موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
السيرة والتاريخ

الملامح الشخصية للإمام الحسن (ع)

المتتبع لحياة الحسن السبط (ع)، وأخيه الحسين (ع) لابد أن يصل إلى حد القطع أنهما (ع) قد توافرت لهما من التربية والإنشاء الروحي والفكري ما لم يتسنَّ لسواهما بعد جدهما (ص) وأبيهما (ع)، فبصمات الوحي والإعداد الإلهي، صارا طابعاً مميزاً لشخصيتهما (ع) في شتى الملامح والعناصر والمنطلقات، فإنهما تلقيا أرقى ألوان التربية الإسلامية على يد جدهما الرسول (ص) وأبيهما علي (ع) وأمهما الزهراء (ع)، من خلال القدوة والتوجيه المباشر الحي، ولئن فقدا جدهما (ص) وأمهما في سن مبكرة، فإن الإمداد التربوي بقي هو هو، يتلقيانه في ظلال أبيهما علي بن أبي طالب (ع) تلميذ رسول الله (ص) وربيب مدرسة الوحي، التي تشع على الناس هدى ورحمةً.
وهكذا عايش الحسنان مرحلة الإعداد الإلهي وأُعِدّا لتحمل أعباء الدعوة لرسالة الله، بشكلها ومضمونها، فكانت ثمرة ذلك الإعداد الفذ، أن صار الحسنان إسلاماً يسير على الأرض.
وبما أن عناصر شخصيتي الإمامين لا تختلف بحال، لذا كانا نسخة واحدة من حيث السلوك والمسار والخطى والأهداف، حسب ما يحكم به الإسلام بالنظر إلى الواقع ... وإن طبيعة حديثنا يقتضي أن نسوق أمثلةً حية من نشاطات الإمام الحسن السبط (ع) الروحية والعلمية والخلقية:
1 ـ الجانب الروحي:
إن الإعداد الأصيل، الذي توفر للإمام السبط (ع)، قد وفر لكيانه الروحي سمواً شاهقاً، فكان تقربه إلى الله وانشداده إليه سبحانه أمراً يهز القلوب ويخشع له الوجدان.
وهذه إضمامة من هذه المظاهر التي تكشف هذا الجانب من شخصيته.
فعن الإمام الصادق (ع) قال: إن الحسن بن علي (ع) كان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم.
وورد في روضة الواعظين: إن الحسن (ع) كان إذا توضأ ارتعدت مفاصله واصفر لونه، فقيل له في ذلك، فقال: حق على كل مَن وقف بين يدي رب العرش، أن يصفر لونه وترتعد مفاصله ...
وعن الإمام الصادق (ع): إن الحسن بن علي (ع) حج خمساً وعشرين حجة ماشياً، وقاسم الله تعالى ماله مرتين .. وقيل ثلاث مرات.
وعن علي بن جذعان، وأبي نعيم في حلية الأولياء وطبقات ابن سعد: إن الحسن (ع) خرج من ماله مرتين، وقاسم الله ماله ثلاث مرات حتى أنه كان ليعطي نعلاً ويمسك نعلاً، ويعطي خفاً ويمسك خفاً ...
وكان إذا بلغ باب المسجد، يرفع رأسه وهو يقول: إلهي ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسيء فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم.
وكان (ع) إذا ذكر الموت بكى، وإذا ذكر القبر بكى وإذا ذكر القيامة والعرض على الله يشهق شهقة يغشى عليه منها.
وكان (ع) إذا قرأ القرآن ومر بآية فيها: (يا أيها الذين آمنوا ... ) قال: لبيك لبيك اللهم لبيك ...
2 ـ الجانب العلمي:
إذا كان العقل الحي المتفتح ركيزة أساسية من مرتكزات الشخصية الإسلامية، وإذا كان الرسول (ص) والأئمة الهداة من أهل البيت (ع) قد تسنموا قمة التسلسل في درجات الشخصية الإسلامية، باعتبار خضوعهم للإعداد الإلهي المباشر، في شتى عناصر الشخصية ومكوناتها.
