موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
السيرة والتاريخ

عبد الله العروي
تنوع الاستفسار


من قتل جون دوو؟ سؤال يطرحه كولينجوود (ص 266). يتخيل قصة بوليسية ويرويها من أولها إلى آخرها ليستدلّ على أن المؤرخ المعاصر، العلمي في تعبيره، يتعامل مع شواهد الماضي تماماً كما يتعامل ضابط التحقيق مع الآثار المادية التي يخلّفها المجرم. لماذا تعطلت السيارة بعد أن تركها صاحبها على قارعة الطريق ليلة كاملة؟ سؤال يطرحه كارل همبل ويروح يحلل الحادث من كل جوانبه ليصل إلى النتيجة أن لا فرق بين علوم الطبيعة وعلم التاريخ فيما يتعلق بتعليل الواقعة المفردة (1965 ص 232). لماذا أجلى لويس الرابع عشر جنوده من هولندا في الوقت الذي كان عدوه غليوم أورنج يستعدّ للعبور إلى انجلترا ويتوج ملكاً عليها؟ سؤال يطرحه وليم دراي (غاردينر ص69) ويدرسه مطولاً بهدف تفنيد النظرية السابقة والتركيز على خصوصية طريقة التعليل المعتمدة لدى المؤرخين.
يُوهمنا كل واحد من هؤلاء أن سؤاله هو الأنموذج لكل الأسئلة التي يطرحها عادة المؤرخون. هل المؤرخ، حتى في عصرنا هذا، يسأل باستمرار (لِمَ) أمام كل حادث؟ وهل أسئلته تنحلّ كلها فعلاً في نمط واحد؟ سؤال همبل يطرح عادة على الخبير وهو متفرع عن سؤال كولينجوود، بمعنى أن الإجابة عنه لا تكفي في الغالب للكشف عن قاتل جون دوو، وهذا ما نسمع يومياً في المحاكم، وسؤال كولينجوود فرع من سؤال داري. لو اغتيل أمهر قائد في جيش الملك الفرنسي، وعكف المؤرخون على استقصاء السرّ في اغتياله وتوصلوا إلى نتيجة مقنعة، لبقي مع ذلك سؤال داري قائماً. نعرف من قتل يوليوس قيصر ومع ذلك ما زلنا إلى يومنا ننظر في الحدث لأننا نرى فيه جوانب أخرى. إن المنهجيين يفترضون أن جميع الأسئلة، مهما تباينت أشكالها، قابلة للاختزال في نمط واحد. هل الافتراض صحيح؟
لماذا اغتيل علي بن أبي طالب؟ لماذا فاز معاوية بالخلافة؟ لماذا انتصر أهل الشام على أهل العراق؟ هل هذه أسئلة متماثلة فعلاً بحيث أحدها يجزي عن الآخر؟ ما زلنا نسائل الطلبة بأمور مثل: لماذا قامت الثورة في فرنسا سنة 1789؟ لماذا انهزم نابوليون ؟ لماذا نجحت حركة البولشفيك؟ لماذا تأخر المسلمون؟ لماذا تفككت الامبراطورية العثمانية؟..، إلخ. أسئلة تقليدية، طرحت مباشرة عقب الحدث وما زلنا نرددها إلى الآن. تبدو طبيعية، لكن لو سألنا الطلبة عن أمور أخرى مثل: لماذا غادر الإنسان أفريقيا قبل مليوني سنة لينتشر على وجه البسيطة؟ لماذا تبلبلت الألسن؟ لماذا انفصلت القارة الأوروبية عن افريقيا؟ لماذا استبدل الحجر بالحديد؟ لماذا تغلّب التوحيد على الشرك؟ لماذا انتشر أسلوب الخط الملتوي في الرسم أواخر القرن التاسع عشر الميلادي؟ لو فعلنا ذلك لقال الطلبة: هذه أسئلة خارج المقرر أو إنها غير واضحة. لماذا تقبل تلك وترفض هذه؟ لأن الأولى تهم التاريخ السياسي، التاريخ الأسطوغرافي، حيث يكون الإنسان العاقل الواعي هو في آن واضع وموضوع الأحداث. خارج هذا الميدان المحدد لا يطرح الباحث تلقائياً السؤال (لِمَ)، ولئن طرحه ضمّنه معنى آخر. وفي حقل التاريخ السياسي نفسه نواجه مشكلة تعريف الحدث، أو العنونة. لو سألنا: من قتل الصليبيين؟ وأجاب الطالب: صلاح الدين الأيوبي، لكان الردّ صحيحاً من جهة وتافهاً من جهة لأن السؤال نفسه تافه، على الأقل في عبارته. لو قلنا: من أفشل الحملات الصليبية؟ وجاء الجواب: صلاح الدين، لكان السؤال أكثر دقة والجواب أقل مطابقة. الصليبيون، المسلمون، الثورة الفرنسية، الإمبراطورية العثمانية.. إلخ، هذه مفاهيم، مواضيع الأسئلة، على مستوى مختلف من التجريد. إذا كان الإشكال ضمن مفهوم الحدث فلا بد أن يكون أيضاً ضمن كل سؤال يطرح حوله. الجواب على (لماذا أغتيل يوليوس قيصر؟) لا يمكن أن يكون هو الجواب على (لماذا قامت الحرب الأهلية في روما؟) تحليل نوع واحد من الأسئلة يوضح في أحسن الأحوال ذلك النوع وحده دون أن يتعدّاه إلى نوع آخر. تتباين آراء المناطقة والمنهجيين لأنهم لا يتكلمون على السؤال نفسه، وفي غياب مشاركة المؤرخين المحترفين يطول النقاش بينهم (أي المناطقة) بدون فائدة.
وبعد كل هذه الملاحظات، هل يجيب المؤرخ عن الأسئلة التي يطرحها؟ هذا ما يتخيّله المناطقة. نكتشف قاتل جون دوو فنقفل الملف كما نتوقف عن التحري عندما نعرف أن السيارة تعطلت لأن درجة الحرارة انخفضت فجأة أثناء الليل، وأن لويس الرابع عشر أجلى قواته من هولندا لأنه كان مقتنعاً أن غليوم أورانج سيلقى معارضة عنيفة في انجلترا. قد يجيب المؤرخ بهذه الصيغة ولكن عن أسئلة فرعية وفي حدود معينة، أما السؤال الأصل، المضمن في العنوان، فغالباً ما يتبخر أثناء البحث حتى ليتساءل القارىء: وهل كان له أساس؟ لماذا قامت الثورة في فرنسا أواخر القرن الثامن عشر؟ نرجع إلى الدراسات التي تعتبر اليوم جدية وعميقة فنلاحظ أنها تختلف فكراً واسلوباً ولكنها توحي كلها بأن الغريب ليس أن الثورة قامت بل إنها لم تقم من قبل.
------------------------------------
المصدر : مفهوم التاريخ

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   ||  موسوعة السيرة والتاريخ