موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
السيرة والتاريخ

د .مصطفى منجود
الدولة وإرهاصات التعامل الخارجي

لم تقف واجبات الدولة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به ـ وهو مقتضى السياسة الشرعية ـ عند حدود يثرب، فثمة مقتضيات أخرى كانت تدل على أن الفعاليات السابقة لم تكن سوى تمهيدات أولية لممارسة بقية واجبات الدولة فيما وراء هذه الحدود، ومنها مقتضى الأمر الإلهي بتبليغ الدعوة للناس كافة (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وأن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)، ومقتضى عالميتها (وما أرسلنك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً)، ومقتضى الأمر بالإنذار بعاقبة الصد عنها (يا أيها المدثر قم فأنذر) حيث ضرورة وصول حقيقة الإنذار إلى من يمكن إنذارهم حيثما حلوا وأقاموا، ومقتضى ظهور الدين كله بالهدى ودين الحق (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) ومقتضى الحذر والحيطة من حالة التربص، وإرادة النيل من الدولة التي كانت شغل، أو هاجس قريش ومن ساندها، ومقتضى الأمر بالجهاد والأذن بالقتال لكل من حال دون وصول الدعوة إلى الناس، ومناصبة أهلها العداوة والبغضاء، سواء داخل يثرب، أو خارجها (إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس ببعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره أن الله قوي عزيز).
لكل هذه المقتضيات بدأ تحرك الدولة لإعلان حقيقة رسالتها الحضارية وإعلائها، وإبلاغ وظيفتها العقيدية إلى من حولها دعوة وإنذاراً يسندهما منطق العزة والقوة والاستعلاء بالحق وقد اتخذ ذلك صوراً عديدة يأتي في مقدمتها:
أـ التعامل القتالي العضوي مع قريش، ومن كان على شاكلتها من المشركين عموماً عبر سلسلة من الغزوات والسرايا التي بدأت أولى انطلاقاتها قبل غزوة بدر، بهدف "استكشاف" الطرق المؤدية إلى مكة وعقد المعاهدات مع القبائل التي مساكنها على هذه الطرق، وأشعار مشركي يثرب، ويهودها، وأعراب البادية الضاريين حولها، بأن المسلمين أقوياء، وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم، ثم تتابعت بعد ذلك الغزوات والسرايا تترى، وكان من أشهرها بدو الكبرى، واحد، والخندق، وبني قريظة، وبني المصطلق، وخيبر، ومؤتة، وفتح مكة، وحنين، والطائف، وتبوك، وغيرها من وقعات ومنازلات افاضت في تفاصيلها المصادر التاريخية ومصادر السيرة النبوية، فكانت بعد التشريع الإلهي مدخلاً لإرساء القواعد الأساسية للقتال في الإسلام في فرضه على الكفاية والعين، وأسبابه وأغراضه، ومثله، وأخلاقه، وأساليبه، وفنونه، وسيرته، ووجهاته، وانقضائه مطلقاً أو مؤقتاً، وآثاره بعد النصر أو الهزيمة.
ب ـ إرسال الرسل إلى ملوك الدول وزعماء الأمم خارج المدينة، يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست من الهجرة إلى الإسلام، وكتب إليهم بذلك، يروي ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم استنهض أصحابه كي يحملوا رسائله إلى هؤلاء الملوك والزعماء فقال "أن الله بعثني رحمة وكافة فأدوا عني يرحمكم الله، ولا تختلفوا علي كما اختلف الحواريون على عيسى بن مريم. قالوا وكيف يا رسول الله كان اختلافهم؟ قال: دعاهم لمثل ما دعوتكم له. فأما من قرب به، فأحب وسلم، وأما من بعد به، فكره وأبى، فشكا ذلك عيسى منهم إلى الله فأصبحوا وكل رجل منهم يتكلم بلغة القوم الذي وجه إليهم.
ج ـ أخذ المواثيق على القبائل العربية التي دخلت في الإسلام، وكتابة العهود والمواثيق التي تحقق لهم الحصانة الإسلامية الكاملة، من حقن الدماء، وحفظ الأنفس والأموال والأغراض وإقرارهم على ما كان تحت أيديهم بالعدل، مقابل الاستقامة على دين الإسلام وإقامة شعائره والتزام مقتضياته التي جاء من أحكامها في كثير من العهود والمواثيق إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ومفارقة المشركين، وطاعة الله ورسوله، وإعطاء خمس الله وسهم النبي صلى الله عليه وسلم من المغانم، وتأمين السبل، والنصح في دين الله.
د ـ كتابة العهود لأهل الكتاب من غير المسلمين الذين قبلوا الدخول في هوية الدولة على أن يعطوا الجزية والانتهاء عند شرائط ما جاء في هذه العهود، وعدم خرقها، حتى يظل أمر إقرارهم ـ على ما كانوا يدينون من نصرانية أو يهودية أو مجوسية ـ التزاماً واجباً على المسلمين كافة.
