موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
السيرة والتاريخ

جاك زيسلر
غزو المغول

بعدما بذل الإسلام جهداً كبيراً سمح له بالصمود والمقاومة على امتداد المبارزة الطويلة مع الصليبيين. استسلم الأتراك السلاجقة، بدورهم، لحياة الترف وتركوا الإمبراطورية تنقسم إلى ممالك صغرى، بعضها ساطع حقاً، ولكنَّ معظمها في حالة تجابه واقتتال. إلاّ أن قبائل ساغبةً في سهوبها الصحراوية الكئيبة، في الشرق، كانت تتجمّع عند الحدود. فالقاعدة هي نفسها على الدوام: عندما لا تتوفّر وسائل العيش في أرض جدباء، يهاجر سكّانها إلى البلاد الأكثر ثراء. هذا هو التفسير الدائم لتيارات الغزو الكبرى تلك، التي تطغى بشكلٍ فريد على كل أحداث التاريخ الأخرى.
فمنذ أيام جنكيزخان، كان الفارس المغولي الخالد، المرعب مثل أجداده القدماء، الهونزا، والأفضل تجهيزاً وانضباطاً منهم، قد بدأ ضع يده على آسيا الوسطى، سنة 1216، قام ستون ألف مغولي مسلحين بأقواس عجيبة تطلق أسهمها رشقاتٍ وزخّات، بإحراز النصر على جيش محمد شاه الخوارزمي. وقام جيشٌ آخر، بقيادة جنكيز نفسه، باجتياح بُخاري؛ فعسكرت الجياد الآسيوية الصغيرة في الجوامع، الملاذ كانتا ضحيتين لمجزرة بالغة الشدَّة لدرجة أنهما لم تتمكنا، بعد مئة عام، من النهوض واستئناف حياتهما العادية. وواصل أحد أبناء جنكيز اجتياحه، فاستباح خراسان ودمّر مرو. أما نيسابور فقد حاربت ببسالة، لكنها انهارت سنة 1221, وجرى نهب الرَّي. كذلك، ذهبت هباءً محاولة أحد أبناء محمَّد شاه، (جلال الدين)، الصمود عند نهر الهندوس، فانكسر هناك، وقُلبت الحيرة رأساً على عقب. انقلب كل شيء إلى أنقاض وحداد ودمار، هناك حيث كانت ترتفع بالأمس المدن الزاهرة؛ وجرى تدمير كل المراكز الثقافية للإسلام الشرقي، وتحولت آلام المساجد والجوامع إلى ركام، والمكتبات إلى رماد. أما الأهالي الذين لم يتمكنوا من الفرار فقد أُعدموا بالسيف أو ذُبحوا، وتكوّنت أهرامات مرعبة من رؤوس الضحايا المشوّهة. وكانت غاية تلك الوحشية المبرمجة، المنظمة غمداً، هي القضاء التام على كل محاولة مقاومة.
إلا أن جلال الدين كان قد جهّز جيشاً في ديار بكر؛ وكان جيش من ثلاثمئة ألف رجل منطلقاً من منغوليا، بقيادة أوغولي، ابن جنكيز وخليفته، ومشبعاً بجنون الاجتياح ذاته؛ فخرّب الغازي أذربيجان وبلاد الرافدين الشمالية وجورجيا وأرمينيا. وأدّى موت أوغولي سنة 1241 إلى انقاذ ما تبقى من الإسلام. وبعد استراحة قصيرة، انهمرت موجة غزو جديدة، بقيادة هولاكو حفيد جنكيز؛ فتقدمت عبر سمرقند، وكنست الممالك الصغيرة التي قامت على أنقاض الخلافة، وسارت الحملة إلى بغداد. في كانون الثاني/ يناير، انقضّت آلات الحصار والدمار على العاصمة، وفتحت ثغرة في أسوارها. وخرج الوزير الأول لمناقشة شروط الاستسلام، غير أن هولاكو لم يستقبله.
كان آخر خليفة عباسي المعتصم، زاهداً وعالماً، متكرّساً للدين والكتب. ويُقال إنَّ نبوءةً قد
