موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
السيرة والتاريخ

الشيخ عبد الله العلايلي
الثورة الأولى في تاريخ الاسلام

نظرا لتغير ظروف المجتمع بعد التوسع الذي حصل عند ضم العالم المفتوح الى الكيان الاسلامي وتدخل الاطماع الاموية التي استاثرت بامتيازات لم يسبق لها مثيل مما حفز المتضررين للثورة....
تبدو لنا الثورة حادثاً طبيعياً لطائفة المحرضات المجتمعة التي تؤدي كل منها إلى توليد حركة ذات صفة بعينها، فإذا اختلطت حركتها وتشابكت تشكلت الثورة على وجه طبيعي جداً.
لقد ماد المجتمع العربي تحت عوامل نفسية واجتماعية ميداناً شديداً وتطلع الشعب إلى الإصلاح الشامل، وبالأخص بعد أن استقل بالحكومة الحزب الأموي، ومال بها إلى الأرستقراطية وحكم الناس بسياسة اللامبالاة في الإدارة والأموال وشتى نواحي النظام.
أعلن الشعب الثورة لأن الأوضاع التي كانت تصلح لسياسة المجتمع يوم كان محدوداً ضيقاً، لم تَعُد تصلحُ له بعد أن أدخل تحت جناحيه أكثر العالم القديم، وهو مختلف العادات والتقاليد والتربيات. ولأن الطماعيّة أو الجشع تسلطت على كافة موارد الدولة في حكومة الحزب الأموي، حتى حَلوا كثيراً من الملكيات وجعلوها وقفاً عليهم، وهذا ما صرح به كبير من ولاتهم وهو سعيد بن العاص، فقد قال: "إنما هذا السواد، سواد العراق، بستان لقريش"، واستبدوا بالأموال استبداداً كبيراً. ولأنّ الفكرة الاجتماعية بلغت في الناس مبلغ النضوج تقريباً بتأثير نظم الأمم التي انتقلت إلى نظامهم، ويشير إلى هذا أن أكثر الثائرين من الجهات التي خضعت في يوم من الأيام لحكومات نظامية قديمة كمصر والعراق، ولأن الأخطاء السياسية للحكومات السابقة تجسمت في عهد عثمان فأخذ بها، من مثل سياسة الأموال التي وضعت في حكومة عُمر، فإن تمليك الأكرة والفلاحين الأرض التي كانوا يعملون فيها على نظام القنانة، وهو يجعلهم تابعين للأراضي في عهد الحكومات المقهورة، أدى إلى الفوضى من حيث إن الفاتح العربي لم يملك المالك الأول وحده، بل أوجد مالكاً جديداً هو الفلاح، وكان أولى أن يجعل هذا المالك الجديد الشريك هو المجاهد العربي. إنّ ما هرب منه عمر وقع فيه. هرب من تمليك العربي حتى لا يحرمَ المالك القديم، فيؤدي إلى الاضطراب، فوقع على أي حال فيما يماثله حيث أشرك مالكاً جديداً مع المالك القديم. وكان الأفضل، من وجهة النظر الاقتصادي، حيث حلت الملكيات بالفتح عنوةً، أن يشارك المجاهد العربي المالك القديم.
فثورة الشعب كانت نتيجة لرغبة أكيدة في الإصلاح، وهذه الثورة هي التي أوحت لعلي (ع) بنظام الإصلاح الذي ضمنه العهد إلى الأشتر. ومن هذا يظهر أن عهده المذكور لم يكن مرتجلا بل كان نتيجة التروي العميق والتمرس بنظم قديمة وجديدة.
إن الدين أكسب الأمة الحق في حكم نفسها و "أمرهم شورى بينهم". "وشاورهم في الأمر"، وفرض الطاعة للسلطة التنفيذية في حدود طاعة السلطة نفسها للقانون "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كُنتم تؤمنونَ باللهِ واليومِ الآخر، ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلا". والتنازع في الآية على وجهين: تنازع الأفراد على الحقوق، وتنازع الشعب مع السلطة الحاكمة التي عبر القرآن عنها بـ "أُولي الأمر" وحُكمها واحدٌ من ضرورة الرجوع إلى القانون المؤلف من القرآن وأقوال النبيّ وأفعاله، وبذلك خول الشعب، إذا كان الحق في جانبه، أن يأخذها بمقتضى قانون الجزاء السياسي، على ما هو مشروح في السنّة من انحلال البيعة وما يتبعها، كما يؤخذ الأفراد بمقتضى قانون الجزاء العدلي.
إذاً فالقانون الدستوري للإسلام أثبت حقوق الشعب، وأعطاه الحرية الواسعة للمحافظة على هذه الحقوق، والشعب اعتنق هذا القانون، فهو لا تمرُّ به سانحةٌ، تجاوز فيها السلطة غاية القانون، إلا احتج ورفع صوته مطالباً باحترام الدستور.