ه‍ ـ استقبال الوفود من قبائل العرب التي قدمت إلى المدينة تعلن انقيادها لطاعة الله وطاعة رسوله، والإقامة على الإسلام، وهي القبائل التي تأخرت في إسلامها إلى ما بعد فتح مكة وغزوة تبوك وإسلام ثقيف التي سامت النبي صلى الله عليه وسلم سوء العنت والعداوة قبل الهجرة إلى يثرب، ولابن هشام فضلاً في بيان سبب هذا التأخير، إذ يذكر أن العرب كانت ترقب أمر قريش، وموقعها من الإسلام ومن الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قريشا ـ كانوا عند العرب ـ أمام الناس وهاديهم، وأهل البيت الحرام، وضريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقادة العرب لا ينكرون ذلك، وكانت قريشا هي التي نصبت لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما افتتحت مكة ودانت له قريش ودوخها الإسلام، وعرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عداوته، فدخلوا في دين الله كما قال عز وجل "أفواجاً" يضربون إليه من كل وجه.
وهذه الصور الخمس ـ التي تم عرضها بإيجاز ـ لا يتسع الوقف كي نتوقف أمام كل واحدة منها بالتفصيل، خاصة أن كل واحدة لا تخلو من بعض الدلالات السياسية، بيد أن مقام التحليل هنا يسمح بإيراد بعض هذه الدلالات في التعامل الخارجي عليها جميعاً، ومن ذلك:
1- إن نداء الفطرة الإيمانية لدى كثير من القبائل العربية التي دخلت في الإسلام خارج المدينة كان أقوى في تلبية داعي الإيمان ـ لما عرضت عليها الدعوة ـ من دعاوى الشرك والوثنية التي كان معظم هذه القبائل يدين بها، وقد عجل بسبق هذه القبائل ثلاثة أمور، أولها فاعلية الدعوة وفاعلية حامليها في مس أصول ما كانت عليه من معتقد فهزته وفندت أسسه، والثاني لغة العزة والقوة التي حمل بها خطاب الدعوة، وإدراك القبائل أن مصدرها ـ أي اللغة ـ لم تكن إرادة بطش وإكراه بقدر ما كان إرادة تصميم وجهاد على إخراجها مما كانت فيه من ضلال وغواية، والثالث ما وجدته القبائل في دولة النبوة من نموذج للتماسك والتآخي والأمن بفعل التغيير العقيدي الذي أحدثه الإسلام في المدينة، وسرت آثاره يانعة في مناحي الحياة كافة.
2- كذلك فان إرسال الرسل والسفراء إلى ملوك الأرض وحكام دولها ـ وكان فيهم من فيهم من الهيمنة والسطوة واتساع النفوذ ـ كان إعلاماً وإنذاراً في آن واحد إعلاماً بأن الدعوة خطاب عالمي لغته موجهة إلى الحكام والشعوب عرباً كانوا أو عجماً داخل الجزيرة العربية وخارجها، وأن جوهر هذا الخطاب أن تستعلي عقيدة التوحيد على الربوبيات الزائفة واتخاذ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، وأن الإسلام به ـ أي الخطاب ـ لا يعادي اليهودية أو النصرانية أو المجوسية التي كانت تدين بها بعض الدول والممالك التي خوطبت خارج المدينة وإنما هو الرسالة الخاتمة التي جاءت تتمة لما قطعه أنبياء الله منذ نوح ومن تلاه من رسل الله صلوات الله عليهم وحتى محمد صلى الله عليه وسلم من أشواط في طريق الدعوة إلى الله. وأما الإنذار فقد بدأ في قوة الخطاب التي لم تخل من تهديد ووعيد بالحق بأن أعراض السلطات الحاكمة، ورفضها الاستجابة لدعوة رسل النبي صلى الله عليه وسلم ومنعهم إبلاغها شعوبها يعني أن ممالكها وزعاماتها وعروشها قد آذنت بزوال، وأن جيوش الدعوة الجديدة ستتحرك قريباً في مشارق الأرض ومغاربها لتزاول هذا الواجب الجهادي الحضاري.
2- وأن عهود الذمة التي أبرمت لأهل الكتاب تؤكد أن ما جاء في صحيفة المدينة أو وثيقتها من جواز موادعة أهل الكتاب ومعاهدتهم وإقرارهم على دينهم وأموالهم وفق شروط الذمة بينهم وبين المسلمين لم يكن مجرد تعهد شكلي أو التزام صوري، وإنما كان منهج حياة الزم المسلمون به أنفسهم لما الزمهم الله تعالى به في التعامل الشرعي بينهم وبين غيرهم، والتزام طريقة واضحة في أن من قبل القيام على ملته وشرعته اليهودية أو النصرانية أو المجوسية له ذمة الله وذمة رسوله ثم ذمة المسلمين، انطلاقاً من تراحم وتسامح إنسانيين، ونزولاً عند أحكام شرعية موحى بها تقوم على إحسان التعامل والبر والقسط والرحمة لكل من انضوى في رعوية الدولة الإسلامية ما دامت العهود مرعية، وما دام كل طرف ـ مسلماً وكتابياً ـ عند شروطه التي قبلها طواعية دونما إكراه مادي أو معنوي.