أبلغت إلى هولاكو؛"لئن قُتل الخليفة، فإن العالم كله سيهتز، والشمس ستنكسف، والمطر سيتوقف عن السقوط والنبات سينقطع عن النمو". ولكنَّ المغولي الواثق من منجميه لم يتأثر بتلك النبوءة. في 10 شباط/ فبراير كانت جحافله تدخل المدينة عنوةً، حيث كان الخليفة مع ولدية و300 من كبار موظفيه قد جاؤوه مستسلمين بلا قيد أو شرط. يُقال أن 800000 نسمة ذُبحوا، وأُعدم 24000 عالِم دين، وقُتل الآلاف من العلماء والشعراء والمتبحرين الراسخين في العلم _ الأبرياء هم على الدوام ضحايا مثل هذه المجازر المرعبة، وجرى نهب أو تدمير كنوز تراكمت منذ عدة قرون. وقذفت الكتبُ في دجلة، فسدَّت النهر أو كادت. "فبين الضفتين كانت الكتب تشكّل جسراً... الأمر الذي حدا بالغزاة لإحراق الباقي، خوفاً من انسداد النهر". وخلال عدة أيام ظلت مياه دجلة سوداء من جراء حبر ملايين الكتب والمخطوطات التي كانت قد قُذفت فيه، وبعدما أرغم الخليفة على كشف مخابئ ثرواته، جرى إعدامه هو وعائلته. وهكذا، منذ 600 سنة، لم يعد للعالم الإسلامي زعيم ديني ولا قائد.
سنة 1260، استولى هولاكو على حماه وحمص وحلب، حيث يُقال إن 50000 شخص قتلوا بحد السيف. ثم قفل عائداً إلى منغوليا حيث كان شقيقه، الخان الأكبر قد مات. أما الجيش الذي خلّفه وراءه، فقد تابع غزوه واحتل سورية، ولكنّه في عين جالوت، بالقرب من الناصرة، وجد نفسه فجأة أمام جيش مصري، بقيادة قطز وبيبرس؛ وكان يتعيّن على هذا الجيش الذي أحرز انتصاراً باهظاً جداً، أنْ يحمي مصر، وربما أوروبا، من الخطر المغولي. وعندما انكفأ المدُّ المرعب، خلّف وراءه بلداً محطماً، مجزءاً من حيث بنيته واقتصاده، وشعباً منكسراً بالمعنى الفيزيولوجي، بلا أُطر وديناميكية.
لقد كثر الجدال حول هذا الانهيار الذي يكمن سببه المباشر في السلسلة الطويلة من الهزائم والنكسات التي كانت قد ألّمت بالجيوش الإسلامية قبل انتصار عين جالوت. ففي أزمنة أخرى، كان يمكنها أن تجابه بقوة أشدَّ وربما كانت قادرة في نهاية المطاف على وقف حملة الغزو المدمر. وكان يمكن للمغولي أن ينكفئ مثلما انكفأ الهونزا في الحقول الكاتالونية، وتراجع العرب أنفسهم في بواتييه.
"إننا نعلم, نحن الحضارات الأخرى, أننا حضارات بائدة!. " هذا القول المرُدّد غالباً, المؤكد بالتجربة, غالباً ما تجري نسيانه أو تناسيه. مع ذلك التاريخ مائل هنا بكل ذكرياته المرعبة؛ فالجيران المتضورون جوعاً هم دائماً عند الأبواب, مستعدون لاجتيازها عندما تسنح الفرصة المناسبة.
إن السبب الرئيسي لسقوط الحضارة الإسلامية المريع لا يمكن في الهجمة الآتية من الخارج, بل يمكن في الانحلال البطيء للقوى الداخلية ولتماسكها, وفي الفوضى السياسية والمعنوية الناجمة عن الفساد والعجز, عن الفساد والعجز, عن الكسل والجبن، والناجمة أيضاً عن نقص معين في التكيّف الطبيعي مع النمو المعياري السويّ للحضارة. صحيح أن الخان الأكبر، وبعد 50 من تقويض الإمبراطورية، اعترف بالإسلام ديناً للدولة. فكان ذلك انتصاراً معنوياً كبيراً، إلا أن وحدة الإمبراطورية كانت قد ضُربت في صميمها.
-----------------------------
المصدر :الحضارة العربية

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   ||  موسوعة السيرة والتاريخ