" هذا فراش النبي ، هذا الفراش الزوجي ، نبي
الاسلام ، لا أحب ان يجلس عليه مشرك ، حتى لو كان أبي"
ام حبيبة
هــي: رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس القريشية
الأموية.
أمها: صفية بنت أبي العاص الأموية.
أبوها: كان على رأس أعداء الرسول والرسالة، في حرب دائمة ضد رسول
الإسلام، ليُقبر الدين، الذي اختاره الله، واصطفاه له.
كانت رملة بنت عدو الإسلام ورسوله، زوجة لعبيد الله بن جحش الأسدي،
الذي دخل الإسلام، فأسلمت رملة معه، ولما كانت الهجرة الثانية إلى
الحبشة، هاجرت معه، وكانت حاملاً في ابنتها "حبيبة" التي كُنيت بها
فيما بعد، فكانت أول طفلة تولد في الهجرة.
لما علم أبو سفيان، بإسلام ابنته رملة، وهجرتها مع زوجها، استشاط
غضباً، فقد أعصابه، توعدها شراً، تمنى لو كانت أمامه ليقطع رأسها،
ويبقر بطنها، فكيف تؤمن ابنته بالدين الجديد، وهو يحارب رسوله،
ليمنع انتشاره.
عاشت رملة في دار الهجرة، تعيد شريط ذكريات الوطن، حيث الأهل الذين
فارقت، لتأمن على دينها ونفسها وابنتها، وزوجها عبيد الله بن جحش
الأسدي، الذي بدأ يعربد في دار الهجرة، وانخرط في سلك الفاسقين،
الفاسدين، وانتهز كارهو دين محمد، فرصة ضعفه أمام شهواته وملذاته،
فطالبوه باعتناق ديانتهم، وفي غمرة شهوة السكر ارتد ابن جحش الأسدي
عن الإسلام، الذي هاجر فراراً به من المشركين بمكة، واعتنق ما
يعتنق الأحباش، فزاده خمراً وسكراً، ليظل على ما هو عليه، ولا يفيق
من شهواته ونزواته، فيعود إلى الاسلام، ويرمي من جعلوه يصبأ،
فينحرهم إذا عاد إلى الإسلام، ولذلك ظلوا وراءه، ليظل في سكرهم
يعمه، معتقدين أنهم بمثل ما فعلوه مع هذا الصابىء، يوجهون ضربة إلى
رسول الإسلام، ويحذرون في نفس الوقت النجاشي، الذي تعاطف مع
الإسلام ورسوله والمسلمين، في الهجرتين.
ولكن أنّى للإسلام أن يتأثر بارتداد مثل بن جحش الأسدي، الذي ولدت
ابنته "حبيبة" وهو على دين الأحباش، فلم يفكر لحظة واحدة فيها،
لأنه كان مُغيّب العقل والقلب، تحت تأثير الخمر، الذي أسكر عقله
وأمات فؤاده. وشعرت رملة "أم حبيبة" بالمهانة، والذل، والعار، فهذا
هو الزوج الذي هاجر بإسلامه، يترك ما هاجر من أجله، وهذه هي ابنته
"حبيبة"، تولد لأب غائب عن الوعي، لا يدري ماذا يفعل، وزوجته
المسلمة تعاني فراق الأهل، الذين توعدوها بالقتل إن لم تصبا، وعلى
رأسهم أبوها أبو سفيان، ألدُّ أعداء الإسلام ورسوله.
لكن رملة "أم حبيبة" بنت عدو الله، زوجة المرتد، لم تعبأ بتهديد
أبيها، ولا زوجها السكران دائماً. وتمسكت بدينها، وراحت تصلي وتقرأ
ما تيسّر لها من القرآن، عسى الله، أن يفك أزمتها في الزوج
الصابىء، والأب المشرك.
وأغلقت باب دارها عليها، مع ابنتها الوليدة "حبيبة"، وعاشت مع
الله، تعبده دون سواه، فإذا ببابها يدق عليها، لتجد الطارق، جارية
من جواري نجاشي الحبشة، تحمل لها رسالة شفوية من النجاشي، فسمحت
لها بالدخول، وابتسمت الجارية، تقول لها الرسالة: "إن الملك يقول
لك: وكّلى من يزوجك من نبي العرب، فقد أرسل إليه ليخطبك منه".
ولم تفقد "أم حبيبة"، توازنها، بل أدركت أن رسول الله، أدرك ما
تعانيه من غربة بعد ارتداد ابن جحش، الذي جعلها تنطوي على نفسها،
هرباً من نظرات قد تكون شامتة، فيما آل إليه حالها، وهي التي هاجرت
بدينها معه، من سطوة أبيها زعيم المشركين، الذي آلى على نفسه، أن
ينتقم منها، مهما طالت المسافات بينه وبينها، ومهما طال الزمن على
خروجها لتعود إليه، فينفذ وعده ووعيده، في الابنة التي خرجت عنه،
ولم تصبا كما صبا الزوج الضعيف أمام الخمر.
