موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
السيرة والتاريخ

فاضل الربيعي
موت وزوال شعب (عاد) القديم

إذا كان التاريخ يصمت صمتاً مريباً حيال موت وزوال شعب (عاد) القديم، فإن الأسطورة لن تفعل ذلك قط. وبخلاف سلوك التاريخ، التقليدي، حيال كثرة من الأحداث التي يطمسها دون رحمة، تروي الأسطورة بشروط إنشائها الخاصة، الحكاية المسكوت عنها وتصرخ بالأسباب الحقيقية لهذا الموت، وبالطبع المتلعثمة، الرمزية والمكثفة الدلالات.
أسطورة (وفد عاد) التي ذكرتها وسجلتها سائر المصادر القديمة، يمكنها، في هذا الإطار المحدد للفكرة، أن تفسر مسألة موت وزوال شعب عاد القديم، وهي تتشابك وتتقاطع عبر مستويات كثيرة مع أساطير مماثلة عن أسباب زوال شعوب وقبائل من العرب العاربة. بيد أن أسطورة (وفد عاد) تروي بشروط إنشاء شفاف، ومخادع في الآن ذاته، قصة إرتباط هذا الزوال أو الموت التاريخي، بحدوث عقاب سماوي ماحق، غامض القوة والجبروت، يصعب على القبيلة توقعه أو التكهن بمذياته، ولكن مع هذا يمكن تفهمه وقبوله دونما مساءلة، بالنسبة لنا، نظراً لحدوده الدينية الصارمة وأغراضه الوعظية. تقول أسطورة (وفد عاد) هذه: أن قبيلة عاد بعثت وفداً من نحو سبعين رجلاص إلى مكة، لكي يبتهلوا في الحرم من أجل أن يهطل المطر في مضاربها، بعد ثلاث سنوات من العكش والقحط والجفاف. كان ابن عنز وهو قيل من أقيال اليمن زعيماً للوفد، والكعبة آنئذ مكان العرب المقدس تحت إدارة (العماليق) حكام مكة الأقوياء. ويبدو أن مهمة الوفد كانت عسيرة منذ البداية، إذ صادفته بعض المفاجآت غير المتوقعة، أعاقت وصوله بسهولة وفي الوقت المناسب إلى الكعبة.
إجرائياً، يجوز اعتبار (الوفد) المؤلف من نحو سبعين رجلاً، بمثابة (قافلة) أمكن تسييرها ـ أخيراً، كتدبير ديني لإعاقة العنف المحتمل، الموت الجماعي للقبيلة جراء العطش والجفاف. وهذا الخروج الجماعي للقبيلة، وإن بصورة رمزية مكثفة أسطورياً،، لملاقاة الدمار المتربص وإحباطه، يتضمن كل العناصر اللازمة لتأسيس هجرة (رمزية) صوب المكان المقدس والاحتماء به، بوصفه المصدر المثالي لتوطيد إمكانات الإعاقة. ولما كان هؤلاء متعطشين للسفر وبلوغ المكان المقدس، واجتازوا في سبيل ذلك طرقاً صحراوية شاقة، وتحملوا مصاعب وأهوال السفر والوصول بسرعة لإنقاذ القبيلة من الموت، فقد وجدوا أن من المناسب لهم ـ كما تقول الأسطورة ـ ما داموا أصبحوا على مقربة من مكة، أن يرتاحوا قليلاً قبل الاندفاع نحو الكعبة، والبدء بطقوس نشدان الماء في الحرم، في صلاة جماعية للإستسقاء، وكان سيد مكة، آنئذ، معاوية بن بكر، الذي كانت أمه جلهدة ابنة الخيبري من قوم عاد. وبحسب الأعراف القبلية فإن (الخال) القادم من الأحقاف وهي موطن عاد، إلى مكة، لا بد أن ينزل في ضيافة (ابن إخته) العماليقي في أطراف مكة. ويبدو أن الوفد وجد في الضيافة الكريمة للعماليق عذراً مقنعاً للبقاء وقتاً أطول، فأقام عنده شهراً، يشربون الخمرة وتغنيهم (الجرادتان) وهما قينتان لمعاوية بن بكر حاكم مكة. ولما طالت فترة مكوث الوفد، قرر ابن بكر أن يكتب أغنية وطلب من القينيتن أن تغنياها، وكانت أغنية مكارة ضمنها الحاكم كل دهائه، لإبعاد ضيوفه عن مكة والعودة سريعاً إلى بلادهم وذلك عبر الحث على الذهاب للصلاة في الحرم ومغادرة المكان المقدس. وفي مقاطع من الأغنية، شدد على مخاوفه من أن يسبب البطء أو التأخر في الرحيل موتاً مدمراً للقبيلة لا مناص منه. وعندئذ أدرك الضيوف أن الوقت قد طال وأن لا بد من الذهاب إلى الكعبة والدعاء في رحابها. وحين بلغوا المكان المقدس دعا داعيهم وهو ابن عنز، أن تنجو (عاد) من الهلاك المحتوم عطشاً، فأرسل الله تعالى ثلاث سحابات بيضاء وحمراء وسوداء. ولكن فجأة ناداه مناد من السماء: (إختر لنفسك ولقومك من هذا السحاب؟).
