موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
السيرة والتاريخ

مدخلية اختصاص علي بالمعرفة القرآنية
محمد باقر الصدر

من الملاحظ أن هناك علاقة وارتباطاً من نوع خاص بين علي (عليه السلام ) والقرآن الكريم, نشأت هذه العلاقة ,ونمت، وتطورت حتى انتهت- على حد تعبير الرسول الأعظم (صلى
اله عليه وآله)- إلى أًن: "القرآن مع علي، وعلي مع القرآن، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض...". وكذلك انتهت أيضا إلى أن علياً
سيقاتل على تاويل القرآن كما كان قد قاتل على تنزيله ، فما هي
مدخلية ذلك في عملية الإعداد الفكري والتربوي لخلافة علي؟
نستطيع ان نؤكد أولاً اًن الرسول القائد صلوات الله وسلامه
عليه نفسه قد قام بتنمية وترسيخ مثل هذه العلاقه، وبأمر من الله تعالى كما كان حدث دائما. ويظهرأن هدفاً كبيراً يلزم الوصول إليه عبر تلك الإجراءات والخطوات العلمية والعملية.
ونستطيع أن نبين ذلك الهدف. في ضوء الملاحظات الآتية:
أولاً: إن منطق الشريعة الخالدة الكاملة يقتضي تأمين الوصول الى فهم القرآن ومعرفة تفسيره وفقهِ أحكامه، بصفته المصدرالأساس لهذه الشريعة الخالدة وإن تحكيم القرآن في البلاد والعباد هو ما أمرنا الله تعالى به، إذ جاء فيه: ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون). ومقتضاه ان نحتكم الى القوآن في كل صغيرة وكبيرة. وأن نكفر بحكم الجاهلية الذي هو حكم الأهواء. كما نهانا الله تعالى أيضاً أن نتحاكم الى الطاغوت , فقال: ( ألم تر الى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا ان يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً).
وقد جعل القرآن الكريم هنا اختيار الحاكم إلى غير ما انزل الله وإلى غير رسول الله (ص) تحاكماً إلى الشيطان الذي يسير بهم الى الضلال حتماً، ثم أكد القرآن الكريم أن الاحتكام الى غير ما انزل الله هو فسق وظلم وكفر ,قال تعالى (... ومن يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الفاسقون) (المائدة /47 ) وقال تعالى: (... ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (المائدة /45 ).وقال تعالى (... ومن لم يحكم بمآ انزل الله فاولئك هم الكافرون) ( المائدة / 44 ). وقد بعث نبينا محمد (ص) لإمحاء صفحة الظلم والفسق والكفر.
إذن فبحسب منطق القرآن,يكون عدم الرجوع الى أحكام القرآن التي أنزلها الله تعالى,يعني الاحتكام الى الطاغوت,وعليه فإذا كان ذلك أي الرجوع الى أحكام القرآن.أمراً إلهياً,وارادة ربانية,وإذا كان ذلك يتطلب بالضرورة الوصول الى حكم الله تعالى الذي أنزله في القرآن الكريم,فلا بد من افتراض من هو مؤهل ومعد إعداداً أميناً لتحقيق ذلك الأمر الإلهي,وتلك الإرادة الربانية,وليس ذلك بالضرورة إلا رسول الله (ص) أو من هو منه يؤدي عنه,ويبلغ عنه,ومؤهل مثله,ومعد لذلك الغرض.
ثانياً:إن العلماء قد وقع بينهم الاختلاف الكثير,وقد حصل ذلك منذ وقت مبكر,بالأخص في الأقضية التي تهم الناس,وتتصل بحياتهم,وليس إلا بسبب عدم فقههم بالقرآن.
وقد تحدث الإمام علي عن هذه المسألة في معرض ذمه لمثل هذا الاختلاف مع وجود القرآن بين أظهرهم,فقال (عليه السلام):
"ترد على أحدهم القضية,في حكم من الأحكام,فيحكم فيها برأيه,ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره,فيحكم فيها بخلاف قوله,ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعاً,والههم واحد! ونبيهم واحد!أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه؟!أم نهاهم عنه فعصوه؟! أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على اتمامه؟! ام كانوا شركاء له فلهم ان يقولوا وعليه أن يرضى؟!أم أنزل ديناً تاماً فقصر الرسول (ص) عن تبليغه وأدائه,والله سبحانه وتعالى يقول: (...ما فرطنا في الكتاب من شيء) (الأنعام / 38),(....ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة...) (النحل/89),وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضاً وانه-أي القرآن –لااختلاف فيه فقال سبحانه (...ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) ( النساء/82 ).وإن القرآن ظاهره أنيق..." إذن بموجب هذا وبمقتضاه لابد من افتراض اعداد أحد مؤهل لفقه القرآن.
