقد بلغ في ذلك الغاية، حتى لنجد اسمه يدور كثيراً في أقدم مرجع بين أيدينا عن سبب النزول، وهو سيرة ابن إسحاق التي جاء تلخيصها في سيرة ابن هشام.
قال: وكان ابن عباس يقول: فيما بلغني نزل في النضر بن حارث ثمان آيات من القرآن: قول الله عزوجل: (إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين)، وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن.
قال: وحُدثت عن ابن عباس أنه قال ـ وسرد قصة سؤال أحبار اليهود النبي (ص) عند مقدمه المدينة ـ : فأنزل الله عليه فيما سألوه عنه من ذلك: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ... ).
قال: وأنزل الله تعالى عليه فيما سأله قومه من تسيير الجبال (ولو أن قرآناً سيرت به الجبال ... ).
قال: وأنزل عليه في قولهم: خذ لنفسك (وقالوا مال هذا الرسول ... )، وأنزل عليه في ذلك من قولهم: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ... )، وكذا في قوله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ... ): إنما أنزلت من أجل أولئك النفر ... وهكذا يتابع ذكر أسباب نزول آيات، وفي الأكثر يسندها إلى ابن عباس.
وقد برع ابن عباس في هذه الناحية من نواحي أدوات التفسير، حتى كان يخلص آيَ القرآن المدني من المكي. فقد سأل أبو عمرو ابن العلاء مجاهداً عن تلخيص آي القرآن المدني من المكي، فقال: سألت ابن عباس عن ذلك، فجعل ابن عباس يفصلها له. وهكذا نجد ابن عباس بدوره قد سأل أُبيّ بن كعب عن ذلك.
كما تقصى أسباب النزول فأحسن التقصي، فكان يعرف الحضري من السفري، والنهاري من الليلي، وفيم أُنزل وفيمن أُنزل، ومتى أُنزل وأين أُنزل، وأول ما نزل وآخر ما نزل، وهلم جراً، مما يدل على براعته ونبوغه في تفسير القرآن.
ـ ثالثاً: اعتماده المأثور من التفسير المرويّ
اعتمد ابن عباس في تفسيره على المأثور عن النبي 0ص) والطيبين من آله والمنتجبين من أصحابه. كان يستطرق أبواب الصحابة العلماء، ليأخذ منهم ما حفظوه من سنة النبي وسيرته الكريمة. وقد جدَّ في ذلك واجتهد مبلغ سعيه وراء طلب العلم والفضيلة، حتى بلغ أقصاها. وقد سئل: أنّى أدركت هذا العلم؟ فقال: بلسان سؤول وقلب عقول.
هو حينما يقول: ((جُلّ ما تعلمت من التفسير من علي بن أبي طالب (ع) ))، أو ((ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب))، إنما يعني اعتماده المأثور من التفسير، إذا كان الأثر صحيحاً صادراً من منبع وثيق.
وهكذا عندما كان يأتي أبواب الصحابة بغية العثور على أقوال الرسول في مختلف شؤون الدين ومنها المأثور عنه في التفسير، إن ذلك كله لدليل على مبلغ اعتماده على المنقول صحيحاً من التفسير.
فهو عند كلامه الآنف إنما يُلقي الضوء على تفاسيره بالذات، وأنها من النمط النقلي في أكثره، وإن كان لا يصرح به في الموارد، بعد إعطاء تلك الكلية العامة.
ـ رابعاً: اضطلاعه بالأدب الرفيع
لا شك أن القرآن نزل بالفصحى من لغة العرب، سواء في مواد كلماته أم في هيئات الكلم وحركاتها البنائية والإعرابية، اختار الأفصح الأفشى في اللغة دون الشاذ النادر. وحتى من لغات القبائل اختار المعروف المألوف بينهم دون الغريب المنفور. فما أشكل من فهم معاني كلماته، لابد لحلها من مراجعة الفصيح من كلام العرب المعاصر لنزول القرآن، حيث نزل بلغتهم وعلى أساليب كلامهم المألوف.
