موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
السيرة والتاريخ

فاطمة المهاجرة

الجاهلية في كل عصر وجيل، مرض فكري وأخلاقي، يعبث بعقل الإنسان، ووعيه ونفسه، فيصده عن الحق، ويحرفه عن الاستقامة، ويحبب له العيش في مستنقع الرذيلة، والتحرك في صحارى التيه والظلام، لذلك فهو يعشو عن دعوة الحق، ويصم أذنيه عن سماع الهدى ..
وهكذا كانت قريش .. ولذا سعت وبكل جهدها لتتخلص من رسول الله (ص)، فائتمر قادة الجاهلية، وأئمة الشرك، وقرروا قتل رسول الله (ص) والتخلص منه، بعد أن يئسوا من إخماد صوته،وإطفاء أنوار دعوته ..
وشاء الله تعالى غير ذلك .. شاء الله تعالى أن يتم نوره، وينصر نبيه (ص)، ويظهر دعوته، فأمره بالهجرة .. والانتقال من أرض مكة إلى يثرب .. ولم يكن الانتقال من مكة والبحث عن أرض جديدة حادثاً أولدته مؤامرة القتل، بل كان رسول الله (ص) يمهد لذلك، ويبحث عن منطلق آخر لنشر دعوته، وبناء مجتمع الرسالة، فكان من قبل قد ذهب إلى الطائف، ولم يحظ أهلها ـ ثقيف ـ بنصرته، والاستجابة لدعوته، فردوه، ورفضوا تصديقه، وأساؤوا إليه، وأمروا عبيدهم وسفهاءهم أن يرموه بالحجارة، فأخرجوه بالسخرية والأذى من قريتهم، فتركهم رسول الله (ص) وخرج، ثم عاد إلى مكة، وكان رسول الله (ص) يتصل بالحجاج القادمين من قبائل العرب إلى مكة، ويعرض عليهم دعوته، وشاء الله تعالى أن تكون يثرب هي الناصر والمنطلق فيلتقي بأهلها، ويتجه نظره نحوها، ويزداد اهتمامه بها، ويواصل نشر دعوته فيها، فكان هذا الإعداد والبناء الرسالي في المدينة المنورة، هو الذي مكن الرسول (ص) من الانتقال إليها، عندما تآمرت قريش على قتله، فهاجر (ص) كما هاجر إبراهيم وموسى (ع) من قبل .. خرج رسول الله (ص) من مكة مستخفياً بظلام الليل، تاركاً وطنه وأحباءه وأهله، وفيهم فاطمة ابنته الحبيبة، وابن عمه علي بن أبي طالب (ع) عونه وسنده،وسيفه الضارب المقدام، وفدائيه الشجاع .. لقد ترك علياً نائماً في فراشه، وأوصاه أن يرد الأمانات التي كانت عنده ـ عند النبي ـ إلى أهلها .. ثم أمره أن يلتحق به، أن يهاجر إلى يثرب، ويصطحب معه أهل بيته .. وينفذ علي الوصية، ويشتري الركائب لحمل النسوة، ويجمع أهله وعياله، ويلتئم شمل الركب الهاشمي المهاجر بقيادة علي بن أبي طالب (ع)، فيضم الفواطم، فاطمة الزهراء بنت محمد (ص) وفاطمة بنت أسد بن هاشم، أم الإمام علي، ومربية رسول الله (ص)، وفاطمة بنت الزبير بن عبدالمطلب، وفاطمة بنت حمزة، والتحق بهم أيمن، وأبو واقد الليثي ..
ويخرج الركب، ويستحث المهاجرون السير، ويسوق أبو واقد المطايا سوقاً حثيثاً، مخافة أن تلحق قريش بالركب .. فينظر الإمام علي (ع) إلى النسوة، ويرفق بهن، فيقول لأبي واقد: ((إرفق بالنسوة يا أبا واقد)).
ويمضي الركب عبر صحراء الجزيرة يغذ السير، ويصحر في وضح النهار، بتحد واستهانة بكبرياء قريش وغرورها .. فإنه يستظل بسيف علي بن أبي طالب (ع)، قاهر الجاهلية، ومحطم أصنامها وصلفها، ولم يخرج علي (ع) بالركب، تحت جنح الظلام، أو في غفلة من رقابة قريش .. إنه خرج متحدياً لقريش، مستهيناً بخيلائها وعنتها، إنه يريد أن يضرب معنوياتها وكبرياءها بعزته الجهادية الفذة، ويضع الخطوة الأولى على طريق التحدي في مرحلة الصراع الجديدة التي بدأها رسول الله (ص) بقرار الهجرة .. وتحس قريش بالجرح عميقاً في قلب كبريائها، إن ابن أبي طالب تحدى إرهابها وقوتها وطغيانها، وخرج في وضح النهار .. ماذا يعني هذا الموقف من علي؟ ولماذا يخرج بهذه العلنية بركب أهل بيت النبوة .. ؟
