كان ضعف السلطة المركزية يفضي حتماً إلى تفكك
الإمبراطورية , فالولاةُ الذين كانوا يتولون الأمصار البعيدة، لم
يكن بينهم وبين بغداد سوى علاقاتٍ محض شكلية, وكان وضعهم مستقلاً
نسبياً, إذا جاز القول: ثم جاءت الفرصة المناسبة لجعله وضعاً
استقلالياً تماماً, ووراثياً. إن العدد الكبير للسلالات التي
ستزداد على أطراف الإمبراطورية، ثم في قلبها بالذات، لم يكن سوى
نتيجة الداءِ الوبيل. عملياً, كانت الطرائق العربية, المتكيِّفة
تكيّفاً رائعاً مع الفتح, غير مصنوعة للحفاظ على استقرار البلدان
المفتوحة، وراحت الخلافة العباسية تموت ببطءٍ.
صحيح أن المأمون كان خليفةً كبيراً بعد هارون، إلا أن المعتصم الذي
خلفه سنة 833, وجد نفسه مرغماً, لتعزيز سلكته المهزورة, على إنشاء
حَرَسٍ خاص مختار بكل عناية من صفوف العبيد الأتراك, الجنود
الشجعان, المقاتلين بلا هوادة؛ وهكذا صار 4000 يسهرون على أمن
الإمبراطورية.
هكذا, كان الأباطرة الرومان قد أرغموا على القيام بعملٍ مماثل،
فكانوا يعتمدون على حرسٍ من العبيد الأشداء. ولكنّ الحرس، في
بغداد، كما في روما, سيغدو مع الزمن القوة الحاكمة الفعلية. وعلى
غرار الإمبراطورية الرومانية, رويداً رويداً, على مدى تعاقب
الخلفاء الشرعيين أو المعترف بهم نسبياً، الذين كانوا عملياً
ملوكاً من التنابلة الحقيقيين. ففي الإمبراطورية الآخذة في التفكك,
راح رداءُ الحضارات القديمة يرتفع مجدداً، وتجددت الفرديات الآثنية
العتيقة من خلال دويلاتٍ مستقلة داخل حدودها الطبيعية, بسرعة نسبية
وفقاً لسلطان ولاتهم وشخصيتهم. هكذا عاد العالم الشّرقي إلى البنية
القديمة التي كانت بنيته في مجرى التاريخ.
كانت إسبانيا أول من أعلنت استقلالها سنة 756, وكان المغرب قد
تلاها سنة 788, ثم تونس سنة 868, كان ابن طولون قد استولى على
السلطة في مصر. ومنذ ذلك الحين لم تعد مصر تابعة لبغداد إلاّ
تبعيَّة اسميّة. ولما أعتق المصريون من سلطان بغداد، وضعوا أيديهم
على جنوب بلاد الشام, واحتفظا به لمدة قرنين. بعد ذلك بقليل, كان
الإمبراطور اليوناني، باسيليوس الثاني، قد استولى على بقية سورية،
وللمرَّة الأولى شهد الناس مسيرة طويلة من الأسرى العرب في سيرك
القسطنكينية. وأخيراً، استولى إمبراطور آخر على أرمينيا؛ ففي
الماضي كان العرب يواجهون التحدي بسرعة، لكن الأزمنة كانت قد
تبدّلت.
زدّ على ذلك أن المأمون الذي خلف هارون، أسهم في تفكيك
الإمبراطورية، حين سمح لابن طاهر بحكم ولاية خراسان حكماً وراثياً،
مكافأةً له على قهره وقتله لشقيقه الأمين، إبن زبيدة وهارون. وبين
833 و 892 توالى تسعة خلفاء، وصارت الإمبراطورية على وشك الانهيار،
ثم فقدت السلالة وجهها نهائياً. وفي عام 902، قام"قائد القادة",
وهو من أعيان البلاط، بخلع المقتدر. وتسارع التفكك.
سنة 928، استولى الحمدانيون، وهم مسلمون شيعة، على شمال بلاد
الرافدين، وعلى جزء ن سورية, وأنشأوا في حلب والموصل مركزين
ثقافيين مزدرين جداً، واستولى البويهيون، وهم شيعة أيضاً، على
أصبهان وشيراز، وحتى على بغداد سنة 945. ومنذ ذلك الحين، لم يعد
الخليفة سوى زعيم سني تحت أوامر حاكم شيعي. بموازاة ذلك, كان
السامانيون (وهم مجوس زرداشتيّون) قد جعلوا من بخاري وسمرقند
مركزية كبيرين للعلم والفن، كان إبن سينا والرازي قد درسا فيهما.
أخيراً، قامت سلالة غزنوية في أفغانستان سنة 962, واستولت على كل
بلاد فارس والبنجاب. وعلى غرار كبار الخلفاء السابقين، اجتذب زعيمُ
السلالة, محمود، إلى بلاطه في غزنة الشعراءَ والعلماءَ، لا سيما
البيروني والفردوسي.
وهكذا, راحت السلالاتُ الإسلامية تخضع, الواحدة تلو الأخرى.
-------------------------
المصدر : الحضارة العربية