إن جندية الإيرانيين في سبيل الاسلام ـ سواء ما
بلغ منها إلى نتائجها الإيجابية وما لم يصل منها إلى النتائج على
الرغم من المساعي والجهود الخاصة ـ لهي إحدى الصفحات البيضاء في
العلاقة بين الاسلام وإيران.
وإن قيام الإيرانيين بوجه الحكومة الأموية الذي انتهى بظهور الدولة
العباسية كان نوعاً من هذه الخدمات للأمة الاسلامية، إذ أن هذا
القيام المسلح كان لإقامة الشعائر الاسلامية وإرجاع المسلمين إلى
صراط الدين. وإن كان قيامهم هذا مع انتصاره المسلح لم يكن موفقاً
توفيقاً تاماً وذلك لأن الأسرة التي تسنمت الحكم لم تكن أحسن من
سابقتها الأموية. ولقد قامت في إيران في القرن الثاني والثالث
الهجريين ثورات غير إسلامية وأحبطت من قبل الإيرانيين أنفسهم وإن
الدقة في التاريخ تكفلت لنا ببيان أن الذين أحبطوا هذه الثورات
كانوا من الإيرانيين أنفسهم دون العرب.
فلولا الجنود والقواد المسلمون الإيرانيون لكان من المحال أن تحبط
الدولة العربية تلك الثورة التي قادها في آذربايجان بابك خرم دين،
مع كل ما قدمت هذه الحروب إذ قدمت مما يقرب من مائتين وخمسين ألفاً
من الضحايا... وهكذا سائر الثورات التي كان يقودها المقنع أو
السنباد أو ستادسيس أو غيرهم.
وكان السلطان محمود الغزنوي قد صبغ حروبه في الهند صبغة إسلامية،
فكان الجنود المسلمون الإيرانيون يتقدمون فيها باندفاع إلى الجهاد
الاسلامي المقدس. وكذلك كان الأمر في الحروب الصليبية حيث إن
سلاطين إيران صدوا حملة الصليبيين الغربيين باسم الاسلام وبفعل
الشعور الاسلامي.
وإن الجنود المسلمين الإيرانيين هم الذين ذهبوا بالاسلام إلى آسيا
الصغرى لا العرب ولا غيرهم. ولنستمع هنا إلى مقال الدكتور السيد
جعفر شهيدي في كتاب الذكرى الألفية للشيخ الطوسي (قده) يقول:
إن كلمة (بلاد الروم) في عرف المسلمين كانت عبارة عن ممالك الروم
الشرقية كما كانوا يلقبون بالبحر الأبيض المتوسط ببحر الروم وعلى
هذا فهم كانوا يسمون آسيا الصغرى: بلاد الروم وحينما فتح المسلمون
أراضي الشام رأوا أن من الضروري أن يفتحوا آسيا الصغرى أيضاً.
وأراد معاوية الهجوم عليها ولكنه فوجئ بمخالفة الخليفة عمر بن
الخطاب. إلا أنه تحققت أمنيته هذه وتقدم في الحرب حتى عمورية. ولا
زالت هذه الأراضي على عهد خلافتي الأمويون والعباسيين مجالاً للأخذ
والرد، وكانت مدن وقلاع تلك المنطقة تتناولها الأيدي وتتداولها من
يد إلى أخرى. ويشهد التاريخ أنه لم يتمكن الخلفاء الأمويين ولا
العباسيون أن يمكنوا الاسلام ويرسوا دعائمه في جميع أرجاء هذه
المنطقة... حتى تأتي حكومة السلاجقة فتغير أوضاع هذه المنطقة،
وتحكم هذه الأسرة جميع مناطق آسيا الصغرى، وتبدأ رسالة تبليغ
الاسلام فيها ونشر معارفه باللغة والأدب الفارسي المنظوم والمنثور،
وبلغ الأمر إلى أن طلع علينا من تلك المنطقة في سماء العرفان، جلال
الدين فأضاء منطقته أولاً، ثم سرت أنواره مع اللغة الفارسية حيثما
كانت. وننقل عن كتاب (مسامرة الأخبار) للقسرائي في تاريخ آسيا
الصغرى عبارة ترينا وجهة النظر عند القادة المسلمين والأمة
الإيرانية إلى الأراضي المفتوحة: لو كان غرض خلفاء الاسلام من فتح
العراق أو الأراضي الغربية أخذ الجزية وزيادة الخراج والفيء
وعمرانب يت المال فإنه لم يكن ينظر قادة الفتوحات الشرقيون، إلا
إلى نشر الاسلام فقط يقول القسرائي:
((قصد ارميانوس ملك الروم مع مائة وعشرين ألفاً من الجنود بلا
الاسلام وتوجه إلى دانشمند)) ملك نكيسار وسيواس وتوقات وابلستان
وغيرها. فبعث الملك دانشمند رسلاً إلى ملوك الاسلام خلفه حرضهم على
مقابلة عساكر الكفار ووعد (قلج أرسلان) أن إذا حصل الظفر وصله
بمائة ألف دينار ولاه ملك ابلستان.
