تغير العالم بظهور الاسلام وانتشاره حتى عم كل
دعوة ظاهرة، وعلت حكمة التقوى. وصار للعرب دولة عظمى ورئاسة كبرى،
ونالوا حكمة بالغة العلى. وخمدت كل دولة قاهرة، وتوارت كل ملة
ظاهرة، واختار الله للدين الجديد يثرب داراً، والحجاز قراراً،
والأنصار أصحاباً. ظهور الاسلام علامة تحول في التاريخ، وبداية
فترة الانتصار الأولى قبل فترة الهزائم الأخيرة.
ويتضح ذلك في تاريخ أطباء العرب أول ظهور الاسلام. فقد دعا الرسول
الحرث بن كلدة الثقفي لمعالجة مريض (فإنه رجل يتطبب) أي يمارس الطب
صنعة وظناً وليس طبيعة ويقيناً. فالعقل من قسمة الله تعالى قسمه
بين عباده لقسمة الرزق فيهم من كلامه. لم يمنع الرسول من التطبيب
ولكنه نبه على الخير فيه (أنزل الدواء من الداء). والحارث بن كلدة
هو الذي تنبأ بموت عمر عندما رأى اللبن يخرج من الأمعاء. وقد قتل
النبي النضر بن الحارث مع أسرى بدر وحزن عليه بعد سماع رثاء أخته
(لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قتلته)، القتل خطأ، والحياة أهم،
والشعر يؤثر في النبي. كما قال النبي لأبي رمنة التميمي الطبيب
(أنت رفيق والطبيب الله) مكرراً الطبيب الله كما هو الحال عند
الأشاعرة في نظرية الكسب. ويشرح عبدالله بن أبحر الكناني قول النبي
(سر بدائك ما حملك). وقد بعث الرسول إلى أبي بن كعب طبيباً يعالجه.
ويستمر هذا التقليد عند الكندي الذي يوصي الطبيب بتقوى الله حتى
يساعده على شفاء الأمراض. وقد استخار عمر بن عبدالعزيز الله في
إخراج كتب الطب أربعين صباحاً ومنها كتاب أهرن بن أيمن القسي
وترجمة ماسر جويه إلى العربية.
وعادة ما تكون (الأسلمة) للوافد، فالموروث ثقافة إسلامية منذ
البداية ولكن لتقريب المسافة بين الوافد والموروث، يشرح الموروث
الوافد على نحو إسلامي أو يعرض نفسه على نحو عقلي طبيعي مثل طلب
الكندي أن يتقى المتطبب الله تعالى ولا يخاطر. ونقد أحمد بن الطيب
السرخي الشذوذ الجنسي اعتماداً على حديث الرسول. ويتحول الطب
النبوي إلى طب علمي يقوم على العقل والطبيعة حتى يبدو الاتفاق بين
الوحي والعقل والطبيعة. وعادة ما تروى الحكايات التي لا شأن لها
بالعلم في نوع من الطب الأدبي ما دام الطب جزءاً من الحكمة. وتذكر
بعض الأحاديث النبوية في عرض الأطباء مثل (الخيل في نواصيها الخير
إلى يوم القيامة) في مهذب الديل بن حنبل من أطباء العراق لتبرير
أخذ بعض المنافع والأدوية من الحيوانات. وتذكر أحاديث أخرى في
الدعاء لنزول الغيث وتحقيق النفع وحجب الضرر عن النبات والحيوان
والانسان.
وقد تكون هناك صلة بين الانشغال بالطب والمذهب الحراني نظراً لأن
كثيراً من النقلة والأطباء كانوا على هذا المذهب. فالطب من العلوم
الطبيعية. والمذهب الحراني طبيعي. ويقسم ابن أبي أصيبعة النقلة كما
إلى كثير ومتوسط وقليل، وكيفاً إلى جيد صحيح النقل، ومتوسط وضعيف
دون فصاحة وكثرة اللحن. والأفضل الكثير كماً الجيد كيفاً. والنقلة
أيضاً مجموعات تنتسب إلى أسر مثل أسرة بختيشوع وثابت بن قرة أو إلى
مدارس مثل مدرسة حنين بن إسحاق. وكان معظم النقلة من اليهود أو
النصارى أو الصابئة مما يدل على تعدد الأمة، وخدمة الطوائف بعضها
لبعض. يتعاملون مع خلفاء المسلمين ويجدون عندهم كل تقدير وعلون.
أما حكماء الاسلام فهم أطباء مسلمون. يؤلفون في الطب وفي التوحيد.
لأحدهم في التوحيد كتاب على طريق أصحاب المنطق في سلوك مراتب
البرهان لم يسبق إلى مثله أحد، وكتاب آخر في إثبات النبوة أيضاً
بطريق البرهان.
وقد يدل اللقب على الدين والطائفة والملة مثل الصابي، المسيحي أو
التيار الفكري مثل إخوان الصفا أو القبيلة مثل الكندي. ويمكن الجمع
بين لقبين، المكان والنسب، المكان ولقب التعظيم والتشريف. وقد يدل
على الأستاذية مثل ابن التلميذ، وقد يدل على اللقب الديني مثل
الجاثليق، الشيخ، الإمام، الفقيه، الخطيب، مولانا.
