موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
السيرة والتاريخ

ثورة الزنج

منذ عهد المتوكل العباسي (232 _ 247 ه‍ 847 _ 861م) غلبت سيطرة العسكر الأتراك، وقادتهم على أزمة الأمور في الدولة، واستأثروا بالعطاءات والاقطاعات، واستبدوا بسلطان الخلافة، حتى صاروا يولون ويعزلون الخلفاء كما يريدون، بل ويسجنون ويسمّون ويقتلون من لا يحقق مطامحهم ومطامعهم من الخلفاء.
ولقد حاول بعض الخلفاء أن يستردوا لمنصب الخلافة سلطانه، وأن يستندوا في معارضة القادة الأتراك الى تأييد شعبي بمهادنة العلويين الثوار واقامة قدر من العدل والانصاف بين الرعية.. حاول ذلك الخليفة المنتصر بالله (247 _ 248 ه‍ 861 _ 862م)، والمهتدي بالله ( 255 _ 256ه‍ 869 _ 870م) ولكن الأتراك تخلصوا منهما بالسم والعزل والقتل.
وعندما سدت سبل الاصلاح أمام الراغبين فيه أقبل الناس على الثورة، طريقاً لم يجدوا أمامهم سواه للتغيير، فكان أن قامت عدة حركات ثورية، يقودها ثوار علويون.
ففي (سنة 248 ه‍ سنة 862م) ثارت الكوفة، بزعامة أبي الحسين يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن عبد الله بن اسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب...
وفي (سنة 250 ه‍ سنة 864م) ثارت طبرستان، بقيادة الحسن بن زيد ابن محمد بن اسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وامتدت الثورة الى جرجان، واستمرت دولتها حتى سنة 270 ه‍ سنة 883م.
وثارت "الري"، بزعامة محمد بن جعفر بن الحسن، بهدف الانضمام الى ثورة طبرستان... ثم تكررت ثورتها، بعد الاخفاق، بقيادة أحمد بن عيسى بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وثارت قزوين، بقيادة الكركي (الحسن بن اسماعيل بن محمد بن عبد الله بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب).
وثارت الكوفة، بزعامة الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
على أن أخطر الثورات التي شهدها العصر العباسي كانت هي الثورة التي قادها علي بن محمد (270 ه‍ 883م)، والتي بدأت في البحرين سنة 249ه‍ سنة 863م، وهي التي اشتهرت باسم (ثورة الزنج)...
وكان قائد هذه الثورة _علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب _ شاعراً، وعالماً، يمارس، في "سامراء" تعليم الخط والنحو والنجوم... وكان واحداً من المقربين الى الخليفة المنتصر بالله. ولما قتل الأتراك المنتصر بالسم، ومارسوا السجن والنفي والاعتقال والاضطهاد لحاشيته، كان علي بن محمد ضمن المعتقلين.. ثم حدث تمرد من فرقة "الجند الشاكرية" ببغداد، شارك فيه العامة، واقتحم المتمردون السجون فأطلقوا سراح من فيها، ومنهم علي بن محمد، الذي غادر بغداد الى "سامراء" ومنها الى البحرين حيث دعا الى الثورة ضد الدولة العباسية الواقعة تحت سيطرة الجند الأتراك.
دور العرب في الثورة:
بالرغم من اشتهار هذه الثورة "بثورة الزنج"، الا أنها لم تكن ثورة عنصرية للزنج وحدهم، ولم تقف أهدافها عند المطالبة بتحرير العبيد أو تحسين ظروف عملهم.. فقائد هذه الثورة عربي، وعلوي _رغم تشكيك خصومه في صحة نسبه العلوي _ وأغلب قوادها كانوا عرباً كذلك، مثل: علي بن أبان (المهلبي)، وسليمان بن موسى الشعراوني، وسليمان بن جامع، وأحمد بن مهدي الجبائي، ويحيى بن محمد البحراني، ومحمد بن سمعان.. الخ.
وعلى امتداد السنوات السبع الأولى من عمر هذه الثورة (249 _ 255ه‍) كان جمهورها وجندها ومحيطها عربياً خالصاً.. فهي قد بدأت في مدينة "هجر"، أهم مدن البحرين، ثم في "الاحساء" بين أحياء "بني تميم" و "بني سعد".. ثم في بادية البحرين، وسط عربها.. وفي هذا المحيط العربي قامت سلطة هذه الثورة و "دولتها" وحدثت الحروب بينها وبين جيش الدولة العباسية.. ويصف الطبري سلطة علي بن محمد في هذا المحيط العربي، فيقول: "لقد أحله أهل البحرين من أنفسهم محل النبي حتى جبى له الخراج هناك، ونفذ حكمه بينهم، وقاتلوا أسباب السلطان بسببه!".
