موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
السيرة والتاريخ

محمد علي جواد
الرسالة والمواجهة

الرسالة بجزئياتها أو كليّاتها. يقف منها الناس اربعة مواقف هي:
1_ التأييد وهو موقف المؤمنين بها.
2_ اللامبالاة وهو موقف ثلة من الناس.
3_ الاعراض والتكذيب: وهو موقف غالبية أعداء الرسالة.
4_ الاستهزاء والسخرية وهو الموقف المتشدد للعدو منها، وقد يكون تصرّفاً من مؤمن لا يرى الإيمان إلاّ مجرد دعوى واعتقاد فحسب، كمن يؤمن بالله تعالى وشريعته ولا يعمل بأحكامه، أو يعمل ببعضها دون البعض الآخر.
ونحن إذ نبحث حالة الرسالة أمام الموقف الرابع لابد أن نذكر الموارد القرآنية التي رسمت أبعاد هذا الموقف وهي عشرة موارد نسلسلها كالتالي:
المورد الأول: الآية "231" من سورة البقرة وهو مورد يتحدث عن دائرة من دوائر الاستهزاء وهي دائرة الاستهزاء بالأحكام الشرعية. والاستهزاء بالاحكام الشرعية إنما يحصل بعدم العمل بها. وتصوير حالة الاستهزاء هنا بالاحكام الشرعية كمن ينصح جلسائه المعتادين على التدخين بعدم التدخين لضرره من الناحية الاقتصادية والصحية والاجتماعية ثم يشرع أحدهم بالتدخين أثناء تحمس الناصح بنصيحته فان عمل هذا المدخن مضحك بلاشك من نصحية هذا الناصح، وان عمله هذا يعد إستخفافاً وسخرية منه. قال تعالى في بيان ما تلاقيه الرسالة في هذه الدائرة من استهزاء:
(وإذا طلقتم النساء فبلغنَ أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرّحوهن بمعروف ولا تمسكوهنّ ضراراً لِتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هُزُوا...). (البقرة/ 231)
فآية سورة البقرة إلى غاية ما نقلناه منها ذكرت عدة أحكام شرعية بخصوص المطلقة وهي كالآتي:
1_ إما الامساك بمعروف أي ارجاعها إلى عصمة الزوج قبل انقضاء عدة الطلاق.
2_ أو التسريح بمعروف: أي اعطاؤها كامل حقوقها الواجبة على الزوج بعد انتهاء عدة الطلاق.
3_ من أرجعها إلى عصمته بقصد الإضرار بها فقد ظلم نفسه، لان هذا الاضرار ينعكس عليه بشكل أو بآخر، بل وينعكس على دائرته الاجتماعية، فالزوج الذي يؤمن بالشريعة ولم يعمل بما شرعته من أحكام فهو مستهزأ بها. والمولى عزّو وجلّ ينهى الناس أو المؤمنين أن يستهزأوا بشريعته من خلال ترك العمل بأحكامها.
ولو استقرأنا واقع الناس من الناحية التطبيقية لعلمنا أن أكثر مساحة هذا الواقع هو ممن لا يطبّق الأحكام الشرعية بل يكتفي بمجرد دعوى الايمان بها والانتماء إليها. وهذا يعني أن الواقع الإستهزائي الذي تلقاه الشريعة من أتباعها والمؤمنين بها عملياً كبير وواسع والوجدان على هذه القضية أدل من البرهان، وقد سمّت الشريعة هذا اللون من الاستهزاء ظلماً بل سمّت هذا الظلم الاجتماعي استهزاءً بالأحكام الشرعية التي ما نزلت وشرّعت إلا من أجل إزالته من خلال العمل بها وتطبيقها، وبالتأكيد فان المستهزأ بهذه الأحكام مباشرة مستهزأ بالملازمة بمن يبلّغُها ويدعو إليها، ومستهزأ بمن شرّعها أو أنزلها بلا شك.