وقد يوضع اللقب في البداية تعظيماً وإجلالاً أو في النهاية إقراراً
ووصفاً. بل إن الأسماء في اللغة العربية نفسها ألقاب مثل تاج
الدين، شرف الدين، وظهر الدين بحيث يصعب أحياناً التمييز بين الاسم
واللقب، بين الموصوف والصفة كما كانت الأسماء في العربية صفاتز ولا
يأخذ حكيم من حكماء المسلمين لقباً وافداً إلى ابن الهيثم الملقب
ببطليموس الثاني والبغدادي بن مانا بن سوار بن بهرنام الملقب
بأبقراط الثاني. وأخذ الفارابي لقب المعلم الثاني. فقبل الاسلام
هناك أرسطو والاسكندر وبعد الاسلام هناك أبو نصر وأبو علي.
ولا ترسم شخصية حكماء الاسلام بالجسد كما ترسم حكماء اليونان لأنهم
معروفون. رآهم الناس ولا حاجة إلى تمثيلهم وتحويل أفكارهم إلى سمات
جسدية ونفسية باستثناء لقمان. فهو أسود حبشي مثل شمشون، تعلم في
الشام ومات بالرملة، عبد أسود غليظ الشفتين مصفح القدمين مصطك
الركبتين، له رجولته وفحولته. وباستثناء أبو سهل الكوهي الذي وصف
بأنه جميل الهيئة. وكان البيروني أسمر اللون قصير القامة كث اللحية
أبيضها، شيخ متوغل في السن.
ويستعمل القرآن والحديث كمصدر للغة، وكشواهد نقلية على الحقائق
العقلية مثل تفضيل الله الانسان بالنطق والعلم. كما يستعمل القرآن
على نحو حر من أجل إثراء الأسلوب العربي مثل (فتبارك الله أحسن
الخالقين) وهي الآية التي كانت منذ نزولها صيحة إعجاب من كاتب
الوحي لوصف القرآن كيفية خلق الجنين في رحم الأم.
ولا يخلو الكتاب من جو دين إسلامي منذ البسملة الأولى سواء كان ذلك
من المؤلف أو الناسخ، والترحم على المؤلف من الناسخ. ويترحم على
الراحلين ويعتمد على المشيئة الإلهية والعون الإلهي. فكل شيء بإذن
الله وبعون الله. ويختص برحمته من يشاء، ويعدل بنعمته على من يشاء.
كل شيء بيده وتأييده وكرم ومنه. هو الذي اختص أمما بالاشتغال
بالعلوم. وهم الذين فهموا غاية الله. والله وحده مريد الإحاطة
وفضيلة التمام لا رب غيره. وهو الذي يمد في عمر الحكام ويحرس
المدن. منه السداد وإليه المنتهى. وهو الهادي والرازق. بيده
الشفاء. والله المستعان، والله المستعان وبه التوفيق، بعون الله
بعون الله سبحانه وتعالى، والله الموفق.
كما يتم الاستشهاد بقول للسيد المسيح في الإنجيل الطاهر في بيئة
أندلسية تجمع بين الأديان، ولا تفرق بين الكتب المقدسة. ويتم
الترحم على الأموات. ومع ذلك يقترب الله والسلطان في الدعاء
ويتداخلان. فالدعاء والحمد لكليهما بنية شعورية واحدة.
ودلالة العبارات الإيمانية في الموروث أقل من دلالتها في الوافد
لأن الموروث بطبيعته يعبر عن الرؤية الدينية للعالم في حين أن
الوافد يوضع فيها ويختم بها عليه. ويتم عرض الوافد بلغة الموروث،
وتفسير السير الذاتية بعبارات الموروث مثل عودة جالينوس إلى وطنه
(إن شاء الله). كما يتم عرض الموروث بطبيعة الحال بلغته. فعند أبي
القاسم الأنطاكي المجتبى يفتح الله بصر العقل. وعند أبي زكريا
الصيرمي رضا الانسان عن نفسه مقرون بسخط الله تعالى، وعند مسكويه
من كان ميله إلى غير رضا الله عز وجل فإنه يظل محجوباً عن العلم.
فإذا كان الوافد قد ساعد على تعقيل الموروث فإن الموروث قد حاول رد
الوافد إليه ثم الارتداد إلى مصدره الأول في التصور الديني للعالم
بلغته وعباراته وشواهده.وتتدخل العناية الإلهية عند أبي سهل البوهي
من أجل تحويله من اللعب بالقوارير إلى وضع علم الميكانيكا علم
الحيل والانتقال والاكر المتحركة.
وتظهر الآيات القرآنية وبعض الأحاديث لإعادة الموروث إلى مصدره
الأول بعد إدخال الوافد في الموروث. وما أكثر آيات الحكمة والنفس
والعلم والنعيم. ويتقنن الفكر بالقرآن، وتهتدي الفلسفة بالشريعة،
وكأنه لا توجد فلسفة خالصة. وبعد الحمدلات والبسملات تظهر البراعة
الذاتية في التأليف اعتماداً على القرآن والحديث. البداية بشرعية
الأنا، وتقديم ما هو نافع له باعتباره علوم وسائل لا علوم غايات مع
انفتاح على الحضارات الأخرى كواجب شرعي. بل أن النوع الأدبي ذاته،
الأقوال والحكمة والأمثال قد تمت صياغته بقراءة البنية للحكمة
والفصل بينها وبين الشخص.
ويغلب الطابع الإيماني على أسماء العلام في هذا العصر المتأخر،
وتسود العلوم النقلية على العلوم العقلية، ويتغلب الإيمان على
العلم. فالحكماء مؤمنون أولاً وأطباء ثانياً. ويطلب من الله عاقبة
الأمور والجمع بين خير الدنيا والآخرة للناس بمنه وكرمه ولطفه
ورحمته.
------------------------------------------------
المصدر : من النقل إلى الإبداع /مجلد 1 ,النقل