وبغريزة البدوي الذي تدله معارفه إلى أن السحابة السوداء تحمل وعداً بالمطر، فقد اقترع ابن عنز لصالح السحابة السوداء دون تردد. ومع هذا عاد الصوت الغامض يناديه: (قد إخترت رماداً رمدداً. ولا تبقي من عاد أحدا. لا والداً يترك ولا ولدا. إلا جعلته همدا. إلى بني اللودية الهمدا).
بعد ذلك مباشرة، ساق الله السحابة السوداء إلى مضارب قبيلة عاد، حيث كان الناس هناك ينتظرون عند واد إسمه المغيث. لقد استبشروا خيراً وهم يرونها تخرج من فم الوادي، ولكن إمرأة حاذقة اسمها فهد أدركت، بنفاذ بصيرتها، أن السحابة لم تكن تحمل ماء بل شهباً من نار، فصعقت وأغمي عليها، فلما أفاقت راحت تنبه رجال القبيلة إلى إهلاك القادم نحوهم. على أن أحداً لم يكن يكترث للتحذير. لقد رأت المرأة (ريحاً صرصراً) تخرج من فم الوادي وعلى مدى سبع ليال وثمانية أيام راحت الريح تفتك بالقبيلة وتمطرها بشهب نارية.
قبل كل شيء لا بد من القيام بمقاربة هذه الأسطورة مع الحلم (وربما معاملتها ـ بالفعل ـ على أنها حلم تمت صياغته بلغة الأسطورة، أو هي أسطورة كتبتها الجماعة البشرية الهالكة بلغة الحلم، المتلعثمة، الغامضة والسرية التي نجهل تماماً أبجديتها، ذلك أن إنقلاب الألوان من الأسود إلى الأحمر، وإنقلاب الخير إلى شر، هو جزء من فكرة العرب القديمة عن تأويل الأحلام: فإذا رأى المرء (مثل المرأة الحاذقة في الأسطورة والتي أغمي عليها وهي ترى السحابات) في منامه شيئاً أسود، فهذا يعني أنه سيرى، في الواقع، شيئاً معكوساً. وهذا ما يفسر لنا سبب الانقلاب المفاجئ للسحابة السوداء والتي تحمل الوعد بالماء، كما خيل لرجال القبيلة، إلى سحابة نارية حمراء مدمرة. وبحسب معارف البدو والزراع والرعاة، فإن المرء يختار غريزياً، السحابة السوداء الحبلى بالمطر بل ويسعد لمنظرها، وهذا ما فعله ابن عنز قائد القافلة المرسلة إلى مكة. بيد أن المرأة، على العكس من ذلك، صعقت وغابت عن الوعي لترى شهباً حمراء، وبذا تكون قد رأت اللون الحقيقي.
كانت الخمرة في عقائد الساميين، وفي بلاد ما بين النهرين، على وجه الخصوص، تعد شراباً مقدساً. فهي (شراب الآلهة) الأول. وقد ألمح القرآن الكريم في إشارات لا تماريها العين إلى مكانة خاصة للخمرة في الجنة، فهي تجري في صورة نهر عظيم. وحتى اليوم لا تزال إشارات المتصوفة القدامى والزهاد من رجال الدين المسلمين تقرن الوجد والعشق الإلهي والروحي في أرفع درجاته بالسكر وبشرب الخمرة الإلهية، بحيث تأخذ كلمة (الكأس) أو (الحانة) معنى مختلفاً عن الشائع، عبر دمجها بالفكرة القديمة عن الخمرة بما هي شراب الآلهة.
لقد اقترنت طقوس العبادة الدينية بتقديم الخمرة للآلهة ضمن التقدمات، في معظم الأديان السامية القديمة، ولكن تدهور، ثم انحطاط هذه العلاقة، أدى إلى تدهور في مكانتها الدينية بحيث انتقلت تدريجياً إلى حيز الدنس ولتكون ملك الإنسان لا الآلهة.
من البين أن شيئاً من هذه المكانة لم يعد موجوداً إلى في صورته الرمزية في المسيحية، وعدا ذلك فإن تقاليد تقديم الشراب المقدس القديمة، تكاد تكون قد تلاشت نهائياً في شكلها الطقوسي. يروي ابن عباس (رض) في المعراج المنسوب إليه، كيف أن الرسول العربي الكريم (ص) عندما عرج به من بيت المقدس إلى السماء، جاءه جبريل، داخل البيت المقدس، بإناء فيه خمرة وإناء آخر فيه لبن ثم دعاه إلى الإقتراع. يقول ابن عباس (رض): إن محمداً (ص) اختار اللبن وإن (جبريل) قال له: لو أنك يا محمد اخترت الإناء الآخر لذهبت أمتك إلى النار. (وهنا رجع صدى لأسطورة شرب الخمرة في مكة الذي جاء بعده العقاب السماوي الماحق لشعب عاد). تكتمل القداسة، إذن، مع صحة الإختيار ودقته، في الإقتراع المجرد من أي تلاعب أو خداع. وفي معرفة الحدود الأزلية أيضاً، بين ما هو إلهي أو خاص بالآلهة في الصميم ولا يجوز خوض المنافسة حوله، وبين ما هو بشري أو خاص بهم. إناء اللبن هو ما تختاره الآلهة للبشر كبديل رمزي عن نزعاتهم للتقاسم والمشاركة مع الآلهة في الشراب المقدس. بل إن هذا الاقتراع يصبح أمراً حاسماً وضرورياً لإحداث التمايز الأبدي بين المقدس والمدنس.