المورد الثاني: الآية (140) من سورة النساء والآية (68) من سورة الانعام وهو يتحدث عن الاستهزاء الذي تلاقيه الرسالة في مجالس الاعداء ومنتدياتهم ومفاده الخوض في الآيات بالباطل والكفر والاستهزاء بها وقد كانت لأعداء الرسالة من منافقين وكفار ومشركين وأهل كتاب ومجالس وحلقات في المدينة وفي مكة وقد نهى المشرّع المؤمنين برسالته أن يجالسوهم، لأنهم إذا جالسوهم مع الضعف أو لم يردعوهم مع القدرة والإمكان كانوا مثلهم في النفاق والكفر والظلم.
ومن هنا نستطيع القول بأن المواجهة للرسالة من خلال هذه المجالس يشكل محيطاً خانقاً لا تستطيع الرسالة ان تتنفس الهواء الصافي فيه: وما هاجرت الرسالة وأهلها إلى المدينة إلا بعد ان أصبح محيط قريش من المحيطات الملوثة 100% والتي لا تستطيع الرسالة وأهلها أن يحييا ويعيشا فيها.
وأما في المدينة فقد حاول المنافقون وأهل الكتاب من اليهود وأحبارهم ان يصنعوا هذه الاجواء، ولكنهم كانوا أصغر من القوة الإسلامية التي كانت تعمل ليل نهار على استئصال جرثومتهم أو تزريق المؤمنين بلقاحات إيمانية تصمد أمام سمومهم الخبيثة، وهذه الآية وهي تنهى عن مجالسة أهل النفاق وتذكر المؤمنين بضرر هذه المجالسة الضرر الذي قد يؤدّي إلى حريق بيئوي لصالح الكفر والنفاق إنما تشير إلى مدى خطورة هذه المواجهة الاستهزائية التي تنطلق من المجالس والحلق والمنتديات صوب آيات الله وكتابه بشكل تفصيلي.
المورد الثالث: في الآية (57) _ (58) من سورة المائدة وهو يتحدث عن استهزاء أهل الكتاب والكفار بالدين بشكل عام وبالأذان وابصلاة بشكل خاص، قال تعالى: ( يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا الذين اتّخذوا دينكم هُزُوا ولَعِباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّارَ أولياءَ واتقوا الله إن كنتم مؤمنين. وإذا ناديتم إلى الصلاة اتّخذوها هزوا ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون).
والاستهزاء كما هو معلوم حينما يتناول المقدسات التي يؤمن بها الفرد يعني الاستخفاف بها والحطّ من قدرها وشأنها، بحيث لا يكون لها في نظر المستهزأ أيُّ شأن وقدر، وإذا كان لها نصيب عنده فبحدود السخرية منها والاستهزاء بها.
وهذا الاستهزاء يتلون بصيغ قولية وعملية متعددة تتناسب ومستوى ثقافة المستهزيء.
ان ابشع المواجهات واشنع الأساليب فيها تلك التي تتناول مقدسات حقة يدعمها دليل العقل والنقل. ومواجهة الرسالة عموماً أو خصوصاً من قبل الذين لا يعقلون تعدّ مقابلتها من الصعوبة بمكان، لأن المبلغ والداعية لا ينتظر من هذه الفئة التي لا تبحث عن الدليل والحجة أي فرصة للهداية وبالخصوص فيما لو كانت الدعوة الجديدة تريد أن تغيّر الاسس التي ترتكز عليها مصالح هذه الفئة.
المورد الرابع: في الآية (4) _ (5) من سورة الأنعام وهو يتحدث عن الاستهزاء بكل دليل أو حجة تثبتان وحدانية الله عزّ وجلّ وصدق نبوة نبيّه(ص)، ولما كانت الرسالة الحقة ليست إلاّ هذه الأدلة الحقة عامةً فالمواجهة عبر الاستهزاء إذاً تستوفي كل آياتها التي تقود إلى الحق وتدلّ عليه. ومن هنا إذا اردنا أن نجسّد المواجهة عملياً على أرض الواقع فاننا سنجد قبال كل خندق يتخندق به الحق خندقاً يوجّه منه الباطل سهامه نحو الحق وآياته. قال تعالى مبيّنا هذه الصورة المستوعبة في المواجهة: (وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إلاّ كانوا عنها معرضين. فقد كذبوا بالحقّ لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون).