أقول من خلال هذا التصور الدقيق، فإن الإمام السبط (ع) والهداة الميامين (ع)، قد توافر لهم من النشاط الفكري الرائد، وفي شتى مجالات الحياة، ما لم يتوافر لسواهم من البشر، دون الأنبياء (ع)، يعلل ذلك طبيعة التلقي الذي يتوافر للأئمة (ع) فالإمام (ع)، أما أن يتلقى العلم عن الرسول (ص) مباشرة، أو يتلقاه بالواسطة عن طريق إمام سابق عليه، وأما الأمور المستجدة في حياة البشر، فإن سمو الكيان الداخلي للإمام (ع)، وروحيته الفائقة، تؤهله للمعرفة عن طريق ذاتي، الأمر الذي دعا المتكلمين الإسلاميين أن يطلقوا على علم الإمام (ع)، من خلال هذه الزاوية، بالعلم الحضوري، حيث أن علمه بهذا الصدد لا يحتاج إلى بحث أو تعلم من آخرين، وإنما يتلقاه عن طريق الإلهام المباشر، والإلهام ليس وحياً كما هو معلوم.
وبمقدور أي منصف أن يدرك هذه الحقيقة، من خلال تتبعه لحياة الأئمة (ع)، الذين لم يحدثنا تاريخهم قط أن أمراً قد أشكل عليهم في أي باب من أبواب الجانب المعرفي، أو أنهم قد تعذرت عليهم الإجابة عن سؤال، أو استفسار أ إشكال سواء في أمر فكري أو تشريعي أو علمي أو نحو ذلك. ونذكر طرفاً من الجانب العلمي الذي روته سيرة الإمام الحسن (ع) كأمثلة على غزارة علم الإمام، أو اكتمال معرفته:
أ ـ كتب إليه الحسن البصري، يسأله عن القضاء والقدر:
فأجابه الإمام السبط (ع): ((أما بعد فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره، أن الله يعلمه فقد كفر، ومَن أحال المعاصي على الله فقد فجر، إن الله لم يطع مكرهاً، ولم يعصَ مغلوباً، ولم يهمل العباد سدى من المملكة، بل هو المالك، لما ملكم، والقادر على ما عليه أقدرهم، بل أمرهم تخييراً ونهاهم تحذيراً، فإن ائتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صاداً، وإن انتهوا إلى معصية فشاء أن يمن عليهم، بأن يحول بينهم وبينها فعل، وإن لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها جبراً ولا أُلزموها كرهاً، بل مَنَّ عليهم، بأن بصرهم وعرفهم، وحذرهم، وأمرهم ونهاهم، لا جبراً لهم على ما أمرهم به، فيكونوا كالملائكة، ولا جبراً لهم على ما نهاهم عنه، ولله الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين ... )).
وهكذا، وبعبارات وجيزة يوضح الإمام (ع) قضية هي من أكثر قضايا الفكر تعقيداً وعمقاً، حتى أنها لشدة عمقها ضل فيها الكثير من رجال الفكر، بل نشأت عنها تيارات متطرفة ـ كالأشاعرة والمعتزلة ـ حول التفسير العقائدي السليم والذي يكشف عنه قول الإمام، المعبر عن العمق والأصالة في الفهم والمعرفة الإسلامية ... الأمر الذي يُشعر بارتباط الإمام السبط (ع) بمنابع الرسالة الصافية وارتياده من مفاهيمها الأصيلة.
ب ـ قيل له: ما الزهد؟
قال: الرغبة في التقوى والزهادة في الدنيا.
قيل: فما الحلم؟
قال: كظم الغيظ وملك النفس.
قيل: ما السداد؟
قال: دفع المنكر بالمعروف.
قيل: فما الشرف؟
قال: اصطناع العشيرة وحمل الجريرة.
قيل: فما النجدة؟
قال: الذب عن الجار، والصبر في المواطن، والإقدام عند الكريهة.
قيل: فما المجد؟
قال: أن تعطي في الغرم، وأن تعفو عن الجرم.
قيل: فما المروءة؟
قال: حفظ الدين، وإعزاز النفس، ولين الكنف، وتعهد الصنيعة، وأداء الحقوق، والتحبب إلى الناس ...
ج ـ سأل رجل شامي الإمام السبط (ع):
كم بين الحق والباطل؟
قال (ع): أربعة أصابع، فما رأيت بعينك فهو الحق وقد تسمع بأذنك باطلاً كثيراً.
قال الشامي: كم بين الإيمان واليقين؟
قال السبط (ع): أربعة أصابع، الإيمان ما سمعناه، واليقين ما رأينه.