شعرت "أم حبيبة" أن رسول الإسلام، بخطبته لها من النجاشي، قد انتصر
لها، عند الشامتين فيها بمكة، وفي دار الهجرة التي سجنت نفسها داخل
بيتها دون زائر أو سائل عنها من أهل الدار الذين غيّروا الزوج،
وأرادوا تغييرها ففشلوا، وارتدت شماتتهم إلى نحورهم وصدورهم، حينما
اجتمع المسلمون المهاجرون إلى النجاشي، وبينهم من وكلته في تزويجها
من رسول الإسلام، وهو "خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس"،
وتحدث النجاشي سعيداً بهذا الجمع، وبهذا التشريف الذي أعطاه له
رسول الله، فقال: إن رسول الله، قد كتب إلىّ أن أزوجه أم حبيبة بنت
أبي سفيان، فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله، وقد أصدقتها،
أربعمائة دينار. ودفع الدنانير بمهر رملة أم حبيبة، إلى الجالسين.
فقال خالد بن سعيد وكيل "أم حبيبة": لقد أجبت إلى ما دعا إليه،
وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وبارك الله لرسوله.
وأقام النجاشي وليمة، على شرف هذا الزواج الطيب، وقال: "من سنة
الأنبياء، إذا تزوجوا، أن يؤكل طعام على التزوج".
إذن، لم يكن زواج رسول الله من بنت أبي سفيان، من أجل نزوة أو
شهوة، كما يدعي كارهو الإسلام، من مستشرقين مأجورين، وغيرهم، فلم
تكن أم حبيبة جميلة، ولا بها من الأنوثة ما يدفع الرسول إلى الزواج
منها، ولم تكن بالقرب منه، ليتزوج منها ويدخل بها فور الزواج. لكنه
كان زواجاً على بعد آلاف الأميال، أكبره النجاشي، لأنه زواج، حقق
لأم حبيبة، خروجاً من المحنة التي وضعها فيها الزوج الصابىء، فكانت
تطوي ليلها بنهارها، وحيدة بدارها. فأراد الله أن يكافئها على
صبرها، محافظة على نفسها فيه، محافظة على روح الايمان بالله
ورسوله، دون أن تهتز لحظة واحدة. فأنقذها الله بهذا الزواج النبوي،
لتسير مرفوعة الرأس، بعد أن أمست أماً للمؤمنين، عشية عقد النكاح
على رسول الله بالتوكيل.
ولما علم أبو سفيان، بزواج إبنته "رملة" بالتوكيل، من رسول الله
الموجود بالمدينة، ومن ابنته الموجودة بالحبشة، ثار وهاج، وتوعد
ابنته بكل صنوف الشر والتعذيب، في اقرب فرصة يلقاها فيها، ولكن أنى
له أن يفعل ما يضر من ستدخل بيت النبوة ذات يوم قريب، لتنضم إلى
أمهات المؤمنين، غير هيابة بتهديد كاره الرسالة والرسول، حتى لو
كان هذا المهُدد أباها.
ومرت الشهور الطويلة، لتصل رملة بنت أبي سفيان، إلى المدينة حيث
الزوج الرسول، وتم الزواج بالنكاح، حيث دخلت أم حبيبة بيت النبي
معززة مكرمة، بزواج أنقذها في الهجرة، وأكرمها بالمدينة.
كانت "رملة"، تقترب من الأربعين، ولم تكن ذات جمال، لتغار منها
عائشة، لكنها كانت ذات شخصية قوية، لم تستطع ضرائرها، وعلى رأسهن
عائشة، أن يجعلنها قريبة منهن، فقد كان كل همها أن تعيش زوجاً
للرسول، تأخذ عنه، وتحفظ منه، لتكون على مستوى المسئولية كأم
للمؤمنين.
لكن كانت نقطة الضعف عند أم حبيبة، أن أباها ما زال عدواً لله
ورسوله، يعمل على حربه ليل نهار، ليوقف مدّ الرسالة.
كان حزنها على شرك كبير، حزناً لا يجاري، فكيف تكون زوج رسول الله،
وأبوها يحارب الزوج الرسول.