بهذا المعنى أعاد الإسلام (عبر تحريم الخمرة والإلحاح على تصويرها كمادة سماوية): رسم الحدود المنتهكة، من جديد، ونهائياً، بين الحيزين الإلهي والبشري، السماوي والأرضي، وقام بعقلنة الرغبات البشرية وتكييفها وذلك بعد سلسلة طويلة ومعقدة من الاختراقات المتتالية لنظام الحرام.
ما فعله (وفد عاد)، بحسب الإضافة المعتقد أنها غضافة إسلامية متأخرة، أنه إقترع لصالح الخمرة حين قدمت إليه وهو في طريقه إلى الكعبة. هذا الاقتراب المحرم من الخمرة بدلاً من الماء وبالتالي الاقتراب من المكان المقدس، يؤسس لشروط الدمار والهلاك الجماعي ويفسره، إذ لا يمكن فهم الخديعة التي انطوى عليها الاقتراع حول السحابات الثلاث: السوداء والحمراء والبيضاء، دون ربطها بخديعة تقديم الخمرة، وهي خديعة مصممة، أصلاً، لإعاقة الوفد عن الاقتراب من المكان المقدس: تدنيسه وجعله عرضة للعقاب.
ولئن كان من البين أن اختيار (الخمرة) ينسجم ـ داخل الخطاب الأسطوري ـ مع المرويات الشائعة عن طغيان (عاد) وكفرها وجبروتها و (عتوها على الله) كما يقول الثعلبي، فإن أسطورة ]إرم[ التي ترتبط باسم عاد وتحديداً باسم ملكها الأسطوري (شداد) ستدعم هذا السلوك وتوطده بوصفه سلوكاً وثنياً، الأمر الذي سيعني أن هدف الاقتراب من المكان المقدس من جانب شعب وثني قصد الإستيلاء عليه، إنما هو الهدف الحقيقي للوفد.
بهذا المعنى ينجم عن تناول الخمرة في إطار المكان المقدس، وليس في أي مكان آخر، إفتضاح لا حدود له لنوايا العدوان البشري على الحيز الإلهي. ولما كان تناول الخمرة قد جرى داخل المدينة المقدسة، بما هي نموذج أصلي (أرضي) عن نموذج سماوي تعترف سائر القبائل دون تردد بقدسيته وبكونه، حقاً، النموذج الوحيد الذي بني وفقاً لصورة سماوية مطابقة، وهذا أمر شديد الحساسية ما دامت الثقافة العربية القديمة، قد نظرت هي الأخرى، إلى الخمرة على أنها (مادة) في عداد التقدمات الإلهية، فإن من المحتم، آنئذ، أن يكون الرد سماوياً، ماحقاً وعاصفاً ومعبراً عن غضب الآلهة. يؤيد عبيد بن شرية الجرهمي (أخبار اليمن) رواية مجيء الوفد إلى مكة لغرض الإستسقاء، ويلاحظ أنها من طبيعة مركبة تجمع بين الحج والصلاة من أجل المطر وشرب الخمر، مؤكداً أن الوفد قام، عملياً، بانتهاك القربان في حدود المقدس. ولكن خارج هذا النطاق الميثولوجي للحقيقة التاريخية المتصلة بزوال شعب قديم، ثمة مغزي للصراع الرمزي بين الماء والخمرة يمكننا أن نجده في صراع محتمل على السلطة في المكان المقدس، ربما حدث بين عاد والعماليق. بل إن هذا الصراع الرمزي لا بد أن يعبر، على نحو من الأنحاء، عن صراع مرير جرى ذات يوم بين الخال وابن الأخت، وأن كل إشارات الأسطورة المرسلة عبر لغة مرمزة، لا تهدف، في النهاية، إلا إلى التعبير عن ذلك التزاحم بالمناكب الذي انخرطت فيه سائر القبائل العربية للإستيلاء على الكعبة وإحتكار السلطة فيها، دون أن تكون هناك روادع أسرية أو عوائق أخلاقية تمنع الاستمرار فيه.
وهناك من يعتقد من الإخباريين القدماء (المسعودي مثلاً) أن العماليق حكموا مصر وكانت لهم سلالة من الفراعنة هناك، وهي السلالة التي يزعم أنها أول سلالة عربية حكمت مصر إبان ما يدعى في السجلات المصرية بحقبة الهكسوس (زهاء 1750ق.م.)، ولكن سلطة العماليق كانت، بوجه أخص، في نطاق مكة، التي لا تملك أية قوة منافسة إمكانية منازعتهم داخلها. ولأن مكة اشتهرت قديماً بغزارة آبارها وعذوبة مائها، فمن الواضح أن واحدة من (مواد) الصراع ضد العماليق كانت تجري على أرضية الطموح والحق في المشاركة بهذه الثروة، وذلك ما تدلل عليه تجربة الصدام الرهيب الذي قادته جرهم لإزاحة العماليق.
