نعني بالتوطين تحديد مكان الحادث، الجواب عن
السؤال: أين؟. أين نشأ الإسلام؟ الجواب هو تحديد وطن الإسلام،
والحدث هنا هو بالتأكيد نشأة الإسلام، لا مفهوم الإسلام عامّةً لأن
الإسلام كدين وحضارة وسلوك وفن.. إلخ، انتشر في أماكن عدة. هذا
المثل البسيط ينبّهنا إلى أن المسألة ليست سهلة.
إن فكرة اقتران حدث ما بموقع في الكون من مسلمات علم التنجيم. يحدد
المنجمون الزمان بموقع معين في السماء. ثم يربطونه بموقع على وجه
الأرض. ورث هذه المسلمة الاخباريون وبعدهم المؤرخون. فأصبح تقليداً
راسخاً لديهم أن يثبتوا تلك المسلمة في مستهل مؤلفاتهم دون أن
يعلّلوا، وربما دون أن يدركوا، السرّ في إيرادها، وبما أنها لا
توظف لاحقاً لأي غرض توضيحي أو تفسيري فتبدو وكأنها مقحمة في
الموضوع. كبار المؤرخين وحدهم، أصحاب النظر والتحقيق، يفصلونها عن
أصلها التنجيمي ويستغلونها بهدف استدلالي. ثوقديد مثلاً، قبل أن
يدخل في صلب موضوعه الذي هو حرب البيلوبونيز، يحلل علاقة أثينا
بالبحر والتجارة واعتماد اسبارطه على الأرض والفلاحة، ثم لا يفتأ
يذكرنا فيما بعد أن المواجهة لم تكن فقط بين مدينتين أو حلفين أو
نظامين سياسيين، بل كانت أيضاً بين نوعين متميزين من الإنتاج ونمط
العيش والتربية، وبالتالي بين نظرتين إلى الحرب والسلم.
تطور التأليف التاريخي فانفصلت علاقة الحدث بالموقع عن جذورها
التنجيمية، عن تأثير الأجرام العلوية، لتتمحور حول تأثير البيئة.
لاحظ الفلاسفة الطبيعيون في عهد مبكر، بعد الرعاة والفلاحين
والسيّاح المتجولين، أن كل أسرة نباتية توجد في رقعة محدودة من
الأرض، وكذا كل أسرة حيوانية: لكل من النخل والزيتون والعنب وطن،
ولكل من الفَرَس والجمل والبقر وطن، والإنسان، الذي يعيش مع وعلى
الحيوان الذي يعيش بدوره على النبات، لا بدّ أن يتأثر بكل ما يحيط
به في المنطقة التي يعيش فيها. هذا استنتاج منطقي تقوّيه الملاحظة.
يتأثر الإنسان، في جسمه وذهنه، بالوطن الذي يقطن فيه، ومشاريعه،
عندما يتصورها أول مرة وعندما ينفّذها، تتأثر حتماً بما يحيط بها.
كما أن تلك المشاريع، بعد إنجازها، تترك آثاراً ثابتة في الرقعة
الأرضية التي أنجزت فيها.
نسوق مقتطفات من مقدمة ابن خلدون تدلّ على تجاوز الفكرة نطاق
الأخلاق إلى مجال الاقتصاد والثقافة. يعرض المؤلف أولاً لأثر
الهواء في أخلاق البشر ويمثل على ذلك بالاختلاف المشهود بين سكان
مصر ومدينة فاس (ص149)، ثم يخصّص فصلاً لتفاوت أحوال العمران في
الخصب والجوع وما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر وأخلاقهم
(ص 151)، ثم يقول: "اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو
باختلاف نحلتهم في المعاش". (ص 210). ويذهب بعيداً في هذا الاتجاه
حيث يؤكّد: "وأما أهل الأقاليم الثلاثة المتوسطة، أهل الاعتدال في
خَلقهم وخُلقهم وسيرهم وكافة الأحوال الطبيعية للاعتمار لديهم من
المعاش والمساكن والصنائع والعلوم والرياسات والملك، وكانت فيهم
النبوءات والملك والدول والشرائع والعلوم والبلدان والأمصار
والمباني والفراسة والصنائع الفائقة وسائر الأحوال المعتدلة". (ص
146). الواقع أن ابن خلدون يسير على نهج مطروق في التأليف العربي
الإسلامي ومعلوم أن جان بودان، الذي أولى المسألة أهمية كبرى في
كتابه منهجية التأريخ، أثنى على ذلك التأليف في شخص حسن الوزان
(ليدون الافريقي) بسبب وصفه الدقيق لأحوال افريقيا ومزجه أوصاف
الأماكن بأخبار الحوادث فاطلق عليه اسم جيو _ مؤرخ (ص 64). ومعلوم
كذلك أن مونتسكيو تأثر كثيراً ببودان، فلا غرابة إذا لاحظنا
تشابهاً كبيراً بين تحليلاته وتحليلات ابن خلدون.
منذ بداية تدوين التاريخ والاحساس قوي إذاً بأنه لا يمكن فصل
الوقائع عن مواطنها، الخبر يشير في آن إلى الإنسان وإلى موطنه، بيد
أنه لابس المسألة شيء من الغموض بعد القرن الثامن عشر من جراء
ازدهار العلوم الطبيعية وتأثيرها على بعض المؤرخين حتى ذهبوا إلى
القول إن الموقع يحتم حدوث وقائع معينة (نظرية الحتمية الجغرافية،
أو سلطة العامل الجغرافي في التاريخ)، فوقعت ردّة عنيفة ضد هذا
الاتجاه لدى المؤرخين.
------------------------------
المصدر : مفهوم التاريخ / ج2