ولما نقض القرشيون عهد الحديبية، تأكد أن رسول الله لن يسكت على
غدرهم، فأرادوا أن يوقفوا تكوينه لقواته، التي ستزحف إلى مكة، تدمر
أصنامها، وراق لهم أن يبعثوا إلى محمد بوفد، يمد المعاهدة عشر
سنين. وتراجعوا عن الوفد، وآثروا أن يرسلوا سفيان بن حرب، باعتباره
زعيماً لهم، وابنته زوج رسول الله. ربما يصل معه إلى مد الهدنة كما
يرغبون، ويصل معه إلى حل يحفظون به ماء وجوههم التي ستهزم شر هزيمة
أمام محمد وقواته. ولم يملك أبو سفيان، إلا الموافقة على الاقتراح
بإيفاده مبعوثاً لهم، إلى رسول الإسلام.
وتحت جنح الليل، خرج عدو الإسلام ورسوله، أبو سفيان صخر بن حرب، من
مكة قاصداً المدينة، ولما دخل المدينة، قصد بيت ابنته رملة "أم
حبيبة"، فدخله، والتقى بابنته، التي ما رآها منذ أسلمت وهاجرت الى
الحبشة، واختارت زوج النبي في استقبال الأب المشرك عدو الزوج
الرسول، ولما وجد أنها أخذت لرؤيته، دعا نفسه إلى الجلوس، فقعد على
فراش النبي، وما كادت ابنته "رملة ترى ما فعل، حتى تحركت في سرعة
إلى فراش النبي، تسحبه من تحته لاهثة لا تدري ماذا تفعل ولا ماذا
تقول، لكنه لما راعه منها ذلك استفسر عما فعلت، فقالت في ثبات:
"هذا فراش رسول الله، وأنت رجل مشرك، فلم أحب أن تجلس عليه".
وحزن أبو سفيان، لموقف ابنته منه، وخرج من دارها، يجر حزنه وخيبته
وهزيمته، فالتقى بالنبي فلم يجبه، ومر على الصحابة يوسطهم عند
الرسول، ولكن لم يلق من أحد رداً يريحه، وكاد يقتل بالمدينة، لولا
نصيحة علي له، أن يقف بالمسجد ويجير الناس، ليخرج من المدينة حياً،
خائباً، خائفاً، مذعوراً، مما سيلاقيه قومه من هزيمة على أيدي محمد
ورجاله، حيث بدأ خروجهم في اتجاه مكة عازمين على الفتح الكبير، فقد
استعدوا للفتح، وراح أبو سفيان يتوارى في الطريق، إلى أن التقاه
العباس بن عبد المطلب. ومر العباس به وسط الرجال الزاحفين إلى
قريش، ورآه عمر بن الخطاب فكاد أن يقطع رأسه، لكنه ذهب إلى النبي
يستأذنه في ذلك، ولحق به العباس ليقول للرسول الكريم: "إني يا رسول
الله قد أجرته".
وقال الرسول للعباس: إذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فائتني
به".
وتأكد الزاحفون إلى مكة، أن الصباح سيأتي برقبة أبي سفيان، ولم ينم
أبو رملة زوج النبي؛ عدو الله ورسوله، بل بات مفتوح العينين، وهو
يعلم أنه انتهى، لأن محمدا لن يتركه في الصباح حياً، وراح يجتر ما
فعله ضد محمد والرسالة، وتأكدت نهايته.
ولما استيقظ الرجال صباحاً، جلس الرسول بين كبار المهاجرين
والأنصار، وجاء العباس بن عبد المطلب، بأبي سفيان إلى مجلس رسول
الله. فقال النبي هادئاً: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم
أنه لا إله إلاّ الله؟! وأني رسول الله؟!.
وأجاب أبو سفيان عن الشق الأول من التساؤل فقال. بأبي أنت وأمي، ما
أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره،
لقد أغنى شيئاً بعد.
وعن الشق الثاني قال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك، وأكرمك
وأوصلك، أما هذه، فوالله، إن في النفس منها حتى الآن شيئاً.
وأعلن أبو سفيان صخر بن حرب إسلامه.
وطلب العباس من رسول الله، شيئاً يدعّم أبا سفيان عند قومه، فقال
النبي: نعم.. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه عليه فهو
آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن.
وانتشر تكريم أبي سفيان في مكة، حيث نادى المنادى المبعوث من ابي
سفيان: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن".
وعلمت رملة بإسلام أبيها، التي كثيراً ما تضرعت به إلى الله لتمحى
نقطة ضعفها كأم للمؤمنين، فهتفت سعيدة: من دخل دار أبي فهو آمن. من
دخل دار أبي فهو آمن. وسجدت لله، تشكره أن منّ على أبيها بالإسلام.
وعاشت رملة بنت أبي سفيان، أم المؤمنين، معزّزة مكرمة، إلى أن
انتقلت إلى جوار الله، في العام الرابع والأربعين، حيث توارى
جثمانها في ثرى البقيع.
--------------------------------------
المصدر : قمم نسائية في الاسلام