ثالثاً:إن اختصاص علي بالعلوم القرآنية,وبمعرفة القرآن ظاهره وباطنه محكمه ومتشابهه,خاصه وعامه,وإن قدرته الفذة على فهم آياته وفقه أحكامه,امر متسالم عليه عند علماء الصحابة وقد ساعدت النصوص النبوية,على تأكيده وبيانه أيضاً,ما أورده أصحاب التفسير والأثر عن علي (عليه السلام) ومن طرق اخرى:قال رسول الله (ص) :"ياعلي إن الله عز وجل امرني أن ادنيك واعلمك لتعي,وأنزلت هذه الآية (وتعيها أذن واعية) فأنت أذن واعية لعلمي..."
وقد جاء عن علي (عليه السلام ) أيضاً قوله:
"ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق,ولكن اخبرك عنه....إلا وإن فيه علم مايأتي,والحديث عن الماضي,ودواء دائكم,ونظم أمركم...".وهكذا يصرح الإمام علي ويؤكد بان هذا القرآن بما انطوى عليه من هذه المطالب الجليلة والمعاني بكل جوانبها,كل ذلك لايكون بمقدور أحد أن يصل اليه,أو يفقهه بكل جوانبها,والإ عن طريقه.وهكذا يتضح لدينا أنه ليس هناك أحد مؤهل لفقه القرآن ومعد لتحقيق الأمر الإلهي وتنفيذ الإرادة الربانية بإزالة الظلم والفسق والكفر غير علي بن أبي طالب حصراً.كما هو مقتضى النصوص والوقائع.وهو الافتراض المنطقي والمعقول جداً لتفسير الإجراءات العلمية والعملية التي اتخذها الرسول القائد (ص) بإفراد علي وتخصيصه دون غيره بالعلوم القرآنية والمعارف القرآنية والأحكام القرآنية كما صرحت النصوص المتواترة.
وأخيراً يقتضي الموقف أن نعالج تساؤلاً يثور بالضرورة,أو هو طالما اثير مراراً وهو :
إذا كانت كل تلك الإجراءات والخطوات العلمية والعملية قد اتخذت من أجل تولي علي بن أبي طالب الخلافة وقيادة المسيرة بعد الرسول الأعظم(ص) فلماذا لم يكن هناك عهد مكتوب بصورة جازمة قاطعة ليس فيه عذر لمعتذر ولاتأويل لمتأول؟!.
وجوابه :
إن النصوص التي أوردناها,والروايات المتضافرة التي تصرح ببيان الرسول الأعظم (ص) ولاية علي ووزارته,وخلافته,وإمرته من بعده,في مواقف لاتحصى كثرة,ومناسبات لاتعد مما لم يحظ به أمر ديني او دنيوي,ومما لم ينل من اهتمامه صلوات الله وسلامه عليه ماناله مثل هذا الأمر, حتى انتهى الى الإعلان الرسمي يوم الغدير المشهود,والى التصريح به مراراً,كما اشرنا إليه.فضلاً عما اقتضاه منطق الأشياء,ومنطق الشريعة الخالدة الكاملة,إن ذلك كله فيه الكفاية لمن أراد الرسول القائد (ص) أن يختصر على الأمة المعاناة,وان يكرمها بألطاف العناية الربانية فيجنبها العثرات وأسباب الضلال فقال صلوات الله وسلامه عليه وهو على فراش مرضه وفي آخر ساعات حياته الشريفة :"هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً...."وقد كان عنده جمع من كبار الصحابة,نعم أراد أن يكون ذلك عهداً مكتوباً يشهده جمعهم,إلا أن الرزية قد حدثت- على حد تعبير ابن عباس- عندما حيل بين النبي الأكرم وبين كتابة الكتاب على مااخرجه البخاري قال:
" لما اشتد بالنبي وجعه قال:ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لاتضوا بعده.قال عمر:إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا.فاختلفوا وكثر اللغط.قال – أي النبي – قوموا عني ولاينبغي عندي التنازع.فخرج ابن عباس يقول:الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه..."
ولعل من المناسب أن نذكر هنا محاورة رواها ابن عباس جرت بينه وبين عمر الخطاب في أوائل عهده بالخلافة ,وملخصها أن عمر قال له:"ياعبد الله عليك دماء البدن إن كتمتها..هل بقي في نفس علي شيء من أمر الخلافة؟قلت :نعم,قال :أيزعم أن رسول الله نص عليه؟قلت :نعم,فقال عمر,لقد كان في رسول الله من أمره ذروة من قول,لايثبت حجة,ولايقطع عذراً...ولقد اراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك اشفاقاً وحيطة على الاسلام...فعلم رسول الله مافي نفسي فامسكز..."وسواء صحت أم لا,فإن هناك مايؤيد هذا المسعى من الخليفة عمر في أكثر من مناسبة لاحقاً,وقد صرح مرة كما نقل الطبري عنه:"إن قومكم يكرهون أن تجتمع فيكم – والخطاب لابن عباس أيضاً – النبوة والخلافة...".