واتفق قلج أرسلان مع سائر ملوك تلك النواحي لصيانة الدين وحماية
الاسلام، واجتمعوا وعزموا على غزو الكفار ووهب الله لهم النصر
وانهزم ارميانوس بعد حروب ومقابلات كثيرة، ولم ينج من الكفار إلا
قليلون. وأرسل الملك دانشمند مائة ألف درهم إلى قلج أرسلان وتوقف
عن توليته على ابلستان فلما سمع قلج أرسلان بهذا ردّ عليه المائة
ألف درهم قال: ((أنا إنما أتيت إلى الحرب لحماية الاسلام ولا حاجة
بي إلى الدراهم والدنانير)).
وكتب في هذا الكتاب نفسه عن مساعي المسلمين العسكرية في الهند،
يقول:
((حمل على أراضي نواحي السند لأول مرة في سنة 43 هجرية عبدالله بن
سوار العبدي الذي جعله عبدالله بن كريج على ثغور السند من قبل
البصرة. وفي سنة 44هـ حمل عليهما المهلب بن أبي صفرة. وفي سنة 89هـ
قتل محمد بن قاسم ملك السند في حرب دارت هناك وبقتله حكم المسلمون
أراضي السند دون أي مانع يذكر. وأما انتشار الاسلام في معظم شبه
القارة الهندية فكان على يد الإيرانيين أيضاً.
وكتب عن أحوال السلطان محمود الغزنوي يقول: ((إن السلطان يمين
الدولة وأمين الملة حينما أخذ نواحي الهند وبلغ في أقاصي هذه
الولاية إلى أماكن لم تكن تصلها قبل ذلك اليوم راية للاسلام ولاغ
من الدعوة المحمدية معجزة ولا آية، وطهر تلك البقاع من ظلمات الكفر
والشرك وأنار مشاعل الشريعة في تلك الديار والأمصار وبنى وشيد
المساجد وأعلن الأذان وشعائر الإيمان وتلاوة القرآن ودراسته في تلك
النواحي...
إن سيرة السلطان محمود الغزنوي في جانب المشرق ليست غريبة في الشبه
عن سيرة عبدالرحمن الأول حاكم اسبانيا والفاتح الاسلامي في المغرب،
ولا يفوتنا أن بين الفتوحات الاسلامية في المشرق والغرب تفاوتاً
كبيراً فإن المسلمين العرب استطاعوا أن يبلغوا بفتوحاتهم تخوم
أوربا الغربية، إلا أن كثيراً من تلك المناطق خرجت في طول التاريخ
عن حوزة المسلمين وخرج المسلمون عنها وخرجت هي عن الاسلام. بينما
نجد أن الحضارة والثقافة الاسلامية التي بنيت في النواحي الشرقية
على يد المسلمين الإيرانيين بقيت ثابتة ومستقرة لا زال معها الناس
في هذه المناطق بعد مرور قرون عديدة يصلون إلى قبلة الاسلام ويتلون
كتاب الله إن لم يكونوا عرباً. والعجيب أنه قارن احتلال قسم من
أراضي المسلمين في ناحية الشمال من شبه الجزيرة العربية إعلان دولة
قوامها تسعون مليوناً من المسلمين في الجانب الشرقي من إيران أعلنت
عن وجودها باسم دولة باكستان الاسلامية)).
في هذه الفتوحات وإن كانت أسماء قلج أرسلان وسبكتكين والغزنوي
أسماءً تركية إلا أن هؤلاء ـ كما ذكر الدكتور شهيدي ـ كانوا إذ ذاك
حكام أراضي إيران باسم الاسلام وجنودهم كانوا من هذه الأمة
الإيرانية بشكل أكيد دون غيرها.