وفي موقعة "الردم"، بالبحرين، أحرزت الدولة انتصاراً مؤثراً ضد الثورة، فانسحب علي بن محمد الى البصرة، ونزل هناك بين عرب بني ضبيعة _(من نزار بن معن بن عدنان). فدعاهم للثورة، فتبعوه، وكان منهم عدد من قادة دولته وجيشه... ولما طردته الدولة، وألقت القبض على أغلب أنصاره، ووضعتهم في السجون، مع ابنه الأكبر وابنته وزوجته.. غادر علي بن محمد البصرة الى بغداد، فأقام بها عاماً.
وفي سنة 255ه‍ سنة 869م حدثت بالبصرة فتنة بين طائفتين من جندها، "الجند البلالية" و "الجند السعدية"، وأسفرت هذه الفتنة فيما أسفرت عن اطلاق سراح السجناء، ومنهم أنصار علي بن محمد، فغادر بغداد، ووصل الى ضواحي البصرة ليواصل ثورته من جديد‍.. وفي هذا التاريخ بدأ أول انعطاف للثورة نحو الزنج، أي بعد قرابة السبع سنوات من قيامها‍..
مكان الزنج في الثورة:
كانت البصرة أهم المدن في جنوب العراق، وكانت جنوب العراق مشحونة بالرقيق والعمال الفقراء الذين يعملون في مجاري المياه ومصابها، ويقومون بكسح السباخ والأملاح الناشئين من مياه الخليج، وذلك تنقية للأرض وتطهيراً لها، كي تصبح صالحة ومعدة للزراعة، وكانوا ينهضون بعملهم الشاق هذا في ظروف عمل قاسية وغير انسانية، تحت اشراف وكلاء غلاظ قساة، ولحساب ملاك الأرض من أشراف العرب ودهاقنة الفرس.. وبعض هؤلاء العبيد كانوا مجلوبين من أفريقيا السوداء _وهم الزنج _ وبعضهم نوبيون، وآخرون قرماطيون، أما فقراء العرب فكانوا يسمون الفراتين.
وشرع علي بن محمد يدرس حالة هؤلاء الرقيق، ويسعى لضمهم لثورته، كي يحررهم ويحارب بهم الدولة العباسية.. وكان أول زنجي ينضم اليه هو ريحان بن صالح، الذي أصبح من قادة الحرب والثورة.
وأخذ علي بن محمد ينتقل، مع قادة ثورته، بين مواقع عمل الرقيق والفراتين، ويدعوهم الى الثورة والهرب الى معسكره وترك الخضوع لسادتهم، فاستجابت لدعوته جماهير غفيرة من الزنج والنوبة والقرماطيين والفراتيين، وانضموا الى العرب والأعراب الذين تبعوه من جنوبي العراق... ولقد فشل وكلاء الزنوج في الحيلولة بينهم وبين الالتحاق بمعسكر الثائرين، فكانوا يحبسونهم في البيوت ويسدون أبوابها ومنافذها بالطين؟‍! ويصف ابن خلدون اقبال الزنج على الثورة، وزحفهم للقاء قائدها فيقول: "لقد تسايل اليه الزنج واتبعوه".
ولقد أعلن علي بن محمد أن هدفه، بالنسبة للزنج والعرب الفقراء، الذين يعملون في اصلاح أرض العراق الجنوبي، هو:
1_ تحرير الرقيق من العبودية.. وتحويلهم الى سادة لأنفسهم..
2_ واعطاؤهم حق امتلاك الأموال والضياع.. بل ومنّاهم بامتلاك سادة الأمس الذين كانوا يسترقونهم..
3_ وضمان المساواة التامة لهم في ثورته ودولته التي تعمل من أجل:
*نظام اجتماعي هو أقرب الى النظم الجماعية التي يتكافل فيها ويتضامن مجموع الأمة.
*نظام سياسي يرفض الخلافة الوراثية لبني العباس، والتي أصبحت أسيرة بيد قادة الجند الأتراك.. ويقدم بدلاً منها دولة الثورة التي أصبح علي ابن محمد فيها أمير للمؤمنين.
ولقد استطاعت الثورة أن تكتسب، أكثر فأكثر، ثقة جماهير الزنج وفقراء العرب، الذين كانوا أشبه ما يكونون بالرقيق، وبالذات في ظروف العمل وشروطه.. وخاصة بعد أن رفض قائد الثورة مطالب الأشراف العرب والدهاقين والوكلاء بأن يرد عليهم عبيدهم لقاء خمسة دنانير يدفعونها عن كل رأس!.. لقد رفض علي بن محمد هذا العرض، بل وعاقب هؤلاء السادة والوكلاء، فطلب من كل جماعة من الزنج أن يجلدوا سادتهم ووكلاءهم القدامى‍..