أليس هو التحدي والاستهانة بقريش ومقاومتها وتصديها؟ إنه كذلك .. ، لذا فقد قررت قريش إرسال ثمانية من فرسانها لقتل علي (ع)، والتعرض لركب النبوة المهاجر، فيدركون علياً (ع)، والركب قرب ضجنان، ويأمر علي الرجلين اللذين كانا معه أن يبتعدا بالإبل ويعقلاها، ثم تقدم هو إلى النسوة فأنزلهن، ويستقبل العصابة بسيفه .. إنه يعرف لغة الجاهلية، ووسائل إرغامها، فيخاطبها بالذي تفهم، فيواجهونه بالكلمات الجارحة: أظننت يا غدار أنك ناج بالنسوة، ارجع، لا أباً لك، فقال علي (ع): فإن لم افعل؟ قالوا: لترجعن راغماً، ودنوا من المطايا ليثوروها، فحال علي (ع) بينهم وبينها، فأهوى له جناح فراغ عن ضربته، وضرب جناحاً على عاتقه فقدَّه نصفين، حتى دخل السيف إلى كتف فرسه، وشدَّ على أصحابه، وهو على قدميه شدة ضيغم وهو يقول:
خلوا سبيل الجاهد المجاهد
آليت لا أعبد غير الواحد
فتفرق القوم عنه، وقالوا أحبس نفسك عنا يا ابن أبي طالب، فقال لهم: ((إني منطلق إلى أخي وابن عمي رسول الله (ص)، فمن سرّه أفري لحمه، وأريق دمه، فليدن مني)).
وهكذا فرّت فرسان قريش، ولحقت بها أول هزيمة عسكرية يشبك فيها مسلم مع قريش، فهي أول معركة تتخذ طابع المواجهة القتالية المسلحة بين المؤمنين والمشركين ..
ثم التفت عليّ المنتصر إلى صاحبيه أيمن وأبي واقد، وقال لهما: أطلقا مطاياكم .. ثم واصل السير، حتى وصل ضجنان، فنزل فيها، ثم أقام يومه وليلته، فلحقت به أم أيمن، ونفر من المستضعفين وراح ركب عليّ وفاطمة الظافر يستحث الخطى، وشوقه إلى لقاء رسول الله (ص) أكثر سرعة وعجالة .. فرسول الله (ص) قد وصل يثرب وحل بقبا، فأقام فيها ينتظر وصول علي وفاطمة، ومَن صاحب الركب النبوي المهاجر، أقام بقبا وكان يقول لأبي بكر الذي طلب منه الدخول إلى المدينة: ((ما أنا بداخلها، حتى يقدم ابن عمي وابنتي)).
ويواصل علي سيره ليلاً، ويكمن نهاراً يواصل السير على قدميه، من دون أن يركب ظهراً، أو يستخدم دابة، فيطوي الأرض ما بين مكة والمدينة على قدميه، حتى تفطرت قدماه وتورمتا من شدة السير، ويصل الركب قبا، ويسرّ رسول الله (ص) بسلامة الوصول، ولقاء الأحبة، ثم يقول: ((أدع لي علياً، قيل لا يقدر أن يمشي، فأتاه النبي (ص) واعتنقه وبكى، رحمة به، لما بقدميه من الورم، وتفل في يديه، وأمرّهما على قدميه، فلم يشتكهما بعد حتى قتل)).
لقد عظم هذا الموقف في نفس رسول الله (ص) كما كان عظيماً عند الله سبحانه، فاستحق أن يخلد، وأن يكون نموذجاً وقدوة جهادية وعقائدية لأجيال المسلمين.
ومن هنا جاء تخليد الوحي له، ونزول القرآن فيه وصفاً وتعظيماً: ( .. فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقُتِلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله، والله عنده حسن الثواب).
إنه فك ارتباطه بالأرض، وهاجر إلى الله تعالى .. إنه قطع صلته بالديار وسار نحو الله تعالى .. إنه أعرض عن الأهل والعشيرة في أشد ظروف المحنة، وتجرد لتحمل الأذى والمشاق، والتعب والعناء في سبيل الله تعالى .. واستجابة لله تعالى وطلباً لمرضاته .. وطاعة لرسوله (ص).

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   ||  موسوعة السيرة والتاريخ