" إن رأيتهم أن تطلقوا لها أسيرها ، وتردوا
عليها مالها ، فافعلوا"
محمد رسول الله
هي: زينب بنت محمد رسول الله إلى العالمين، كبرى بناته من خديجة
بنت خويلد.
زوجها: ابن خالتها هالة بنت خويلد.
وهو: أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف بن
قصى. الذي اشتهر بالأمانة في المعاملات التجارية التي كان يقوم
بها، راعيا للتجارة في رحلاته إلى الشام صيفاً وشتاءً.
لما حملت خديجة بنت خويلد، في بداية زواجها من محمد، كانت سعادتها
لا توصف، وهي التي تقدم بها العمر، وما كان المراقبون لهذا الزواج،
ينتظرون منه ولادة، فأرادت أن تقول للناس في مكة، انها ما زالت
ولودا، فأشركت مكة فرحتها، بهذا الحمل الطيب، فأولمت للفقراء
والمحتاجين، وبارك الجميع حملها.
ولما جاءت زينب، نحرت الذبائح، لمقدمها المبارك.
وأبقتها بين أحضانها، وأحضان أبيها الذي فرح بها، أطول فترة قبل أن
تسلمها لمرضعتها، كما كانت العادة آنذاك.
وعادت بعد الرضاعة، لتنمو وتكبر أمام والديها، تشرب منهما الحب
والوفاء، والصدق والأمانة.
وبدأت زينب تتقدم إلى عالم الأنوثة، وشُغل بها ابن خالتها أبو
العاص بن الربيع، وتمنى القرشيون، أن يزوجوا شبابهم من زينب بنت
محمد، لما كانت تتمتع به، من سمو في الأخلاق، وجمال في الخلق.
وخشى أبو العاص، أن يعود من إحدى رحلاته، ليجد زينب قد خطبت لغيره
فأسرّ إلى خالته خديجة، بحبه لزينب التي ملكت عليه نفسه، ويريدها
زوجة له.
وكانت زينب، تعتبره أخاً لها، فقد كان كثير الزيارة لبيت خالته
التي فطنت قبل أن يسرَ إليها بمطلبه، انه يهيم بها حباً، وأن زينب،
بدأت تأنس إليه.
ولما تأكدت خديجة، الأم، المحبة، أن الابنة زينب، قد بلغت، وشُغلت
بابن خالتها، وجلس يطلبها زوجة، أحالته إلى أبيها، وكان محمد يعرف
أن أبا العاص، يرغب زينب زوجة له، ومع ذلك تحدث إلى أمها، التي
تحدثت إليها، ووقف محمد، ليسمع موافقة ابنته على الزوج بن الخالة،
وسألها، فلم ترد، وسمع أمها تبارك الزواج، وتدعو لهما بالتوفيق،
فبارك هو أيضاً زواج أبو العاص من ابنته زينب.
وزُفت إليه، وعاشت معه، محبة، وفية، مخلصة، كأمها تماماً. وأنجبن
منه "علي" و "أمامة".
وجاء الوحي، إلى أبيها، يعلن باختيار الله له رسولاً ونبياً، وأسلم
بيت محمد، وانتظرت زينب زوجها المسافر، ليعلن إسلامه، لكنه عاد،
وظل على دين آبائه وأجداده، ومادت الأرض بابنة الرسول، الذي جاءته
الرسالة، ويرفضها، الزوج الحبيب، وراحت تحمسه ليدخل الإسلام، فقالت
له: لقد أسلم ابن عمك عثمان بن عفان، وأبو بكر، وعليّ بن أبي طالب،
وابن خالك الزبير بن العوام.
لكنه لم يستمع إليها، وتركها، وخرج، ليعود إليها، فتذكّره، فيقول
لها، لقد التقيت بأبيك في الكعبة ودعاني إلى الإسلام.