3- أن مجيء الغزوات والسرايا في عصر النبوة ـ على تنوعها وتعدد جولاتها وتقلب الدائرة مع المسلمين أو عليهم ـ يثبت أن الجماعة المؤمنة التي كانت مستضعفة في مكة قد أضحت قادرة مع الدولة والتمكين في المدينة، والأذن بالقتال، على أن تنفض عنها غبار الاستضعاف، وأصبح لها شوكة وهيبة تستطيع من خلالهما التنقل من منطق الإقناع والحوار بالحكمة والموعظة الحسنة لإبلاغ الدعوة إلى منطق المنازلة والالتحام العضوي ـ أن لزم الأمر ـ جهاداً وقتالاً في سبيلها، ويشير تعدد الغزوات والسرايا إلى أن جولات النزال لم تأت دفعة واحدة، ولم تأخذ طوراً محدداً، وإنما تطورت بتطور الدعوة وتطور الموقف الرافض منها وأنها حتى في هذا التطور لم تكن على وتيرة واحدة حسب طبيعة الموقف الرافض ومداه، وتقدير قيادة النبوة لقوته وضعفه، لكن تبقى الدلالة المهمة فوق كل ذلك، وهي أن تقلب المسلمين بين النصر والهزيمة في بعض المواقع القتالية ـ غزوة أو سرية ـ كان من قبيل الدروس الابتلائية لتصحيح مواقع الأقدام، وتمحيص المؤمنين ومراجعة الذات، وتجديد الإيمان وتبين مواقع الخلل والنقص وتطهير الصف، ومعرفة سنن الله في الظهور والغلبة، والضعف والهزيمة.
4- ثم أن استقبال وفود القبائل داخل المدينة بعد انتقال الدعوة إلى بعضها الآخر خارجها ودخول الكثير من الفريقين في الإسلام له دلالته في أن المدينة كانت بمثابة مركز الثقل السياسي الذي تمتع بنشاط سياسي كبير، وفاعلية في العملية الاتصالية بينه وبين غيره من المراكز الأخرى، في مجال نشر الدعوة إن بانتقال ممثلي السلطة السياسية إلى حيث الإعلام والإنذار بالدعوة على نحو ما سلف، أو باستقبال وفود القبائل وانتقالهم إليه، كما له دلالته في منطقية التساؤل عن كيفية تحول القبائل العربية عما دأبت عليه وألفت فيه آباءها الأولين منذ القدم من عبادة ما سوى الله بهذه السرعة في تزامن أحياناً، وفي تلاحق أو تتابع أحياناً أخرى. إن ما ينبغي ملاحظته في هذا السياق هو أن منطقية التساؤل لا تعني بحال من الأحوال التشكيك أو التشكك في مدى إسلامية مسلك هذه القبائل أو في صدق نواياها الإيمانية بقدر ما تعني القول بأن هذه الإسلامية وتلك النويا كانت في حاجة إلى تمحيص وبلاء شديدين ليعلم الصادق من هذه القبائل في إيمانه من الكاذب. ويبدو أن المشيئة الإلهية أرادت التعجيل بهما عقب انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، وذلك لما اكتشف أهل السابقة الإيمانية من المهاجرين والأنصار أن إسلام كثير من القبائل التي دخلت فيه إبان عصر النبوة لم يكن ثابتاً أو قوياً راسخاً لما دعاها داعي الارتداد، إذ انساقت وراءه ملبية، خالعة ما كانت قد أسلمت عليه وأن كان حتى حين كما سيرد لاحقاً.
5- وأخيراً فأن منطق التعدد في استخدام أدوات التعامل الخارجي قد وجد سبيله على نطاق واسع في عصر النبوة، وإذا "كان البعض يرى أن التقاليد التي سادت في الأسرة الدولية في نهاية العصور الوسطى كانت تجعل التعامل أساسه قتال أم سلام، وليست هناك بدائل، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ حكمه للمدينة وضع تقاليد واضحة تذكرنا بما نسميه اليوم تعدد أدوات التعامل الخارجي فقد كان ينطلق في ممارساته من خلال أدوات ثلاث تمثل دائرة تسمح للتحرك بأن يستند إلى عدة مرتكزات، القتال ثم التفاوض ويكمل ذلك المصاهرة. ففكرة المصاهرة لم تقتصر على الرسول صلى الله عليه وسلم بل تعدت ذلك إلى المقربين منه وأعوانه" فانه باستطاعنا الإضافة إلى هذه الأدوات الثلاث ـ استخلاصاً مما عرض آنفا ـ عهود الأمان والذمة لغير المسلمين واتفاقيات الصلح (صلح الحديبية على سبيل المثال) واستقبال الوفود، وتبادل الرسل والسفراء، والحرب النفسية (الملابسات التي صاحبت فتح مكة) فضلاً على التوظيف الفعال للأداة الاتصالية بالخطب والرسائل والمناظرات والمواعظ والوصايا على المستوى الفردي والمستوى الجماعي من حيث الجهة المتلقية للاتصال والمخاطبة به.
-------------------------------------
المصدر : الدولة الإسلامية وحدةُ العلاقات الخارجية في الإسلام/ ج9

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   ||  موسوعة السيرة والتاريخ