قال: كم بين السماء والأرض؟
قال (ع): دعوة المظلوم.
قال الشامي: كم بين المشرق والمغرب:
قال (ع): مسيرة يوم للشمس.
د ـ ومن تراثه الفكري الزاخر قوله (ع): ((أيها الناس إنه مَن نصح لله وأخذ قوله دليلاً هُدي للتي هي أقوم، ووفقه الله للرشاد وسدده للحسنى، فإن جار الله آمن محفوظ، وعدوه خائف مخذول، فاحترسوا من الله بكثرة الذكر، واخشوا الله بالتقوى، وتقربوا إلى الله بالطاعة، فإنه قريب مجيب، قال الله تبارك وتعالى: ( ... وإذا سألكَ عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) البقرة/ 186، فاستجيبوا لله، وآمنوا به، فإنه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعاظم، فإن رفعة الذين يعلمون عظمة الله أن يتواضعوا، والذين يعرفون ما جلال الله أن يتذللوا له، وسلامة الذين يعلمون ما قدرة الله أن يستسلموا له، ولا ينكروا أنفسهم بعد المعرفة، ولا يضلوا بعد الهدى، واعلموا علماً يقيناً أنكم لن تعرفوا التقى، حتى تعرفوا صفة الهدى ولن تمسكوا بميثاق الكتاب، حتى تعرفوا الذي نبذه، ولن تتلوا الكتاب حق تلاوته حتى تعرفوا الذي حرفه، فإذا عرفتم ذلك عرفتم البدع والتكلف، ورأيتم الفرية على الله والتحريف، ورأيتم كيف يهوى مَن يهوى، ولا يجهلنكم الذين لا يعلمون، والتمسوا ذلك عند أهله، فإنهم خاصة نور يستضاء بهم، وأئمة يقتدى بهم، بهم عيش العلم وموت الجهل، وهم الذين أخبركم حلمهم عن جهلهم، وحكم منطقهم عن صحتهم، وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه، وقد خلت لهم من الله سنة، ومضى فيهم من الله حكم، إن في ذلك لذكرى للذاكرين، واعقلوه إذا سمعتموه، عقل رعاية، ولا تعقلوه عقل رواية، فإن رواة الكتاب كثير، ورعاته قليل، والله المستعان)).
هـ ـ وسئل عن السياسة يوماً فأجاب (ع):
((هي أن ترعى حقوق الله وحقوق الأحياء، وحقوق الأموات، فأما حقوق الله: فأداء ما طلب، والاجتناب عما نهى. وأما حقوق الأحياء: فهي أن تقوم بواجبك نحو إخوانك، ولا تتأخر عن خدمة أمتك وأن تخلص لولي الأمر ما أخلص لأمته، وأن ترفع عقيرتك في وجهه إذا ما حاد عن الطريق السوي. أما حقوق الأموات: فهي أن تذكر خيراتهم وتتغاضى عن مساوئهم، فإن لهم رباً يحاسبهم)).
هذه نبذة من علومه وقبسات من أنوار معرفته وكمال عقله الذي حباه الله به، ذكرناها كنماذج من الإرث الفكري الزاخر الذي تركه الإمام السبط (ع) لأجيال الأمة الإسلامية بامتدادها التاريخي.
3 ـ الجانب الخُلُقي:
هذا الجانب من شخصية الإمام السبط (ع) حين نتناوله بالدراسة لم نكن لنقصد بحال أن الأئمة الهداة (ع) يتباينون في هذا الجانب أو سواه من عناصر الشخصية الإسلامية المثلى، فهم سواء في ذلك، وحين نسلط الضوء على الجانب الأخلاقي من شخصية الإمام الحسن السبط (ع) فإنما نعني بذلك عرض نماذج من أخلاقه وأسلوب تعامله مع الناس، وتمشياً مع خطتنا هذه نذكر طرفاً من أخلاقه المثلى، لكي تكون مثلاً يُحتذى ومنهجاً يُقتدى:
ـ تواضعه:
أ ـ روت كتب السيرة أنه (ع) مرّ على جماعة من الفقراء، قد وضعوا على وجه الأرض كسيرات من الخبز، كانوا قد التقطوها من الطريق، وهم يأكلون منها، دعوه لمشاركتهم في أكلها، فأجاب دعوتهم قائلاً: (إن الله لا يحب المتكبرين).