ولما جاء الدورُ لحكم الحزب الأموي، وتجاوز المبادىء المقرّرة، وخط لنفسه سياسة ليست مشتقة على أي وجه من حقوق الشعب، عارض الشعب واحتج وطلب الإصلاح، فأظهرت الهيئة الحاكمة قبولها، ولكن سرعان ما عادت إلى النكث والتجاوز، وعاد الشعب إلى الاحتجاج، وزاد في عُنفه إطلاق الخليفة أيدي حاشيته في المالية وإقطاعهم. ولكن الهيئة الحاكمة عادت فوعدت بتغيير الخطة السياسية ومنهاج الحكم، ولم تلبث حتى رجعت إلى سابقة أمرها. وهنا هدي الشعب إلى معلمين ثوريين نظموا مطالب الإصلاح أو عريضة الحق، فقرّرت الهيئة الحاكمة القبض على الزعماء، فقبض عليهم معاوية، وفيهم الأشتر، وأسلمهُم إلى القائم بأعمال حمص، فاضطهدهم وعاملهم بقسوة ثم عاد فأطلقهم. ولكن هؤلاء لم تخمد حركتهم الإصلاحية فعادوا يطالبون بالإصلاح ويتشبثون بمحاكمة مروان بن الحكم مستشار الخليفة الذي ثبت لهم أنه الوحيد الذي يتلاعب بمقدرات الحكم، فأبى الخليفة وتمسك به، وتحرجت الأمور سريعاً نتيجة اخطاء سياسية بليغة، وأعلن الشعب الثورة بزعامة الأشتر ووقعت الكارثة بمصرع الخليفة.
وتلافياً للأمور حتى لا تطغى الثورة وتشكل حركة زوبعية لا يعلم مداها، قرر الثوار وجوب تعيين الحاكم الأول (الخليفة) فانتخبوا علياً (ع) للخلافة، أو قل أكرهوه عليها. وقد فهم عليّ أن الظرف يقتضي أخذ الأمور بالحزم والشدة، لأن طلائع الفوضى بدأت تذر قرنها وتلعب من بعيد، وفي مثل هذا الظرف لا تنجح إلا حكومة الحزم، غير أن الناصحين ذوي النظر الضيق في طبائع النفوس والحركات الاجتماعية الكبيرة أشاروا عليه بالملاينة، وهذا هراء لم يصغ إليه الخليفة العبقري، فعمد إلى سياسة البطش والشدة، فضرب الخارجين يوم الجمل ضربة صاعقة، أخضعت العراق والحجاز واليمن، وأرهبت الشام. ولقد بات الحزب الأموي في مثل رهبة الظربان، ومعاوية لم يعد على ثقة بنفسه، ويدل على هذا الرعدة التي اخذته حتى مال إلى الاستسلام بدون قيد ولا شرط، كما يظهر من كتابه إلى المغيرة بن شعبة الذي قال فيه: "قد ظهر من رأي ابن أبي طالب ما كان يُقدم في وعده لك في طلحة والزبير فما الذي بقي من رأيه فينا".
وحركة علي (ع) السريعةُ في الانتقال من حرب البصرة إلى حرب الشام، ترينا موضع الإحاكم في خطته، فلم يترك لخصومه ظرفاً يتأشبون عليه فيه، كما لم يدع الجذوة المتقدة في نفوس جيشه تخمد، وعمل على استغلال أثر الرهبة التي أورثتها وقعة الجمل. وهذه الحركةُ السريعةُ واجبةٌ إذا درسناها على ضوء الفوضى حين تتملك النفوس، فإنه لا يثبت في هذا الغمار إلا الرجل المبادر الذي يسوس المتمردين للوهلة، كما فعل علي (ع)، ولكنه إنما أتي من جانب تسلط المزاج العقلي القبلي بطلعاته على نفوس جنده، وهذا يجعلهم نفعيين نفعية مطلقة، كما أن تضحياتهم لم تجر الى مغنم ينسيهم فداحتها، فلن يجروا إذاً إلى آخر الشوط بدون غُنم على أنه بمغارم كثيرة. وعليٌّ متشبع بقضايا الحق والعدل ووجوب الإصلاح من أقرب الطرق، فلم يخولهم شيئاً من أموال خصومهم ومحاربيهم.
وعليه فالثورة على عُثمان (رض) كانت نتيجة للنضج الاجتماعي، وكانت إصلاحية إلى حد كبير تقوم على فكرة بعينها، ولكن لأن فصولها تتالت مسرعة انتقلت إلى فوضى. والذي يدل على أنه قد كانت تعمل فيها أفكار، انكشافها عن نظريات جديدة من مثل نظرية الخوارج. إذاً فقد بقيت لها صفة الثورة إلى أن ابتدأ الصراعُ بين علي ومعاوية، ومن ثم انحرفت وأخذت صفة الفوضى، وهذه الصفة لها كانت تروق في عين معاوية فدفع الجزية إلى ملك الروم لإطالة الصراع، فإن من أولى نتائج المطاولة تمزيق الأعصاب وإنهاك الجُموع التي تميلُ معه إلى الاستسلام. وقد بقي هذا الشعور يتزايد في كل نفس إلى أن بلغ الغاية بوفاة علي (ع)، فلم يجد الحسنُ (ع) خطةً أضمن وأفضل من الاستسلام.
هذه هي الثورة الإسلامية الأولى، وكانت ثورة اجتماعيةً رفيعةً ساميةً، ثم هي لا تقل شأناً عن انبل الثورات الإصلاحية التي عرفها التاريخ. ولكن الحزب الأموي سَمّمها وانحرف بها إلى فوضى مهدمةٍ خطيرة.
ومهما كانت، ثورة أو فوضى، فقد بنت الدولة بناءً أقوى في الإدارة والنظام، لولا ما حفَلت به من دماء زكيةً عزيزٍ علينا طلُّها، ومصارع لم يزل لها في أعماق الذكرى جِراح وندوب.
-----------------------------
المصدر : مقدمات لفهم التأريخ العربي

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   ||  موسوعة السيرة والتاريخ