وهكذا نجد ابن عباس يرجع، عند مبهمات القرآن وما أُشكل من لفظه، إلى فصيح الشعر الجاهلي، والبديع من كلامهم الرفيع. وكان استشهاده بالشعر إنما جاءه من قبل ثقافته الأدبية واضطلاعه باللغة وفصيح الكلام. وفي تاريخ الأدب العربي آنذاك شواهد رائعة تُشيد بنبوغه ومكانته السامية في العلم والأدب. وساعده على ذلك ذكاء مُفرط وحافظة قوية لاقطة، كان لا يسمع شيئاً إلا وكان يحفظه بكامله لوقته.
يروي أبوالفرج الأصبهاني بإسناده إلى عمر الركاء، قال: بينا ابن عباس في المسجد الحرام وعنده نافع بن الأزرق (رأس الأزارقة من الخوارج) وناس من الخوارج يسألونه، إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين موردين أو مُمصّرين حتى دخل وجلس. فأقبل عليه ابن عباس فقال: أنشدنا، فأنشده:
أَمِن آل نُعْم أنت غادٍ فمبكر
غداةَ غدٍ أم رائحٌ فَمُهجِّر؟
حتى أتى على آخرها فأقبل عليه نافع بن الأزرق، فقال: الله يابن عباس! إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنا، ويأتيك غلام مُترَف من مترفي قريش فينشدك:
رأت رجلاً أمّا إذا الشمس عارضت
فيُخزَى وأما بالعشيّ فيخسر!
فقال: ليس هكذا قال. قال: فكيف قال؟ فقال: قال:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضـ
ـت يُضحَى وأما بالعشيّ فيحصر!
فقال: ما أراك إلا وقد حفظت البيت! قال: أجل! وإن شئتَ أن أُنشدك القصيدة أنشدتك إياها. قال: فإني أشاء. فأنشده القصيدة حتى أتى على أخرها. وما سمعها قط إلا تلك المرة صفحاً، وهذا غاية الذكاء.
فقال له بعضهم: ما رأيت أذكى منك قط! فقال: ولكني ما رأيت قط أذكى من علي بن أبي طالب (ع).
وكان ابن عباس يقول: ما سمعت شيئاً قط إلا رويتُه.
ثم أقبل على ابن أبي ربيعة، فقال: أنشد، فأنشده:
تشطُّ غداً دارُ جيراننا ... وسكت.
فقال ابن عباس: وللدارُ بعد غدٍ أبعدُ!
فقال له عمر: كذلك قلت ـ أصلحك الله ـ أفسمعته؟ قال: لا، ولكن كذلك ينبغي!! (الأغاني/ ج1/ ص81)
وهذا غاية في الفطنة والذكاء، مضافاً إليه الذوق الأدبي الرفيع!
وهو الذي كان يحفظ خطب الإمام أمير المؤمنين (ع) الرنانة فور استماعها، فكان راوية الإمام في خطبه وسائر مقالاته.
* * *
وكان ذوقه الأدبي الرفيع وثقافته اللغوية العالية، هو الذي حدا به إلى استخدام هذه الأداة ببراعة، حينما يفسر القرآن ويشرح من غريب لفظه. كان يقول: الشرع ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن، الذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها، فالتمسنا معرفة ذلك منه.
وأخرج ابن الأنباري من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: إذا سألتموني عن غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب.
وأخرج الطبري من طريق سعيد بن جبير ـ في تفسير قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ـ عن ابن عباس، وقد سئل عن (الحرج)، قال: إذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر فإن الشعر عربي. ثم دعا أعرابياً فقال: ما الحرج؟ قال: الضيق. قال ابن عباس: صدقت.
وكان إذا سئل عن القرآن، في غريب ألفاظه، أنشد فيه شعراً. قال أبو عبيد: يعني كان يستشهد به على التفسير.
قال ابن الأنباري: وقد جاء عن الصحابة والتابعين كثيراً، الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر، قال: وأنكر جماعة ـ لا علم لهم ـ على النحويين ذلك، وقالوا: إذا فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلاً للقرآن. وليس الأمر كما زعموا، بل المراد تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشعر، لأنه تعالى يقول: (إنا جعلناه قرآناً عربياً)، وقال: (وهذا لسان عربي مبين).
المصدر : التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم