موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
السيرة والتاريخ

محمد السماك
خلفية الصراع بين العرب والغرب

يقول الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو: "إن الشعوب السعيدة، هي الشعوب التي لا تاريخ لها". قياساً على هذه النظرية الاجتماعية، فإن التاريخ الغني لشعوب هذه المنطقة الممتدة من أواسط آسيا حتى شواطىء الأطلسي يعكس مدى افتقار شعوبها إلى السعادة. لعب عاملان أساسيان الدور الأهم في إغناء تاريخ المنطقة. العامل الأول ديني، وهو هبوط وحي الرسالات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام فيها. والثاني حضاري، وهو قيام الحضارات الإنسانية الأولى في مناطق ما بين النهرين، والنيل، والبحر المتوسط.
أول "استيطان" عربي كان في اليمن حيث قامت مملكة يعرب. هذه المملكة انقسمت إلى ممالك كانت مملكة سبأ أقواها وفرضت نفوذها من العالم 750ق.م إلى العام 115 ق.م مثل إخوانهم الفينقيين، كان السبأيون يعيشون على التجارة. كانوا ينقلون عطورهم وتوابلهم مع لآلىء الخليج، وحرير الصين، ومنسوجات الهند إلى أوروبا. وكانت طريق قوافل الجمال تمتد على طول البحر الأحمر _ عبر مكة، إلى البحر المتوسط.
انهارت هذه التجارة العربية المزدهرة عندما قام الرومان، في العام 250ق.م. بإعادة فتح قناة بحرية ظلت مقفلة حوالي الستماية سنة. تربط بين نهر النيل والبحر الأحمر. سلك الرومان الطريق البحرية _ النهرية (البحر المتوسط _ نهل النيل _ البحر الأحمر) لمنافسة التجارة العربية. وأقاموا على الطريق قواعد لهم، فكانت تلك أول حركة استعمارية غربية في العالم العربي انطلاقاً من المنافسة التجارية. وبانهيار تجارة السبأيين، سقطت مملكة سبأ.
امتدت مملكة النبطيين _نسبة إلى نبط ابن إسماعيل _ في البتراء من العقبة حتى تخوم دمشق. في العام 312م. تعرضت إلى غزو روماني قام به خليفة الاسكندر، وأصبحت بعد قرنين مستعمرة رومانية للامبراطور تراجان.
حافظت مملكة تدمر على حيادها بين روما وفارس حتى نهاية القرن الأول بعد الميلاد. موقعها الستراتيجي على طريق التجارة الدولية بين البحر المتوسط والخليج العربي جعلها أغنى مدن الشرق. تمكن حاكمها "أرذينه" في العام 260م. من تحرير سوريا من الفرس، طاردهم حتى عاصمتهم حتى تدمر باسم روما سوريا ومصر وآسيا الوسطى. لكن في العام 266م اغتال الرومان "أوذينه" فثارت عليهم زوجته "زنوبيا" وأخرجتهم من سوريا واحتلت منهم الاسكندرية ونصبت ابنها ملكاً على مصر، وأعلنت نفسها ملكة الشرق، إلى أن تمكن الرومان منها واعتقلوها.
أقام الرومان _واليونانيون _ مراكز ثابتة لهم في دمشق والقدس، ولما اعتنقت الامبراطورية الرومانية المسيحية ديناً (منذ صدور قرار ميلانو عن الامبراطور قسطنطين في العام 313م) اتخذ الصراع مع العرب الطابع الديني.
بدأ انتشار المسيحية بين القبائل العربية في سوريا وفلسطين والعراق في القرن الخامس الميلادي. أبرز هذه القبائل قبيلة غسان التي تنصرت وتعاونت مع الامبراطور البيزنطي جوستينيان Justinian عندما غزا العراق، وهزم اللخميين في الحيرة في دلتا دجلة والفرات والذين تنصروا بدورهم فيما بعد. كافأ جوستينيان الزعماء الغساسنة فعينهم نواباً للحاكم البيزنطي تيبيريوس Tiberius في سوريا.
لحقت بهم قبائل عربية أخرى في جنوب ووسط الجزيرة العربية. وفي العام 340م، غزا اليمن امبراطور الحبشة المسيحي (وكان حليفاً لبيزنطة) وخلال فترة الاحتلال التي دامت أربعين عاماً جاء وفد مسيحي بيزنطي وأقام عدة كنائس في عدن.
في بداية القرن السادس اعتنق اليهودية "ذو نواس" حاكم سبأ. اليهود العرب اتهموا المسيحيين بالعمالة للحبشة مما أدى إلى وقوع اضطرابات دينية بين المسيحيين واليهود، طلب المسيحيون حماية بيزنطة.
وجدت بيزنطة في الاضطرابات فرصة للتدخل لكبح التوسع الفارسي في المنطقة. وتحت شعار الدفاع عن المسيحيين، قام الحلف البيزنطي _ الحبشي بغزو اليمن مرة ثانية. هذا التدخل أدى إلى سقوط مملكة سبأ التي حولها الأحباش إلى مستعمرة مدة خمسين عاماً. تعاون الحميريون مع الفرس لطرد الأحباش. وفي العام 575م انتقلت اليمن من السيطرة الحبشية إلى السيطرة الفارسية مدة نصف قرن آخر...
مع مطلع القرن السادس _ الميلادي _ كان العرب ضحية صراع الامبراطوريات الثلاث ببيزنطة وفارس في الشمال، والحبشة (وفارس) في الجنوب. هذا الوضع أدى إلى انهيار الاقتصاد العربي وإلى التقهقر الاجتماعي، إلى أن جاء الإسلام، فوحّد العرب، وهزم الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، ودفع بالحبشة إلى ما وراء البحر.
في العام 711م وصل العرب المسلمون غرباً إلى إسبانيا، وبعد مئة سنة من وفاة النبي محمد (ص) وقعت معركة بواتييه Poitiers في جبال البرينيه Pyrenees. ففي العام 732م قاد عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي قواته عبر هذه الجبال التي تفصل إسبانيا عن فرنسا، واحتل "ناربون" Narbonne، وأقام قيادته فيها تمهيداً للتحرك شمالاً نحو باريس، وشرقاً نحو روما. هناك اصطدم بقوات التحالف المسيحية بقيادة شارل مارتل Charles Martel قرب بواتييه. استخف المسلمون العرب بأعدائهم الذين جروهم إلى حرب الغابات الباردة. قتل عبد الرحمن بن عبد الله برمح، فانكفأت القوات العربية.
في العام 1095م، بدأت الحروب الصليبية، في تشرين الثاني _نوفمبر، من ذلك العام، وفي مدينة كليرمونت بفرنسا Clermont، ألقى البابا أوربان الثاني Urban II دعوة للحرب تلبية لنداء امبراطور بيزنطة لطرد السلاجقة من آسيا الصغرى.. بل ولطردهم من القدس، لإنقاذ الصليب المقدس.
في العام 1219م تعرضت الحضارة الإسلامية العربية إلى حملة إبادة على يد جنكيز خان. بعد موته في العام 1241م جاء حفيده هولاكو، الذي تزوج من مسيحية، وتحالف مع بيزنطة. نص الحلف فقط على المحافظة على الكنائس المسيحية، ولكنه نص أيضاً على استرداد القدس من المسلمين، مقابل مساعدة بيزنطة له في حربه ضد العرب. من أجل ذلك أطلق عليه البابا لقب صاحب السمو Your Serenity، ودعاه لاعتناق المسيحية.
الهجوم على بغداد أدى إلى مقتل أكثر من مليون شخص، أي ما يعادل ثلاثة أرباع السكان. ولأول مرة منذ ستماية سنة أصبح المسلمون بلا خليفة بعد اغتيال الخليفة المستعصم إثر خيانة وزيره.
بدأ انحسار حملة الإبادة هذه على يد السلطان المملوكي الظاهر بيبرس الذي تغلب على المغول في معركة عين جالوت في 13 أيلول _ سبتمبر _من العام 1260م. انتقم السلطان من الصليبيين، وحتى من المسيحيين العرب الذين تحالفوا مع البيزنطيين، وواصل تقدمه حتى أنطاكية. جاءت الإمدادات الصليبيين من فرنسا في العام 1271م، فتوقف تقدم السلطان، واحتفظ الصليبيون بقواعدهم في عكا وصور وطرابلس.
بعد موت هولاكو تولى قيادة المغول "الايكا" الذي طلب مساعدة من البابا ضد المماليك، وحثه على إرسال حملة صليبية جديدة. ولكن الغرب الذي أنهكته تلك الحروب لم يستجب هذه المرة لنداءات البابا...
في العام 1303م انحسرت الموجة المغولية بعدما هزم السلطان سيف الدين قلاوون قائد المغول غازان خان (حفيد هولاكو) وحرر بقية فلسطين في العام 1291م.
تجددت حملة الإبادة على الحضارة الإسلامية العربية بعد قرن من الزمن على يد تيمورلنك الذي احتل بغداد في العام 1393م، وارتكب فيها مجازر أفظع من مجازر جنكيز خان. وفي مدينة تكريت ومسقط رأس صلاح الدين، أقام تيمورلنك هرماً من جماجم ضحاياه من المسلمين العرب. وبموته في العام 1404م، توقف الغزو التاتاري والمغولي الذي بدأه جنكيز خان قبل مائة وستين عاماً.
***
بعد أقل من نصف قرن، في العام 1453م احتل الأتراك المسلمون القسطنطينية. وامتنع البابا عن تقديم النجدة لبيزنطة بسبب عدم حماسه للدفاع عن المسيحية الأرثوذكسية. وبعد سنوات قليلة أصبح الأتراك يفرضون سيطرتهم على المنطقة من جبال طوروس حتى نهر الدانوب في قلب أوروبا. ثم تمددوا جنوباً حتى شملت سيطرتهم كل العالم العربي، تحت شعار الخلافة العثمانية.
الهجوم العسكري المعاكس لأوروبا تأخر حتى العام 1798م. عندما غزا نابليون بونابرت مصر. "يجمع المؤرخون على أن الحملة الفرنسية على مصر كانت من أكثر الحملات في التاريخ سفكاً للدماء. قضت فيها ألوف مؤلفة، بينها، على سبيل المثال 4100 تركي قتلوا بأمرين من بونابرت، وذلك بعد استسلامهم للحامية الفرنسية. إضافة إلى كثيرين غيرهم قضوا في المعارك وفي الاغتيالات والمذابح. أما جنود الحملة، الذين كانوا يتناقصون يومياً بفعل المعارك والانتحارات والطاعون والجوع والرمد، فلم يرجع إلى فرنسا إلا نصفهم.
خلال مؤتمر مدريد أوفد الملك المغربي مولاي الحسن (1873 _ 1894م) (جد الملك الحسن الثاني ملك المغرب اليوم) بعثة إلى السلطان عبد الحميد لطلب دعمه ومساعدته ضد التكالي الأوروبي على المغرب. قامت قيامة أوروبا ضد هذه المبادرة. وتخوفت من بعث الحمية الإسلامية من جديد، فتصدت لها وأجهضتها. وبعد مؤتمر الجزيرة قام الملك المغربي عبد الحفيظ بمبادرة مماثلة تجاه السلطان العثماني محمد رشاد ولكن نتائجها لم تكن أفضل من المبادرة الأولى.
كان هناك دائماً تفاهم أوروبي على منع الأمة العربية من أي شكل عملي من أشكال التضامن والتعاون. وكان هناك دائماً تفاهم أوروبي على منع الأمة العربية من الإفادة من الخلافات الأوروبية حول اقتسام النفوذ في الوطن العربي.. وكان هناك دائماً تفاهم أوروبي على إبقاء سقف منخفض للتسلح العربي وحتى للمعرفة العربية بالتقنية العسكرية. وكان هناك دائماً تفاهم أوروبي على ضبط العلاقات العربية مع الدول الأخرى، ولمنع قيام تحالفات عربية دولية ذات فعالية أو تأثير والإبقاء على العلاقات العربية مع دول الجوار في آسيا وأفريقيا في حالة من الاضطرابات وعدم الثقة. ولعل آخر مظهر من مظاهر هذا التفاهم الأوروبي هو تفتيت الأمة العربية إلى وحدات صغيرة، وتحريض الأقليات المذهبية والأثنية فيها لإثارة الفتن والاضطرابات الداخلية. وهنا تبرز خطورة العامل الإسرائيلي "كمملكة لاتينية صليبية" جديدة في قلب الأمة العربية.
فالصهيونية هي في جوهرها ثمرة من ثمار العقل الأوروبي ومظهر من مظاهر حضارته، كالفاشية والنازية والشيوعية والهبية والوجودية... وغيرها.. وبالتالي فإن الكيان الإسرائيلي رغم أنه يعكس طموحات توراتية ورغم أنه يدعي تحقيق نبؤات دينية تقوم على وعد إلهي مقطوع ومبرم لبني إسرائيل، فإنه يشكل الإسفين الأوروبي في قلب الأمة العربية، والخندق الأمامي للدفاع عن المصالح الستراتيجية الأوروبية بمنع قيام وحدة الأمة العربية.
قامت الوحدة العربية على أساس دولة المدينة المنورة في عهد النبي (ص) أي على أساس وحدة الدين والشريعة واللغة والتربية والاجتماع. جسدت الخلافة هذه الوحدة بعد النبي عليه السلام واستمرت رمزاً لها في العهدين الأموي والعباسي، وحتى في عهود السلاجقة (في الجزيرة والعراق) والأيوبيين (في سوريا ومصر) والمماليك (في الحجاز واليمن ومصر وسوريا) وحتى في عهد الموحدين في المغرب. وبعد سقوط بغداد بأيدي المغول، انتقلت الخلافة _بعد انقطاع ثلاث سنوات فقط _ إلى القاهرة عاصمة المماليك في العام (1261م _ 659ه‍). وتواصلت رمزاً لوحدة الأمة حتى سقوط دولة المماليك في العام 1517م. وبعد قيام العهد العثماني، حافظت على دورها التوحيدي حتى مطلع القرن التاسع عشر.
أدى سقوط الخلافة بعد قيام الحركة القومية التركية، كما أدى تنصيب فيصل بن الحسين أول ملك عربي _على العراق _ على أساس نظام حكم ملكي علماني، وبمبادرة بريطانية، إلى قيام حالة من الانقسام بين نظام الحكم وقاعدة الوحدة.
هذه المسيرة التاريخية الطويلة من المد والجزر بين الشرق والغرب، قبل المسيحية وبعد الإسلام، تتواصل اليوم في كافة الميادين بوجوه متعددة. وفي كل مرة يلوح في أفق الشرق بريق وعي قومي أو إسلامي، يستنفر الغرب عداه ويتحفز لوأده. من أجل ذلك يتابع الغرب باهتمام وعن كثب كل مظهر من مظاهر الصحوة الإسلامية للانقضاض عليها قبل أن يصلب عودها. برنارد لويس المستشرق اليهودي المتخصص في شؤون العالم الإسلامي يبرر هذا الاهتمام بقوله:
"أولاً إن الأماكن المقدسة المسيحية موجودة في الشرق، فمن الطبيعي قيام الحشرية لدى الغربيين المسيحيين للتعرف إلى هذه الأماكن، بينما لا أماكن مقدسة للمسلمين في الأراضي المسيحية، ثم إن جماعات كبرى من المسيحيين ظلت موجودة في الشرق الإسلامي، فالعرب في الشرق الأوسط خارج الجزيرة هم في غالبيتهم الساحقة من المسيحيين، قبل الفتح الإسلامي، بعضهم اعتنق الاسلام وبعضهم لبث على دينه، سواء في سوريا أم فلسطين أم مصر أم في أفريقيا الشمالية دون أن نحسب إسبانيا والبرتغال؛ السبب الثالث هو ذاك الشعور بالخطر الذي كان قوياً لدى الأوروبيين، خطر الغزو الإسلامي في الألف سنة الأولى من الفتح الإسلامي حتى حصار فيينا في العام 1683م، فالعرب اجتازوا جبل طارق، والألب والبيرينيه قبل أن ينسحبوا. ثم جاء الأتراك، فاجتازوا الدردنيل والدانوب وحاصروا العاصمة النمساوية مرتين. إذن هناك ألف سنة من الشعور بالخطر كافية لبعث حشرية الأوروبي تجاه خصمه الشرقي".
--------------------------------
المصدر : موقع الاسلام في صراع الحضارات

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   ||  موسوعة السيرة والتاريخ