وزاد من اطمئنان الزنج للثورة ما أعلنه قائدها من أنه "لم يثر لغرض من أغراض الدنيا، وانما غضباً لله، ولما رأى عليه الناس من الفساد".. وعاهدهم على أن يكون، في الحرب، بينهم "أشرككم فيها بيدي، وأخاطر معكم فيها بنفسي" بل قال لهم: "ليحط بي جماعة منكم، فإن أحسوا مني غدراً فتكوا بي؟‍!‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍".
وبهذه الثقة تكاثر الزنج في صفوف الثورة وفي كتائب جيشها، بل وانضمت اليها الوحدات الزنجية في جيش الدولة في كل موطن التقى فيه الجيشان!.. حتى لقد سميت، لذلك بثورة الزنج، واشتهرت بهذا الاسم في مصادر التاريخ.
دولة الثورة:
وفي عشرات المعارك التي وقعت بين الدولة العباسية وبين ثورة الزنج، كان النصر، غالباً، للثورة على الدولة.. وتأسست، كثمرة لهذه الانتصارات، للثورة دولة، قامت فيها سلطتها، وطبقت بها أهدافها، ونفذ فيها سلطان علي بن محمد.. ولقد بلغت دولة الثورة هذه درجة من القوة فاقت بها كل ما عرفته الخلافة العباسية قبلها من أخطار وثورات.. والمؤرخون الذين كانت الدنيا عندهم هي الامبراطورية العباسية، قالوا: ان الزنج قد "اقتسموا الدنيا!.. واجتمع اليهم من الناس ما لا ينتهي العد والحصر اليه!" وكان عمال الدولة الثائرة يجمعون لعلي بن محمد الخراج "على عادة السلطان!" حتى لقد "خيف على ملك بني العباس أن يذهب وينقرض!".
ولقد أقام الثوار لدولتهم عاصمة، سموها (المختارة)، أنشأوها انشاء في منطقة تتخللها فروع الأنهار.. كما أنشأوا عدة مدن أخرى _وضمت دولتهم مدناً وقرى ومناطق كثيرة، مثل: البحرين.. والبصرة.. والأبلة.. والأهواز.. والقادسية.. وواسط.. وجنبلاء.. وباذاورد.. والنعمانية.. والمنصورة.. وجرجرايا.. وجبل.. ورامهرمز.. والمنيعة.. والمذار.. وتستر.. والبطيحة.. وخوزستان.. وعبادان.. وأغلب سواد العراق.
***
ولقد استمرت الحرب بين دولة الثورة هذه وبين الخلافة العباسية لأكثر من عشرين عاماً _بلغ العنف فيها، من الجانبين، حداً لم يسبق له مثيل، حتى ليقول المؤرخون الذين يتواضعون بأرقام القتلى في هذا الصراع بأنهم بلغوا نصف مليون قتيل!
ولقد ألقت الخلافة العباسية بكل ثقلها في المعركة ضد الثورة، وكرست كل امكاناتها للجيش والقتال، وبعد أن عهد الخليفة المعتمد (256 _ 279 ه‍ _ 870 _ 892 م)، بالقيادة الى أخيه الموفق، تحول قائد الجيش الى خليفة حقيقي، وتحولت المدينة التي بناها تجاه عاصمة الثوار، والتي سماها (الموفقية)، الى العاصمة الحقيقية للدولة، يأتي الى بيت مالها كل خراج البلاد، وتصدر منها الأوامر الى كل الولاة والعمال بأن يقدموا للجيش كل ما لديهم من امكانيات، حتى لقد حاول "المعتمد" الفرار من سامراء الى مصر، فألقوا القبض عليه وأعادوه الى قصر الخلافة شبه سجين!..
ولقد رجحت كفة الجيش العباسي بما احتشد له من فرسان وسفن وعتاد.. فأحرز عدداً من الانتصارات على جيش الزنج، وبدأ حصاراً لعاصمتهم استمر أربع سنوات!.. وكانت مصر قد استقلت عن الخلافة تحت حكم أحمد بن طولون (220 _ 270ه‍ 835 _ 884م) وكان لها جيش قوي بالشام يقوده لؤلؤ، غلام ابن طولون، فخان سيده وانضم الى جيش الدولة المحتشد لقتال الثوار، وعند ذلك تمكن الموفق من اقتحام (المختارة) وهزيمة الثورة، التي بدأت سنة 249 ه‍ وظلت قائمة تقاوم حتى أول صفر سنة 270 ه‍ (10 أغسطس سنة 883م).. فكانت أطول ثورات العصر العباسي وأخطرها..
-----------------------------------------------------
المصدر : موسوعة الحضارة العربية الاسلامية / ج2

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   ||  موسوعة السيرة والتاريخ