ولم يكمل أبو العاص زوج زينب أنه قبل الدعوة أو رفضها، لكنه قال
لها: والله ما أبوك عندي بمتهم، وليس أحبّ إليّ من ان أسلك معك يا
حبيبة في شعب واحد، لكني أكره أن يقال إن زوجك خذل قومه، وكفر بدين
آبائه، مرضاة لامرأته وحمية، فهلا قدّرت وعذرت؟
وخاب أمل الزوجة المحبة في دخول الزوج المحب، إلى دين أبيها، وقصّت
على أمها ما تعانيه، فدعتها إلى الصبر والتروي.
وتم حصار محمد وزوجه، وصحبه، في شعب أبي طالب، ليوقفوا مدّ الدعوة،
ولم تخرج زينب مع أبيها إلى الشعب.
ولما حدثت الهجرة الى المدينة، وصار للإسلام رجال كُثر، كانت قد
ماتت الأم خديجة، والزوجة المؤازرة للرسول والرسالة، ومات العم أبو
طالب.
وانتقلت بنات النبي إلى المدينة، وصرن بالقرب من الأب الرسول
المطارد، إلا زينب التي بقيت، ترقب التحرشات والتحركات
والاستعدادات لحرب ضد أبيها وانصاره، وخشيت أن يصاب الأب الرسول
بسوء، فهو مع الرجال في المدينة، مهما بلغ عددهم، كيف لهم مواجهة
هذا الكم الهائل من رجال قريش وزوجها أبو العاص منهم، وتحسرت لذلك.
وخاب ظن المشركين، حيث هزموا شر هزيمة في بدر، وأسروا، وكان من بين
الأسرى، زوج زينب بنت محمد، الذي أراد أهله أن يفدونه بمال كثير،
لكنها، قالت، سأفديه بأغلى من المال.
وكان النبي قد عرف بأسر صهره أبو العاص. ورآه وأخذه بعيداً، وقال:
استوصوا بالأسارى خيراً.
إلى أن جاء "عمر بن الربيع" ليفك أسر أخيه، بفداء أرسلته زوجه زينب
بنت محمد، وكان قلادة تملكها أمها خديجة، وأهدتها لها في عرسها،
فلما رآها، رسول الله، هاجت ذكرى الزوجة الراحلة في نفسه وتذاكر
أيامها الجميلة معه، ووقف صحب النبي أمام ذكرى الرسول وصمته، في
صمت وحزن، إلى أن قال في صوت حان:
"إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردّوا عليها مالها، فافعلوا".
"قالوا: نعم يا رسول الله".
وجىء إليه، بالزوج الأسير، وهمس له في أذنه، وتركه يرحل. فانطلق
إلى مكة، ليرى الزوجة الحبيبة، بنت رسول الله.
واستقبلته زينب بنت محمد، الزوجة المحبة، فاقبل على طفليه، وحيل
بينهما شيء، ما أدركته زينب، إلى أن قال لها أبو العاص:
"أباك طلب أن أردك إليه، لأن الإسلام فرّق بيني وبينك، وقد وعدته".
وسألته: هل ترافقني إلى دار الهجرة؟
قال: بل أصحبك إلى أن نصل إلى زيد بن حارثة، وصاحبه، على بعد
ثمانية أميال من مكة، لتذهبي معهما إلى أبيك بالمدينة.
ولما حان وقت رحيل زينب إلى أبيها، عزّ على "أبي العاص" لحظات
وداعها فأوكل لأخيه "كنانة بن الربيع" مهمة مرافقة زينب وطفليه
"علي وامامة"، إلى زيد بن حارثة وصاحبه.
وعرف المشركون بأمر رحيل بنت رسول الله، إلى المدينة، فاغتاظوا من
زوجها الذي سمح لها بالرحيل، وهب جماعة ممن لهم أسرى عند رسول
الله، واعترضوا طريق زينب وطفليها، يقوده شقيق الزوج، الذي راعه أن
وجد بعير زينب، يقفز بها في عصبية إثر نخسة قصد بها الناخسون، هياج
البعير، لتسقط راكبته، فتموت، فيؤلمون بموتها الأب الرسول، الذي
يكرهون ويحاربون.