لقد كان التزاحم، بين القبائل، بالمناكب على مكة، واشترك فيه كل الأقوياء، دون أن تكون هناك إستراتيجية محددة تتجاوز إطار إعادة (إنتاج الإحتكار). فهذه لم ينجح في تقديمها سوى الإسلام، الذي عرض شكلاً جديداً للمشاركة يقوم على قاعدة إلغاء الاحتكار القديم، وبجعل الكعبة مكاناً مقدساً يخص الجميع. قد تبدو رحلة (الوفد) إلى مكة من هذا المنظور، وكأنها (هجرة) جماعية مصغرة قوامها زهاء سبعين رجلاً، بحثاً عن رص المشاركة في الماء، لا مجرد رحلة حج كما ارتأى عبيد. ومن شأن هذا الافتراض أن يقدم حلاً مثالياً لجملة شائكة من الألغاز في الأسطورة وفي التاريخ القديم، المنسي والضائع على حد سواء.
كانت (الخمرة) في سياق رحلة الوفد عنصراً مفاجئاً، تدخلاً مثيراً أعاق وصول الجماعة (المهاجرة) إلى الماء وأحبط هدفها المموه. وعندما كان المضيفون يقدمون لضيوفهم الخمرة، فإنهم كانوا يقدمون، بذلك، ورمزياً، البديل القادر على خداعهم وعلى إحباط مسعاهم المنافس. هذا الصراع الذي يدور في نطاق الرموز (الماء والخمرة) يخفي، على المستوى التاريخي الموثق، صراعاً مريراً خاضه العماليق (حكام مكة) ضد القبائل المنافسة، جوهره التنازع حول كسر الإحتكار في المكان المقدس وليس أي شيء آخر، بما أن المشكلة الحقيقية التي نجمت عن وجود مركز ديني للعرب تكمن، في الأصل، في هذا المظهر من مظاهر السلطة. ليس دون معنى أن الإسلام المبكر تنبه إلى هذه المعضلة، بحيث حول فكرة ]رداء الرسول (ص) الذي جمع القبائل لحمل الحجر الأسود[ إلى فكرة أساسية من أفكار توحيد الجماعات البشرية المتنازعة. إن الصوت الغامض الذي سوف يصدح في البرية مناجياً وفد عاد: عليكم أن تختاروا سحابة واحدة من بين السحابات الثلاث، يكثف رمزياً جوهر الصراع الناشب آنئذ ويلخصه. فعلى الغرباء أن يعودوا أدراجهم حاملين الخديعة. وكما تجلى الماء عن خمرة فإن المطر الموعود انقلب إلى نار حارقة، في النهاية وفي سياق التنازع ذاته. وبمبادلة الرموز مع بعضها بعضاً، فإن تناول الخمرة سيكون تناولاً للموت.
إثر هذا الحادث الأسطوري، الذي يفصح عن حقيقة تاريخية مشوشة، سوف يزول شعب (عاد) وينقرض. ولكن ليترك، أخيراً، في ذاكرة فرع ناج منه، هو اللودية، ثم في ذاكرة الجماعات الأخرى، فصول مأساته وفاجعته وحكاية موته. ولكن ولأجل تعميق النقاش حول الإطار التاريخي لهذا الصراع، سنقوم برسم صورة تفصيلية، نعيد من خلالها قراءة إرسالات الأسطورة قراءة مغايرة. هناك، في واقع الأمر، سلسلة من الأدلة الهامة عن الصراع الضاري بين العماليق والقبائل المنافسة، يعود تاريخها الأسطوري إلى اللحظة التي وصلت فيها هاجر إلى مكة مع ابنها إسماعيل، حيث وجدت هناك حماية منهم تم تتويجها بزواج إسماعيل من إمرأة من العماليق.
يعني هذا أن الصراع استمر باستمرار احتكار المكان المقدس منذ لحظة إنبثاقه، ولم يتخلف عن المشاركة فيه حتى شعب بني إسرائيل في طفولتهم البعيدة في الجزيرة العربية. والمقصود بـ (بني إسرائيل) هنا السلالة الإبراهيمية المتحدرة من صلب إسحاق، وهؤلاء لا صلة لهم لا من قريب ولا من بعيد باليهودية (أم يقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هواً أو نصارى قل أنتم أعلم أم الله) (البقرة: 138 ـ 139)، ومعلوم أن القرآن الكريم يقيم تمييزاً دقيقاً بين اليهود وبين بني إسرائيل. لقد خاض هؤلاء صراعاً شرساً ضد العماليق على أساس تنازع ديني بين الوثنية (العماليقية) والتوحيد. بيد أن التوراة، وبسبب من اندثار بعض المعاني الحقيقية للكلمات التي تروي تاريخ وجودهم القديم كشعب من الشعوب البائدة (العرب العاربة) وكذلك بسبب من التشوش في الترجمة من العربية، كما بين ذلك ببراعة الدكتور كمال صليبي في (التوراة جاءت من جزيرة العرب) والدكتور زياد متى في (جغرافية التوراة)، كانت تقوم بحجب هذا الصراع ومبرراته وإطاره.
وحين اعتنقت اليمن اليهودية باشرت باضطهادات واسعة ضد المسيحيين الذين نظر إليهم، عندئذ، كموالين للحبشة غريمة فارس. وهذه المسألة فصلها القرآن الكريم في سرده لحادث الأخدود حين تم حرق مئات النصارى في سياق حرب دينية قام بها الكهان اليهود: (قتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد).