المورد الخامس: في الآية (8) من سورة هود وهو مورد يتحدث عن الاستهزاء بآية العذاب التي ينذر بها الرسل أقوامهم فيما لو اختاروا طريق الغي والضلال والتكذيب.
ومن خلال الاستقراء لدعوات الحق في الكتاب المجيد في صراعها مع الباطل نجد أنّ سنة العذاب لا تأتي فوراً وانما الذي يطلب فوريّتها هو الإنسان المكذِّب المعاند الجاهل، ولهذا نجد أن تأخيرها يشكّل بنظر هذا الإنسان المذكور دليلاً على العدم، بل فرصة لاستهزائه بانذارات الرسل وتهديداتهم. وقد أبرزت الآية لوناً من ألوان الاستهزاء وهو قول هذا الإنسان الجاهل: (ما يحبسه) أي ان هذا العذاب إذا كان حقاً يأتي المكذبين ويسحتهم فما الذي يقف في طريقه ويحبسه عن الوصول والمجيء؟
قال تعالى: (ولئن أخّرنا عنهم العذاب إلى امة معدودة لَيقولُنَّ ما يحبسه ألاّ يومَ يأتيهم ليس مصروفاً عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون).
المورد السادس: في الآيتين (105) و (106) من سورة الكهف حيث يظهر فيهما الإستهزاء بمعنى عدم إعطاء أي قدر أو وزن لآيات الله ورسله بعد الكفر بهم، والقرينة على ارادة هذا المعنى من الاستهزاء في هذا المورد، هو نوعية الجزاء الذي يجازي به المستهزأون يوم القيامة حيث صرحت به الآية الأولى منهما فقال تعالى: (فلا نُقيمُ لهم يوم القيامة وزنا) والثانية فقال تعالى: (ذلك جزاؤهم جهنّم بما كفروا واتخذوا آياتي ورُسُلي هزوا) حيث جعل الاستهزاء معطوفاً على الكفر ومقتضى العطف التغاير، حيث هو كفر وزيادة، والاستخفاف وعدم الاحترام واعطاء الوزن والقدر يتمثل بألوان مختلفة، منها: عدم الاصغاء للرسل (عليهم السلام) أثناء التبليغ، وإحداث الضجيج، والضحك عند تلاوة الآيات والوحي، واتهامها بأنها أساطير تشبه أساطير الأولين من ملوك الفرس والقدماء، أو أنه لا خير فيها.
ولكن الأنبياء(عليهم السلام) والمؤمنين إنما كانوا قد عزفوا عن هذا الذي اعتاد الاعداء عليه ووجّهوا جُلّ همّهم وعزمهم إلى ابتغاء رضوان الله وجنانه وكرامته يوم القيامة.
المورد السابع: في الآيتين (5) و (6) من سورة الشعراء وهو قوله تعالى: (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين. فقد كذّبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون).
وهو مورد يتحدث عن حالة استمرار الاعراض والاستهزاء بدون انقطاع على رغم ان الذي يُستهزأُ به من قبلهم هو ما فيه صالحهم وتدبير أمورهم.
والمواجهة مؤلمة لما تتصف بالاستمرار من قبل الخصوم ولما يعتقد فيها النبي أن الذي يستهزءون به لصالحهم وليس ضدهم.
المورد الثامن: وهو في قوله تعالى: (ومن النّاس من يشتري لهو الحديث ليُضلّ عن سبيل الله بغير علم ويتّخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين).
والاستهزاء هنا تفسّرُه الروايات منها:
1_ في المجمع: نزل قوله تعالى: (ومن النّاس من يشتري لهو الحديث) في النضر بن الحارث، كان يتّجر فيخرج إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم ويحدّث بها قريشاً، ويقول لهم: ان محمّداً يحدّثكم بحديث عاد وثمود وانا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الاكاسرة فيستمعون حديثه ويتركون استماع القرآن.