وبالفعل سقطت زينب بنت محمد، من أعلى البعير، على الرمال الصخرية،
ففقدت حملها الذي كان يقترب من شهره الرابع.
وكان "هبار بن الأسود الأسدي" وزميل له، هما اللذان فعلا بالبعير،
ما قتل الجنين الذي تركه أبو العاص، في أحشاء زينب بنت محمد، وهاج
"كنانة" شقيق أبو العاص، لما فعله الآثمون بزوجة أخيه، وكاد أن
يقاتلهم، لولا أن جاءه "أبو سفيان" وهدأ من روعه، وأفهمه أن ما
يفعله خروج عن الجماعة التي تحارب محمداً ورسالته، وعد له القتلى
والجرحى، والأسرى، في المعركة التي واجهوا فيها محمداً، وانتصر
عليهم.
وعاد "كنانة" بزوجة أخيه زينب بنت محمد، إلى مكة، حيث كان الزوج،
حزيناً يتحسّر على ما حدث لحبيبة قلبه وروحه، فجلس بجوارها،
يمرضها، ويحاول إيقاف الدم الذي تنزف، إلى أن تماثلت قليلاً
للشفاء، فأخذها "كنانة" مرة أخرى تحت جنح الليل، إلى أن وصل بها
الى "زيد وصاحبه" بالمكان المحدد لهما.
واصطحبها زيد بن حارثة وصاحبه إلى رسول الله بالمدينة، الذي أهمّه
ما حدث لابنته، التي ظلت تعاني من أثر فقد الجنين بالحادث الأليم،
الذي آلم الأب الرسول، وأحزنه، أن تكون ابنته العزلاء، هدفاً،
لينتقم اعداؤه منه.
وعاشت زينب بنت محمد، بآلامها وأحزانها، مع طفليها، تجتر الأيام
الجميلة التي قضتها مع الزوج الحبيب، الذي أثر أن يظل على دين
آبائه وأجداده، مطيعاً لصهره رسول الله، في ألا يقرب زوجته، لأن
الإسلام فرّق بينهما، فهي مسلمة، وهو ما زال على دين آبائه
وأجداده. فازدادت حباً وشغفاً وشوقاً وحنيناً إليه. وازدادت
تقديراً واحتراماً وتوقيراً، للمحب المطيع الذي وعد الصهر النبي
ولم يخلف له وعداً. وراحت زينب بنت رسول الله، تبكي وتدعو الله أن
يهيىء قلب الزوج للإسلام، فيجتمع شمل الأسرة، ويعيش الطفلان مع
أبويهما، تحت مظلة الإسلام، حياة هانئة سعيدة، طيبة.
وما إن انتهت من دعواتها، حتى دخل عليها "أبو العاص" على أطراف
أصابعه، يريد أن يختبىء عندها، من مطاردة المسلمين له، بعد أن
حاصروه، وترك لهم ما كان معه من أموال، عاد بها من تجارته التي
انتهى منها، وكان راجعاً بأموال الناس إلى مكة.
فرحبت به بنت محمد رسول الله، أم عياله، وجلس يداعب علياً وأمامة،
وخرجت زينب إلى المسجد، حيث كان الأب الرسول، يصلي بالناس فجراً،
ونادت بكل ما عندها من صوت، وهي على باب المسجد:
"أيها الناس. إني أجرت أبا العاص بن الربيع".
وقال الرسول: هل سمعتم ما سمعت؟
قال المصلّون: نعم يا رسول الله.
فقال الأب الرسول: نحن نجير على المسلمين أدناهم، وقد أجرنا من
أجارت.
وخرج الأب إلى دار ابنته، فيلقاها في حال يرثى لها، فقالت له
باكية، متألمة، ذليلة، متضرعة:
"يا رسول الله، إن أبا العاص، إن قرُب فابن عم، وإن بعُد فأبو ولد،
وإني قد أجرته".