ولما فرغ من مشاركتهم، دعاهم لضيافته، فأغدق عليهم المال وأطعمهم وكساهم.
ب ـ وروي عنه أنه (ع) مرّ على صبية يتناولون طعاماً، فدعوه لمشاركتهم فأجاب الدعوة، ثم دعاهم إلى داره وأجزل لهم العطاء.
ج ـ وورد أنه كان جالساً في مكان، وعندما عزم على الانصراف، دخل المكان فقير، فحياه الإمام السبط (ع) ولاطفه، ثم قال له: ((إنك جلست على حين قيام منا، أفتأذن لي بالانصراف؟)).
فأجاب الرجل: نعم يا ابن رسول الله.
والحديث يكشف عن حسن المعاشرة بالإضافة إلى التواضع.
ـ إحسانه لمن أساء إليه:
أ ـ روي أنه وجد شاة له قد كسرت رجلها فقال لغلام ما:
ـ مَن فعل هذا؟
ـ أنا.
ـ لِمَ ذاك؟
ـ لأجلب لك الهم والغم.
فتبسم السبط (ع)، وقال له:
لأسرك.
فأعتقه وأجزل له العطاء.
ب ـ وروي أن شامياً ممن غذاهم معاوية بن أبي سفيان بالحقد على آل الرسول (ص)، رأى الإمام السبط راكباً، فجعل يلعنه!! والحسن (ع) لا يرد عليه، فلما فرغ الرجل، أقبل الإمام عليه ضاحكاً وقال:
((أيها الشيخ، أظنك غريباً، ولعلك شبهت؟ فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأن لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كبيراً)).
فلما سمع الرجل الشامي كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، كنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت وأبوك أحب خلق الله إليّ.
ثم استضافه الإمام (ع) حتى وقت رحيله، وقد تغيرت فكرته وعقيدته ومفاهيمه عن أهل البيت (ع) ...
ـ سخاؤه:
لعل أبرز صفات الإمام السبط (ع) وأكثرها جلاء من بين أخلاقه السامية: السخاء، فهدف المال لديه أن يكسو عرياناً، أو يغيث به ملهوفاً، أو يفي دين غارم، أو يرد به جوع جائع، وقد قيل له مرة: لأي شيء لا نراك ترد سائلاً؟
قال (ع): ((إني لله سائل، وفيه راغب، وأنا أستحي أن أكون سائلاً، وأرد سائلاً، وأن الله عوّدني عادة: أن يفيض نعمه عليّ، وعودته أن أفيض نعمه على الناس، فأخشى إن قطعت العادة أن يمنعني العادة)).
وهذه نماذج من كرمه السابغ:
جاءه أعرابي سائلاً، فقال: ((أعطوه ما في الخزانة)) وكان فيها عشرة آلاف درهم.
فقال له الأعرابي: يا سيدي، هلا تركتني أبوح بحاجتي وأنشر مدحتي!! وكأن الإمام (ع) يجيبه:

نحن أناس نوالنا خضل
يرتع فيه الرجاء والأمل
تجود قبل السؤال أنفسنا
خوفاً على ماء وجه مَن يسل
لو علم البحر فضل نائلنا
لغاض من بعد فيضه خجل

أشترى الإمام السبط (ع) بستاناً من الأنصار بأربعمائة ألف درهم، ثم بلغه أنهم احتاجوا إلى الناس، فرد البستان إليهم دون مقابل.
تلك هي بعض شمائل الإمام (ع) وبعض مواقفه السخية مع أبناء الأمة والتي كان لها أبعد الأثر في تجسيد الخلق الإسلامي الرفيع.
وإلى هنا أصبح بمقدرونا أن نكون فكرة واضحة عن عناصر شخصية الإمام السبط (ع)، باعتبارها، وشخصيات المعصومين (ع) من أرقى نماذج الشخصيات الإسلامية التي عرفها تاريخ هذا الكوكب بعد الأنبياء (ع).
وإنما سردنا بعض المواقف الواقعية والعملية لنلقم حجراً أعداء الإسلام الذين يزعمون أن الإسلام منهج نظري غير قابل للتطبيق.
 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   ||  موسوعة السيرة والتاريخ