كان أمر مهاجمة الكعبة، المكان المقدس لجموع العرب المنتشرة في كل مكان من أرض الجزيرة العربية، فظيعاً في نظر قادة اليهودية من الأحبار، يصعب تبريره أو تأييده والموافقة عليه، حتى وإن جرى تحت ستار تأديب (الولاة المتمردين). وبوسعنا أن نجد تفسيراً مقبولاً في تردد تبان أسعد وفشل خديعة الهذليين، فبحسب المصادر الإخبارية القديمة، كانت اليمن تشهد في عصر تبان أسعد، البدايات الفعلية ولكن المنسية، لذلك الانقلاب التاريخي نحو اليهودية، والذي عنى، أساساً، الإرتباط بفارس عبر الابتعاد نهائياً عن الحبشة جارة اليمن المسيحية. وبرغم أن كل الدلائل، التي في حوزة المؤرخين المعاصرين، تؤكد أن اليمن اعتنقت اليهودية في عصر ذي نواس، وهو (زرعة) بن تبان أسعد، إلا أن تأكيدات ابن هشام ووهب بن منبه تشير إلى إن ذلك حدث في عصر تبان أسعد نفسه، وذلك اثناء محاولته تنظيم حملة عسكرية لمهاجمة مكة وطرد جرهم من محيط الكعبة. وإذن: فقد تخلى أسعد عن حملته العسكرية لإخضاع مكة بفعل دافع ديني، هو بلا أدنى ريب اعتناقه اليهودية.
لكن جرهم التي دخلت مكة ظافرة بعد طرد العماليق وانتشت بهزيمة هذيل، سرعان ما وجدت نفسها عرضة للتنافس ذاته، وهذه المرة من جانب قوة مهاجرة، تائهة في الصحراء، صاعدة وقوية هي إئتلاف خزاعة.
إذ مع تدهور مكانة اليمن واشتداد الصراع الحبشي ـ الفارسي (المسيحي ـ اليهودي) وتصاعد أدوار القبائل المتنافسة في سياق صراعات محلية ضارية حول الكعبة، وجدت جرهم نفسها في حالة ضعف تام، وكانت عاجزة حتى عن الدفاع عن وجودها التاريخي. بالنسبة لنا، نعتقد بقوة، إن خزاعة كانت إئتلافاً قبلياً واسعاً وطموحاً، ولم تكن مجرد قبيلة كما تذهب بعض المصادر القديمة والمعاصرة. ويبدو أن إسم خزاعة يفسر، بالفعل، فكرة كونها تجمعاً من القبائل المهاجرة صوب مكة، وتحديداً صوب الكعبة بغرض الاستيلاء عليها، إذ يزعم أنها سميت بذلك لأنها (انخزعت) عن الطريق الذي سلكته الجماعات والقبائل الأخرى في إطار هجرات جماعية.
انتهى التنافس بين خزاعة وجرهم بانتصار خزاعة الظافر ودخولها مكة، ومن ثم إمتلاكها مفاتيح البيت الحرام، فبادرت إلى (نفي) الجرهميين لا خارج الحرم المكي وحسب، بل من سائر أرض مكة. لا شك أن أحد أوجه الصراع الضاري بين خزاعة وجرهم حول مكة، والذي سجلته المصادر القديمة بدقة، يكشف عن البعد الحقيقي لكل هذه التنافسات القبلية: الاستيلاء على مصدر النفوذ الديني وامتلاكه، وليس حول أي شيء آخر، كما هو الحال مع بعض مزاعم الإخباريين القدماء والمؤرخين المعاصرين، الذين يحطون من شأن هذا التنافس وأبعاده الروحية، بحصره في حيز التنافس والتزاحم بالمناكب حول وفرة الماء والكلأ. ذلك أن أهداف النزاع تكشف لا عن (رعاة) متصارعين بل عن قوى طموحة للمدينة. ويستدل على ضراوة هذا الصراع من حرمان القبيلة المنتصرة القبيلة المهزومة، من أي حق مهما كان صغيراً وبسيطاً: الإقتراب من الكعبة لأغراض الحد. وفي بادرة عدتها العرب استثنائية في تاريخها القديم، جائرة وقاسية بصورة لا توصف، أباحت خزاعة حق هدر دم كل جرهمي يفكر بالاقتراب من مكة لا من الكعبة وحسب، وكان على الخزاعيين ومن والاهم قتل كل جرهمي وجد قريباً من المكان المحرم حتى وإن كان السبب مشروعاً: تتبع أثر إبل ضائعة.
وسرعان ما وجدت خزاعة نفسها هي الأخرى، عرضة للتنافس ذاته من جانب قوة قبلية جديدة، صاعدة وثرية، وفوق ذلك تمتاز بكونها منظمة تنظيماً جيداً، هي قريش بقيادة زعيمها الفذ قصي جد الرسول (ص). أخيراً: انتهى التنافس بانتصار قريش وطرد خزاعة من البيت.