وتأثر الرسول المحب، الزوج، الأب لما عليه ابنته ولما عليه
أبو العاص، وقال لابنته:
"أكرمي مثواه. ولا يخلُصنَ إليك، فإنك لا تحلّين له".
وما إن تركهما الرسول، حتى قالت ابنته لأبي العاص، ولماذا لا تدخل
الإسلام يا أبا علي؟ فقال لها: لقد دعوني إليه، على أن أمتلك ما
أخذوا مني من أموال، فأبيت أن يبدأ إسلامي، بخيانة الأمانة، فالمال
ليس مالي.
وسكتت زينب بنت رسول الله، وقلبها يدعو الله أن يدخل أبو العاص
الإسلام.
وفي صباح اليوم، استدعى الرسول الكريم، زيد بن حارثة الذي كان على
رأس مهاجمي ومطاردي، ذلك الذي أجارته ابنته. واستدعى الرسول
الكريم، أبا العاص بن الربيع.
فقال الرسول لزيد، وأبي العاص يشهد ويسمع:
"إن هذا الرجل منا، حيث علمتم، وقد أصبتم له مالاً، فإن تحسنوا،
وتردوا عليه الذي له، فإنا نُحب ذلك، وإن أبيتم، فهو فيء الله الذي
أفاء عليكم، فانتم أحقُّ به".
فقال زيد ورجاله: بل نردُّه عليه يا رسول الله.
وجمع زيد بن حارثة، كل ما تحصل عليه مع رجاله، حتى أبي العاص بن
الربيع، وسلمه كل شيء بلا أي نقصان.
وحمل أبو العاص، أمواله، وأغراضه، وراح يودع رسول الله قبل رحيله،
فقال عنه الرسول: "حدثني فصدقني، ووعدني فوفّى لي".
وانطلق أبو العاص إلى مكة، وما إن حط رحاله، حتى التف الناس حوله،
سعداء، بعودته من تجارة رابحة، يسألونه عن أعدائهم المسلمين
بالمدينة.
ووقف أبو العاص، يعطي لكل صاحب حق، ماله، حتى ما عاد لأحد مال
عنده، فصاح فيهم بأعلى ما عنده من صوت قائلاً:
يا معشر قريش، هل بقى لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟!
قالوا: لا. لقد عهدناك أميناً. فجزاك الله خيراً.
وأجال أبو العاص، بعينيه فيهم في هدوء شديد، ثم قال رابط الجاش،
هادىء النفس:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، والله ما منعني
من الإسلام، إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن أكل أموالكم، فلما
أداها الله إليكم وفرغت منها، أسلمت.
ونزل إسلام أبي العاص بن الربيع، زوج زينب كبرى بنات رسول الله،
على عقول وقلوب الواقفين، كالسُّهم، تشق قلوبهم وعقولهم، فظلوا
واقفين كالخشب المسندة، واجمين، وكان الشهادتين، ألجمتا ألسنتهم،
فلم ينطق أحدهم بكلمة، فقد كانت صدمة لهم، أن يدخل أبو العاص
الإسلام، تاركاً دين آبائه واجداده.
وتركهم أبو العاص، يفيقون من هول الصدمة على مهل، وانطلق إلى
المدينة، حيث الصهر الرسول، والعيال والزوجة الحبيبة.
ودخل أبو العاص بن الربيع، المدينة يبايع رسول الإسلام، فسعد الناس
بإسلامه، وحمدت الزوجة الحبيبة، بنت رسول الله، ربها أن تقَبل
دعواتها ليسلم أبو العاص واستقبلت الزوج مع الأب الرسول، يعيد
الرجل إلى زوجه وعياله، فرحاً سعيداً.
وعاشت زينب بنت محمد رسول الله، في بيت الزوج المسلم المحب، تتجرع
السعادة معه، وكان الألم الذي أصابها من فقد جنينها يعاودها بين
الحين والآخر، إلى أن لفظت انفاسها في بداية العام الثامن للهجرة.
ودفنت في ثرى المدينة.
---------------------------------
المصدر : قمم نسائية في الاسلام