2_ وروي في المجمع ايضا عن أبي عبد الله (ص) أنه قال هو الطعن بالحق والاستهزاء به وما كان أبو جهل وأصحابه يجيئون به، إذ قال يا معشر قريش ألا أطعمكم من الزقّوم الذي يخوّفكم به صاحبكم، ثم أرسل إلى زبد وتمر فقال هذا هو الزقوم الذي يخوّفكم به... إلى آخره.
وهذا باب خاص بالقصّاصين وأهل الترهات وأهل اللهو والشعر وغير ذلك مما يدخل تحت باب التلهي والإستهزاء.
فالمواجهة هنا اذن تدخل في حقل التخصص ولا يردها إلاّ من له شأن وكفاءة.
المورد التاسع: وهو في الآية (83) من سورة غافر (المؤمن) حيث قال تعالى فيها: (فلما جاءتهم رُسُلُهم بالبيّنات فَرِحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون).
مجيء الرسل بالدلائل والحجج على التوحيد والنبوة والمعاد وسائر العلوم الدينية فروعاً وأصولاً. هو حدود علم الذين كفروا وحدود اطلاعهم عن رسالة الانبياء أما العلم الذين عندهم فهو علم الحياة الدنيا وهو غير العلم بالغيبيات الذي عند الأنبياء وإنما هو علم ظاهري محسوس على حدّ اعتقادهم. الأمر الذي يجعلهم يستخفّون ويستهزءون بما عند الرسل من العلم لانه علم لا يحرّك ساحة الواقع الماديّ ولا يحتل فراغاً كبيراً من توجه الناس وشغفهم وتعلقهم.
فمواجهة الاستهزاء تتخذ في هذا المورد طابع الغرور والعجب النابع من الاعتقاد الخطأ بمحدودية ما عند الأنبياء من علم والنظر بعين واحدة لما عندهم، وهذه الظاهرة دائماً توجد في الساحات التي تفهم فيها الرسالة بهذا الفهم الضيق الغريب عن حقيقة الرسالات السماوية، وتنطلق في الساحات التي تحركها روح الاستعلاء والغرور والانانية.
المورد العاشر: في الآيات (32) _ (35) من سورة الجاثية وهو قوله تعالى: (وإذا قيل إنّ وعد الله حقّ والسّاعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما السّاعة إن نظنّ إلاّ ظنَاً وما نحن بمستيقنين. وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النّار ومالكم من ناصرين. ذلكم بأنّكم اتّخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدّنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون).
ويظهر فيه الاستهزاء بمعنيين هما:
الأول: مقابلة الأشياء الظاهرة والمقطوع بها والمؤيّدة جزماً من قبل العقل بالظن وعدم الدراية والفهم والوضوح. وهذا نوع استخفاف بالدليل وما يؤديّ إليه وان كان قطعياً.
الثاني: نسيان الأمور المهمة ومن أهمها لقاء الله في يوم القيامة للجزاء والحساب، ونسيان الأمور الهامة يدل على عدم وجود شأنية وقدر لها، ويدل على الاستخفاف بها في نفس وذهن الناسي، لأنها لو كانت ذات بال عنده لما نساها، بل لأعدّ لها ما يناسبها. ولهذا قُوبِلَ تعاملهم هذا بتعامل مثله من قبل الله عزّ وجل حيث قال: (فاليومَ ننساكم كما نسيتُم لقاءَ يومِكم هذا...).
يقول صاحب الكشاف في تفسيرها: أي نجعلكم كالشيء المنسي غير المُبالى به، كما لم تبالوا أتم بلقاء يومكم ولم تخطروه ببال كالشيء الذي يطرح نسياً منسياً.
ثم ان الآيتين تبرزان المواجهة بعمقها التطبيقي الذي لا عمق بعده إذ الأمور المتيقنة منقوضة لعدم الدليل عليها وانها غيب بنظرهم، والأمور الهامة جدّاً بل والأهم منها إذا قيست إلى غيرها في الواقع شأنها شأن التوافه جدّاً التي لا تستحق إلاّ النسيان والإهمال وعدم المبالاة.
------------------------------
المصدر: خط الانبياء والمواجهة
 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   ||  موسوعة السيرة والتاريخ