هذا هو الإطار التاريخي الذي يمكن رسمه للواقعة الأسطورية، بهدف فحص فرضية الصراع بين العماليق وعاد والذي تم التعبير عنه بلغة الرموز. في أحد مستويات هذه اللغة داخل الخطاب الإسطوري، وعلي هامشه، يمكن للمرء أن يقرأ بعناية أكبر بعداً سوسيولوجياً في مغزى مجيء وفد عاد إلى مكة، والذي تسبب في هلاك الشعب وفنائه. ذلك عن انهيار مهمة الوفد المعبر عنها تارة بالانصراف إلى شرب الخمرة في المكان المقدس، وتارة باختيار السحابة المدمرة، إنما هو تجسيد لفكرة إخفاق عاد وفشلها في التنافس ضد العماليق حول مكة. والآن: إذا كان العماليق يتصلون بـ (عاد) من جهة الأم (كانت أمهم جلهدة ابنة الخيبري إمرأة من قوم عاد) فإن هؤلاء، في هذه الحالة، يخوضون صراعاً ضد أخوالهم. يعيد هذا الصراع بين الخال وابن الأخت على المستوى التاريخي والسوسيولوجي تذكيرنا بصراع خزاعة وقريش حول الكعبة. فالفرع الهاشمي من قريش، الأكثر أهمية من حيث مكانته الدينية والذي قاد هذه الحرب بنفسه، ينتسب إلى خزاعة من جهة الأم، إذ كان قصي جد الرسول (ص) متزوجاً من حبى بنت حليل بن سلول الخزاعي سيد خزاعة، وهو الذي ثبت أقدام أعمامه القرشيين وطرد أخوال أولاده الخزاعيين من مكة.
سيقوم ابن الأخت العماليقي، شبيه خاله، بخجاعه وإعاقة إقترابه من المكان المقدس، أي بطرده رمزياً من حيز نفوذه وذلك عبر تقديم الخمرة له، وهي على مستوى المحولات الرمزية في الأسطورة شبيه آخر للماء وبديل عنه. إن توظيف (الخمرة) هدفه المباشر تدنيس الطرف الآخر وحرمانه من الاقتراب من البيت المقدس. تلويثه وإصابته بالعدوى، حتى يضمن الاستيلاء على السلطة واحتكارها. هذا النزاع الذي يجري في الخفاء بين ابن الأخت وخاله نجده في مشهد قصير من التوراة. فقد خدع (لابان) ابن أخته يعقوب وزوجته ابنته الكبرى ليئة بدلاً من الصغرى راحيل، التي أحبها يعقوب وجاء لأجلها وطلبها من خاله زوجة له.
ولذا، أيضاً، سوف يقوم يعقوب بخداع خاله لابان عند حساب الأجرة عن عمله كراع للأغنام، ويحمله على الاعتقاج أنه يعقد معه صفقة رابة، بينما كان يعقوب في الواقع يفوز بأجود أنواع الغنم كأجرة له، أما الأغنام الرديئة فقد صارت من نصيب لابان. هذا المستوى المكبوت وغير المباح من مستويات القمع الذي يلجأ غليه ابن الأخت الخائف من خداع خاله، هو، في النهاية، جوهر الرغبة في الانفصال عنه طبقاً لعلم النفس لفك الإرتباط به والتخلص من التشابه معه.
عبر تقديم الخمرة يمنع الخال عن الاقتراب من المكان المقدس، فبدلاً من الحصول على الماء سوف يعطي بدلاً. وهذه رسالة رمزية موجهة في الأساس لحرمان الخال من خلال الإستيلاء على المكان واحتكاره لنفسه، لحمله على الكف عن مطالباته المموهة بإبقاء هذا التماثل بينه وبين ابن أخته أو استخدامه لصالحه. ثمة ذكرى بعيدة، منسية، كانت تلعب في الظلام لصالح هذه الإعاقة، هي خلاصة ذلك التزاحم بالمناكب حول مكة. سوف يندم العماليق بعد زوال عاد بوقت طويل، لأنهم ارتكبوا الخطأ الفادح ذاته الذي نجحوا في تجنبه ذات يوم.إذ ما إن سمحوا لجرهم الباحثة عن الماء، المهاجرة والضائعة في الصحراء، أن تنزل معهم وتشاركهم فيه، حتى كانوا يفقدون كل شيء.
لقد قام المنتصرون الجدد بنفي العماليق صوب الشام، وهؤلاء سوف يلتحقون بالفرع الناجي من عاد: اللودية (وهم في التوراة اللوديم أو بني لاود) أولئك الذين أمكن لهم أن يكونوا في عداد شعب جديد هو ثمود خليفة عاد ووارثها.
من الناحية الجغرافية، يقع الموطن التاريخي القديم لشعب عاد بين حضرموت وعمان، في منطقة تتسم بطابع فريد. فإلى جانب قربهم من بحر العرب وإطلالتهم على ساحل طويل، فإن سلسلة الجبال البركانية التي تحيط بموطنهم (والتي كان لإنفجاراتها الأثر المدمر في فنائهم وهجرتهم) تشكل مع صحراء الربع الخالي (منطقة الأحقاف الأسطورية) فضاء داخلياً واسعاً يجمع بينهم وبين أقرب جيرانهم ثمود. وهذا ما لاحظه معظم الإخباريين في توصيفهم لموطن عاد، التي تلتقي مع (ثمود) برابطة أسرية وثقافية تجعل منهما شعباً واحداً. وبحسب الوصف القرآني الدقيق: فإن (مجتمع عاج تمتع طوال الوقت بـ (بصطة) في العيش ورخاء متواصلاً. وهناك ما يشبه الإجماع بين مختلف الرواة القدامى على أن كلاً من عاد وثمود ينتسب إلى جد أعلى مشترك هو ]إرم[ (الطبري، المسعودي، الفاكهي).