والظاهر أن ترك رسول الله (ص) للكتابة والعهد المذكور قد لايكون لاعتبارين والله العالم:
الأول: هو وقوع الاختلاف والتنازع واللغط في الدار عند إرادة كتابة الكتاب – العهد – الى الحد الذي وصل الى اتهامه صلوات الله وسلامه عليه بأنه يهجر – كما في رواية أو غلبه الوجع كما في رواية أخرى – وهذا اتهام خطير يمس أصل النبوة وصدق الرسالة.ثم إن الأمور قد كان بينه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه مراراً وكراراً كما وضحنا.فليبق إذن الاختيار,ولتبق القضية للامتحان والابتلاء.
الثاني:إن النبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه قد اتخذ احتياطاً لمثل هذه الحالة الطارئة,إذ قد جهز جيش أسامة بن زيد,وأمر بانفاذه على كل حال,وقد بلغ من حرصه صلوات الله وسلامه عليه على انفاذه مبلغاً عظيماً,إذ تذكر الروايات أن الرسول الأعظم مع بدء مرضه واشتداده لم يكن يشغله شيء عن محاولة انفاذ جيش أسامة,وننقل من رواية ابن سعد في الطبقات مايثبت ذلك,فقد قال – بعد أن ذكر تجهيز جيش أسامة – لما كان يوم الاربعاء بدأ برسول الله المرض فحم..فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده ثم قال :اغز باسم الله وفي سبيل الله,فقاتل من كفر بالله..قال ابن سعد فخرج بلوائه معقوداً فدفعه الى بريدة بن الحصيب الأسلمي,وعسكر بالجرف- وهو موضع على ثلاثة أميال من المدينة – مع وجوه
المهاجرين والأنصار,فيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة...فتكلم قوم وقالوا:أيستعمل علينا هذا الغلام على المهاجرين الأوليين؟فغضب الرسول (ص) غضباً شديداً,فخرج وقد عصب على رأسه عصابة,فصعد المنبر,وقال:"أما بعد ايها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة,ولئن طعنتم في إمارة أسامة لقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله,وأيم الله إن كان للإمارة لخليقاً,وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة,إن كان لمن أحب من الناس الي,وانهما لمحلان لكل خير,فدخل بيته,وذلك يوم السبت لعشر خلوان من ربيع الأول..
وثقل على الرسول المرض,وجعل يقول:انفذوا بعث اسامة...".
ويظهر من كل تلك المواقف والكلمات وتطورات الأحداث أن الرسول الأعظم إنما أراد من جملة ماأراد:
1- ( تهيئة الأجواء الفكرية والنفسية من جهة تأمير أسامة على وجوه المهاجرين والنصار,فيكون قبوله سابقة لقبول تولي علي الإمرة والخلافة,فلايعترض معترض بكونه أصغر سناً من بعضهم.)
2- أراد أيضاً تهيئة الأجواء السياسية والأمنية وذلك بإبعاد عناصر المعارضة المحتملة,ليتولى علي بن أبي طالب مهام الخلافة التي كان رسول الله (ص) يتولى رعايتها والتخطيط والسهر من أجل بلوغها,كما توضح لنا ذلك.
ومع ذلك فقد جرت الأمور والأحداث على غير ماأراده رسول الله (ص),فقد أراد أن يختزل على الأمة المعاناة,وأراد أن يجنبها ويلات تجربة الخطأ والصواب,أراد أن تتمسك الأمة بالكتاب الكريم,وبالعترة الطاهرة لتسلم من التيه والضلال.
وهكذا ترك أمر (العهد القاطع الجازم المكتوب) لتظل الأمة عرضة للأمتحان في مثل هذه القضية الخطيرة,وكما جرت السنن الإلهية.فقد قال تعالى : (الم.أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون.ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين).(العنكبوت /1-3 ).
نعم أراد الله تعالى ذلك,كما أراد رسوله الكريم أن يكونوا إيمان من يؤمن منهم بمن ولاه عليهم,وجعله خليفة من بعده إيماناً راسخاً,واعتقادهم بأحقيته اعتقاداً عن تدبر,وتشيعهم له تشيعاً مخلصاً,حتى تستمر المسيرة في تنفيذ الإرادة الإلهية تحت قيادته المباركة,ويتحقق إزالة الظلم والفسق والكفر من الوجود.
(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنكم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لايشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فاولئك هم الفاسقون) ( النور/55).
المصدر: نشأة التشيع والشيعة/تحقيق د.عبد الجبار شرارة.

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   ||  موسوعة السيرة والتاريخ