الأزمة الدينية العميقة والمستعصية تتمثل في رفض عاد دعوة النبي هود (الذي يحتفل بميلاده في اليمن حتى اليوم ليلة الخامس عشر من شعبان، وهي ليلة يحتفل بها المسلمون ظناً منهم أنا مناسبة من صميم الإسلام).
وإلى هذا كله، فإن القرآن الكريم أشار إلى هذه الأزمة بوضوح في سورة الأحقاف. وبحسب رواية المسعودي فإن حادث إنحباس المطر عن ممكلة عاد كان في عصر النبي هود، وهو عصر لا وجود له في المحفوظات التاريخية. ولكنه يمتلك حضوراً حقيقياً في المرويات العربية القديمة، التي نعتقد أنها، وبرغم تشبعها بالأسطورة، فإنها تقول التاريخ، وبالطبع وفقاً لشروط إنشائها الخاصة والرمزية. يتبقى هنا أن نتوقف عند دلالة كلمة (الوهم) في اسم الملك العادي وكما وردت في كتاب المسعودي. تعني كلمة ]الوهم[ في قواميس اللغة العربية: العظيم من الرجال. وهي ترد، غالباً، كتوصيف للإبل الذلول المنقادة مع (ضخم وقوة). والوهم كذلك الطريق الواسع (لسان العرب: مادة وهم).
في هذه الحالة يصح الإفتراض أن اسم الملك (الخلجان بن الوهم) هذا، ربما كان لقباً لا غسماً لملك بعينه، ونحن نعلم أن الكثير من ملوك العرب القدامى عرفوا بألقابهم لا بأسمائهم مثل: المكرب، المنذر، الحارث، النعمان، وفضلاً عن ذلك فإن الوهم بمعنى الضخم أمر يتلاءم وينسجم تماماً مع تصورات العرب عن شعب (عاد) بوصفه شعباً امتاز بالضخامة، وهي (حقيقة) شائعة لم نجد لها سنداً تاريخياً أو اركيولوجياً، ولكنها، مع ذلك، تعبر عن تصور له دلالة خاصة. إذ من الواضح أن الضخامة الأسطورية التي تحدث عنها سائر المؤرخين، مصممة لغرض تبرير دهشة العرب وذهولهم أمام (حضارة صخرية) كانت تنبثق أمام أعينهم في قلب الصحراء، ولذلك تخيلوا ]إرم[ كمدينة صحراوية مصنوعة من أحجار كريمة نادرة. ومن الطبيعي أن ينسب البدوي مدناً مثل تدمر وبعلبك والإسكندرية، مباشرة، للجن، لأنها بنظره من أعمال القوة والبطولة الخارقة. هذا في وقت كان فيه السومريون والبابليون ينسبون إلى جلجامش باني أوروك العظيمة قوة خارقة تجعل منه نصف إله.
من البين أن هذه الفكرة استمدت، ربما تحت تأثير مباشر، من بنية الاسم (عمليق) وما توحي به من عظمة جسمانية. وحتى في مثل هذه الحالة فإن العماليق يكونون قد أخذوا عن أخوالهم الصفة ذاتها لتظهر في اسم قبيلتهم. بيد أن الإشارة القرآنية الثمينة إلى أن ثمود كانت (تجوب الصخر بالواد) (سورة الفجر) تجعل من هذا الانطباع أمراً محتملاً تماماً، على الأقل في حدود ارتباط الضخامة الأسطورية ببناء مدينة إرم من حجارة وصخور مضاءة، نارية، كالياقوت والزبرجد. إن كلمة (جاب) الصخر تعني: قطعه. وعند مختلف مفسري القرآن (الإمام الزمخشري وكذلك الإمام الرازي) ـ مثلاً ـ يشار، عادة، إلى أن هؤلاء كانوا يبنون مساكنهم في الجبال من الصخور الضخمة العظيمة، وهذا يتلاءم مع كون كلمة (إرم) في معنى من معانيها العديدة تعني: الصخور.
لا ريب أن مسألة كون الجماعات البشرية في الجزيرة العربية القديمة، امتازت بطول وضخامة أجسامها، أمر قد لا تؤيده، إلا بشكل محدود للغاية، جملة المكتشفات الأركيولوجية وتنقيبات العلماء في مناطق شاسعة هناك، ولا حتى استكشافات الرحالة الأجانب لمنطقة الأحقاف (الربع الخالي) حيث موطن عاد وثمود، فالكهوف التي سكنوها لا تتناسب مع التصور الشائع. ومع ذلك فقد أيدت بحوث غلاسر (Glaser) أن عاداً وثموداً عرفتا طقوس الدفن (وقوفاً) تماماً كما سجلت ذلك المرويات القديمة، وطريقة الدفن هذه تشير إلى أنها ارتبطت، بالفعل، بضخامة أجسام الموتى. إن بعض شواهد ثمود الموجودة حتى اليوم قرب الحجاز والتي شاهدها الرسول الكريم (ص) أثناء حملة تبوك، حيث توقف عند بئر ماء لهم تحمل اسم ثمود وحرم على المسلمين الشرب منها لما هو معروف عن مصيرها، لا تكاد تؤيد ما ذهب إليه الإخباريون إلا بشكل محدود أيضاً. إننا نعلم أن الثموديين هاجروا من موطنهم القديم في اليمن حاملين معهم اسم الحجر نبي اليمن القديم، ليجعلوا منه اسماً لموطنهم الجديد في الشام (وكأن المصير التاريخي المأسوي لم يترك فيهم سوى أثر (الهجرة) الجماعية من مكان إلى آخر. وبطبيعة الحال فقد كان مع الثموديين بقايا عاد التي تلاشت عن المسرح باستثناء فرع منها هو اللودية.
كان هؤلاء هاجروا من الحجر القديمة، اليمنية، إلى الحجر الجديدة في الحجاز ثم الشام بوصفهم ممثلي الجيل الثاني من الإئتلاف القبلي الذي تعرض للعقاب السماوي، ليجسدوا ـ عبر الهجرة ـ تلك الطاقة المذهلة والإستثنائية، في مقاومة التلاشي عن المسرح التاريخي، ولينتقلوا إلى طور جديد من حياتهم كائتلاف قبلي منظم ومتنفذ يحل محل (عاد) الأولى، المعاقبة والهالكة، بل ويكون خليفتها ووارثها، والنص القرآني يقطع بصحة هذا التصور حين يؤكد أن ثمود كانوا خلفاء عاد.
سيعرف العرب ثموداً، من الآن فصاعداً، وحيث استقر الشعب الجديد في موطنه الشامي بأسماء عدة منها (عاد الثانية) التي لا يقصد بها إلا ثمود تحديداً، بل إن سائر الإخباريين القدماء (مثلاً: الطبري: 1) سيعرفون هذا الجيل من القبائل باسم ]الإرمانيين[ نسبة إلى جدهم الأعلى (المشترك) إرم. وهؤلاء، برأينا، هم الذين كانت السجلات الأشورية قد نشرت اسمهم على نطاق واسع في صيغة متداولة وشائعة هي صيغة Armanes (الإرمان) التي قرأها المستشرقون من وجهة نظرنا، بطريقة خاطئة حين قاموا بضبط الكلمة وفقاً للتوراة (آرام) وليخرجوا بصيغة شاعت بسرعة: ]الآراميون[ مع أن الضبط القرآني (إرم) يقول الحقيقة الكاملة وبوضح وصدق (إرم = إرمان).
إن سجلات نبو بلاسر الآشوري الذي خاض حروباً طاحنة معهم تشير إلى صيغة Armanes (الإرمان) وهو ما يتوافق تماماً مع النص القرآني والرواية الإخبارية العربية القديمة، ولا تشير البتة إلى الصيغة التوراتية. ولأننا نشتبه اشتباهاً قوياً وغير محدود بأن صيغة الاسم (إرم) الأصلية العربية القديمة التي قرأها المستشرقون انطلاقاً من الضبط التوراتي قد تعرضت للطمس والتشويه عبر إحلال صيغة مغايرة عنها، فإن المقصود بها، في النهاية، إنما هو أبناء إرم الجد الأعلى لعاد وثمود. هؤلاء الذين اعتقدنا خطأ إنهم زالوا نهائياً عن الوجود، مع أنهم تحولوا إلى طور جديد من حياتهم لا أكثر ولا أقل.
ولما كان العرب القدماء قد عرفوا هذه القبائل: رفد، آل ضد، عاد، العبود، إلخ. (الطبري: 1: 154) بـ (الأرمانيين) لا (الآراميين)، فمن المنطقي الزعم دون تردد أن القوة القبلية الجديدة التي ظهرت على المسرح التاريخي عام 1500 ق. م والتي يعرفها المستشرقون باسم (الآراميين) إنما هي، ببساطة: الإرميين، نظراً لغلبة اسم الجد الأعلى على اسمهم.
يلاحظ المسعودي (مروج: 2: 154) أن عاداً عرفت طوال حياتها عبادة القمر (وكانوا يعبدون القمر). وهذا صحيح تماماً من وجهة النظر الأركيولوجية. فهي عرفت إزدهاراً متواصلاً في عبادة آلهة قمرية بفضل الطابع الرعوي لمعتقداتها الدينية في الموطن الصحراوي القديم.
يدعم هذا التصور أن ثموداً واصلت عبادة إله عاد القديم المعروف باسم (أوام) الذي يعني بالعربية والحميرية: العطش، بوصفه إلهاً خاصاً بها.
ترى: هل يعيد اسم هذا الإله الثمودي (العادي) تذكيرنا بأسطورة العطش وبالوفد الذي جاء إلى مكة؟ ألم تكن الرحلة من الصحراء، العالم اللا عضوي، إلى مكة (المدينة المزدهرة) تعبيراً رمزياً مكثفاً عن التعطش الجماعي للعرب العاربة كي ينتقلوا إلى طور جديد، عبر الهجرة، من أطوار حياتهم التي كانت تقلباً مأسوياً ومتزاحماً بالمناكب، لا رحمة فيه، من أجل امتلاك المدينة؟
-----------------------------------------
المصدر : مجلة ابواب / العدد 20 / 1999
 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   ||  موسوعة السيرة والتاريخ